تكلمنا عن مفهوم الوحي مقالات سابقة، وعن الإيمان بالكتب السماوية والرسل، وفي هذه المرة نتأمل في حال المسلمين لنبرز العلاقة بين ترك الوحي وترك الآخرة.
إذا كان معنا العهد الأخير من الله، وإذا كنا نؤمن بجميع الديانات السماوية التي سبقتنا ونؤمن برسل الله أجمعين فما الذي حدث ؟
قال سبحانه ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾([1]). وقال تعالى : ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾([2])، وقال عز وجل : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾([3]).
فأراد الله أن يكون الدين الإسلامي هو الدين الخاتم شريعة، كما كان هو الدين الوحيد عقيدة، بالإضافة إلى اشتراك الدين الإسلامي في أصول العبادات والأوامر والنواهي مع جميع الشرائع السابقة له؛ فكل الكبائر التي حرمها الله في الأديان السابقة حرمها في الإسلام كقتل النفس، والزنا، وشهادة الزور ..... وكذلك أصول الشرائع والعبادات التي أمر بها في الأديان السابقة كالصلاة والزكاة أمر بها في الإسلام؛ وإنما كيفية الصلاة ومقدار الزكاة هو الذي يختلف باختلاف الشرائع.
فالإسلام هو الدين الذي اجتمعت فيه عقيدة الإسلام وشريعته، وأصول جميع الشرائع السابقة؛ ولذلك خاطب الله هذه الأمة بأنه أكمل لها الدين وأتم عليها النعمة ورضي لها الإسلام دينا، فدل ذلك على أن دين الإسلام هو دين هذه الأمة، كما أنه هو دين الأنبياء والرسل أجمعين عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾([4]). وقال عز وجل : ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾([5]). قال سبحانه: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾([6]). وقال تعالى : ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾([7]) وقال سبحانه حكاية عن بلقيس ملكة سبأ : ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([8]).
ففساد المسلمين فساد للأرض، وصلاحهم صلاح للأرض، وذلك لأن الإسلام هو خاتم الأديان، وسيدنا محمد ﷺ هو خاتم النبيين، وتلك الأمة التي آمنت بكل الأنبياء وبنبيها الخاتم هي آخر الأمم. فحملها الله مهمة الدعوة ونشر كلمته الأخيرة لجميع البشر، وحملها مهمة الإصلاح وإعمار الكون، يقول الله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾([9]). وقال سبحانه : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾([10]).
فأمة الإسلام هي الأمة الشاهدة، وهي الأمة التي تحملت تكاليف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فسد المسلمون وتركوا ما كلفهم الله به من مهام لإصلاح الأرض فسدت الأرض، ولقد فطن المسلمون الأوائل لهذه المهمة، وكانت تلك الصورة واضحة عندما بينها ربعي بن عامر t بكلمات قلائل حينما سأله رستم قائد الفرس : ما أنتم ؟ فأجابه بقوله : « نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام »([11]).
فترتب على المسئولية التي تحملها المسلمون والنور الذي منحه الله إياهم، تحديد وظيفتهم على الأرض، وهي إنقاذ البشرية، ونقلها إلى طريق الله وإخراجها من الظلمات إلى النور، فإذا ترك المسلمون وظيفتهم وفسدوا والعياذ بالله، فسد العالم تبعًا لهم؛ وذلك لأن معهم النور الذي سيضيء الطريق للناس، فإذا أظلموا وانطفأ النور الذي معهم فمن يضيء الطريق بعدهم، ولكن الله متم نوره، قال تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾([12]).
أين أمة الإسلام ؟ كان ينبغي أن نكون في أعلى قمة الهرم، فهي تمتلك الكنز الذي لا تنتهي عجائبه ولا يخلق عن ثرة الرد، ونحاول أن نتأمل في واقعة أيام عزة المسلمين وتفوقهم لنعلم مدى ابتعادنا عن مصدر عزتنا.
إنها واقعة «صاحب الحق» وصاحب الحق رجل لا نعرف اسمه، كان في إحدى المعارك مع الفرس، وقد رعف أن الغلول [وهي سرقة شيء من الغنائم] حرام، وأن كل ما وجد من مال فعليه أن يسلمه إلى القائد، وكان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وجاء الرجل وسلم علبة، هذه العلبة كانت فيها جوهرة التاج، وهي أعلى جوهرة في الأرض، تاج كسرى، وما أدراك ما كسرى حينئذ ؟ إيوان كسرى كان طوله أكثر من ثمانمائة متر، تدخل من أوله فتأخذك الهيبة، حتى إذا وصلت إلى عرشه سجد له المعظمون له، فمالكم بتاجه الذي على رأسه وجوهرته ؟
سلم الرجل الجوهرة إلى خيمة القائد، فتح سعد هذه العلبة فوجد فيها تلك الجوهرة النفيسة، وتعجب أن يكون أحد من البشر يرى هذا ولا يخفيه، فأمر بإحضار الرجل، فجاء الرجل وهو يقبض على ثيابه بيديه، وتعجب سعد المفترض أن يدخل فيسلم أو يصافح القائد، لكن الرجل كان منشغلا بثيابه البالية عن مصافحة سعد، فقال له سعد : أبيدك شيء ؟ قال : لا، إنما أنا أستر عورتي، يخاف أن يترك ثيابه حتى لا تظهر عورته.
فلماذا سلم هذا الرجل الفقير تلك الجوهرة الثمينة ؟ لأنه كان يتذكر الله رب العالمين، ويعلم أن فعله إنما هو جهاد في سبيله لا من أجل دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، ولا أرض يضمها إلى أرضه، ولا سلطان يتوخاه ويبتغيه، إنما هو الجهاد في سبيل الله، الذي عرف أنه ليس بينه وبين الجنة إلا أن يموت.
به وبإخوانه النبلاء فتحت الأرض على مراد الله؛ لأنهم أخرجوا الدنيا من قلوبهم، فما الذي حدث في زماننا ؟
حدث أمران : الأول : أننا قد تركنا الوحي. والثاني : أننا قد تركنا الآخرة.
وبتركنا للوحي والآخرة دخلنا في متاهة لا نعرف كيف نبدأ ولا كيف نسلك، ولا نعرف كيف نقوم الأفكار، ولا كيف ننتقد النظم، ولا كيف ننشئ المناهج، ولا كيف نربي أبنائنا، ولا كيف نتفاوض مع عدونا، ولا كيف نسيطر على حالنا، ولا نعرف شيئا مطلقا.
هل نحج أعداء أمتنا في جذبنا من الإيمان بالوحي إلى شهوات الدنيا التي ملأت القلوب، فهل نحن فعلا بدأنا بترك الوحي وما تضمنه وتركنا الآخرة ما دعا الله إليه فيها ؟ هل أصبحنا كفقراء اليهود فقدوا الدنيا والآخرة هل صدق فينا قوله تعالى : ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾ [الإسراء :45] ؟ هل نحن كمن قال الله فيهم : ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء :46] ؟
يبدو أننا في عزلة تامة عن القرآن الكريم نسمع أصواتا ولا ندرك أحكاما، نسمع التلاوة ولكننا لم نجعلها هداية نهتدي بها، لم نجعله منهج حياة، لم نبدء في بناء حضاراتنا من ذلك المنطلق البديع.
العقلية القائمة عند أعداءنا يعلمها الله، والرؤية الكلية للكون والإنسان والحياة وما قبل ذلك وما بعده يعلمها الله يقول تعالى : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ [الإسراء :47] فقوله [نحن أعلم بما يستمعون به] ولم يقل يستمعون إليه، إن هناك شيئا يستمعون من خلاله للقرآن، هو أن القرآن من عند محمد، وأنه صناعة بشرية، وأننا لا ينبغي أن نلتفت إليه ولا نقف عنده كثيرا، ولا نستهديه ولا نجعله دستور حياة.
هل صدر أعداءنا لنا تلك الرؤية فأصبحنا إذا صدقنا القرآن صدقناه على أنه إيمانا جملية لا يتحكم في مورد ولا يتحكم في مصدر ؟ يبدو ذلك. فانظر إلى قوله تعالى : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ﴾ [الإسراء :47 : 51]
إن الربط بين ترك الوحي وترك الآخرة إعجاز، فهذا الذي شهد به التاريخ الإسلامي، بدأ الناس بنسيان الآخرة، وصدقوها تصديقا باهتا، ثم بعد ذلك انحلوا من عقدة الوحي، وصدقوه تصديقا جمليا، ولم يجعلوا الآخرة هي الأساس وهي الحيوان [أي الحياتين] لم يجعلوها كذلك، بل جعلوها شيئا عابرا، والأمر ليس كذلك إذا استحضرت الآخرة ومعناها وما ذكره الله عنها في كتابه الكريم لا يمكن أن تقع في معصيته سبحانه، ولا يمكن أن يمتلئ قلبك إلا همة وإقبالا على الله، ولقد مهد نسيان الآخر الطريق لنسيان الوحي.
فلا سبيل لنا إلا الرجوع للإيمان بالآخرة وتذكرها دائما، والإيمان بالوحي وجعله منهجا للحياة ومعيارا للتقويم في كل شئون حياتنا ذلك قبل أن نتشابه مع الذين ذكرهم الله في كتابه فقال : ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان :27 : 31].
لا سبيل لنا إلا أن نحي الإيمان في قلوبنا، ولا تتحول العقائد إلى مفاهيم قائمة في الذهن، بل نريد أن تكون منطلقا للعمل، نريد أن يعيش المسلمون مستحضرين ربهم في حياتهم، منكشفة لهم الحقائق على وجهها، من كون هذه الحياة الدنية فانية، وأن أمر الله فينا هو العبادة والعمارة والتزكية، فلابد أن نعبد الله وأن نعمر الأرض، وأن نزكي النفس، ولا كذلك أن ندعو الناس إلى رب العالمين، ولا بد أن ندرك أن الله قد حل لنا حدودا وأمرنا بأوامر ونهانا عن نواه ينبغي أن نتقيد بها.
إذا تمكنا من ذلك جمع الله لنا سعادة الدارين وانتهى الفساد المستشري في أوساط الناس، نسأل الله السلامة والنجاة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.