مازلنا في هذا الحديث الجامع للخير، وكنا قد توقفنا عند قوله صلى الله عليه وسلم : «وصلاة الرجل من جوف الليل، قال ثم قرأ : ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع.... حتى بلغ يعملون» أي أن من أبواب الخير كذلك، صلاة الرجل أو المرأة طبعا في جوف الليل، أي في الوقت الفاضل من الليل ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السائل بتلك الآية التي تصف الصالحين الذين يحافظون على قيام الليل حيث قرأ قوله تعالى : ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة :16 ، 17].
والمضاجع جمع مضجع، وهي مصدر ميم يأتي للدلالة على المكان أو الزمان، فتعني مواضع النوم، أو أوقات النوم. والمعنى أن هؤلاء المؤمنين الأخيار من صفتهم أن تتنحى جنوبهم وتبتعد عن مواضع نومهم، وفي ذلك دلالة على ترك النوم لذكر الله، وهو ما يحدث في صلاة الليل.
وقد هيأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل لتحمل الوحي وأعباء الرسالة، فقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [ المزمل :1 : 5].
ووعد ربنا نبيه صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود بقيام الليل الذي افترضه عليه سبحانه وتعالى، فقال : ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا﴾ [الإسراء :79]
وقد ذكر الله صفات المؤمنين ومنها أنهم كانوا يبيتون لربهم في صلاة وذكر، فقال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان :63 : 64].
وربنا في كتابه يذكر أن قيام الليل كان من أسباب دخول المؤمنين الجنة، فقال تعالى : ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات :17 : 18].
وجعل الله سبحانه وتعالى قيام الليل من أسباب العلم به بالله والعلم بالحقائق، وقال تعالى : ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر :9].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل» [رواه مسلم]. وعد النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل من أسباب دخول الجنة فقال صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» [رواه الحاكم في مستدركه، وابن ماجه في سننه، والدرامي في سننه].
وقال صلى الله عليه وسلم : «عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد» [رواه أحمد والترمذي].
والليل هو الوقت الممتد من غروب الشمس حتى الفجر، وصلاة الليل هي الصلاة من بعد صلاة العشاء حتى الفجر سواء سبق هذه الصلاة نوم أو لم يسبقها نوم، وسواء كثر هذا الوقت أو قل، فلا يشترط أن يكون مستغرقا لأكثر الليل.
وجاء في مراقي الفلاح : معنى القيام أن يكون مشتغلا معظم الليل بطاعة، وقيل ساعة منه يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبح أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
أما التهجد فهو قيام ليل ولكن لابد أن يسبقه نوم، ويؤيد ذلك ما روي عن الحجاج بن عمرو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يحسب أحدكم إذا قام الليل يصلي حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما التهجد : المرء يصلي بعد رقدة» [رواه الطبراني في الأوسط والكبير].
ويختلف الوقت الفاضل في قيام الليل بحسب اختلاف تقسيم الليل، فمن قسم الليل إلى ستة أقسام، فإن أفضل وقت للقيام هو السدس الرابع والخامس، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما ويفطر يوما» [رواه البخاري ومسلم].
ومن قسمه إلى ثلاثة أثلاث فإن الثلث الأوسط هو الأفضل، وقيل الثلث الأخير لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
ومن قسم الليل إلى نصفين فالنصف الأخير هو الأفضل، إلا أن هذا الكلام لا ينبغي أن يجعل من يريد البدء بالمحافظة على قيام الليل أن يتحرى الأفضل وهو غير قادر عليه، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
فلا ينبغي للمسلم أن يشق على نفسه من العمل بما لا يطيقه، فيبدأ بالمحافظة بركعتين بعد صلاة العشاء بنية قيام الليل حتى يعتادها، ثم يمكن أن يجعل هاتين الركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يبدأ يزيد في عدد الركعات وهكذا حتى يعتاد على الوقت الفاضل، وعدد الركعات الأفضل.
وفيه عدد ركعات قيام الليل ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب أن يستفتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» [رواه مسلم] واختلفوا في أقصى عدد في ركعات قيام الليل، فذهب الحنفية إلى أن منتهى ركعاته ثماني ركعات، وعند المالكية عشر أو اثنا عشرة ركعة.
وذهب الشافعية أنه لا حصر لعدد ركعاته، واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر» [رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك]. وما ذهب الشافعية إليه هو ما نراه لعدم ورود النهي عن الزيادة عن الركعات الواردة، وعلى النقيض ورد الإذن بالزيادة في موضوع الصلاة.
بقي أمر آخر في موضوع صلاة الليل هو صلاة التراويح، وأريد هنا أن أنبه عن ظاهرة تحدث في رمضان في كل عام، وهي النزاع السنوي في شهر رمضان المبارك بين بعض المتشددين الذين يريدون حمل الناس على مذهبهم، والعوام الذين قد لا يجدوا من ينقذهم من هؤلاء، وسبب هذا الخلاف مسألة «عدد ركعات صلاة التراويح» فأصحاب الصوت العالي يُخَطِّئون الأئمة والأمة بأسرها على مدى القرون الماضية، وينكرون عليهم أيما إنكار ويتهمونهم بالابتداع، ويُحَرمون ما أحل الله؛ إذ قالوا : «لا يجوز الزيادة عن ثمان ركعات في صلاة التراويح».
بداية نريد أن نعرف ما هي التراويح، فالتراويح في اللغة : جمع الترويحة. يقول ابن منظور : « التَّرْويحةُ فـي شهر رمضان: سميِّت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أَربع ركعات؛ وفـي الـحديث : صلاة التراويح؛ لأَنهم كانوا يستريحون بـين كل تسلـيمتـين. و التراويح: جمع تَرْوِيحة، وهي الـمرة الواحدة من الراحة، تَفْعِيلة منها، مثل تسلـيمة من السَّلام» [لسان العرب لابن منظور 2/462].
وبمجرد التعريف اللغوي يتبين أن صلاة التراويح أكثر من ثمان ركعات، لأن الترويحة الواحدة بعد أربع ركعات، فلو كانت ترويحتين للزم أن يكون عدد الركعات اثنى عشر ركعة، والحق أن الأمة أجمعت على أن صلاة التراويح عشرون ركعة من غير الوتر، وثلاث وعشرون ركعة بالوتر، وهو معتمد المذاهب الفقهية الأربعة : الحنفية، والمالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة.
وهناك قول نقل عن المالكية خلاف المشهور أنها ست وثلاثون ركعة، ولم تعرف الأمة القول بأن صلاة التروايح ثمان ركعات إلا في هذا الزمن، وسبب وقوعهم في تلك المخالفة الفهم الخطأ للسنة النبوية، وعدم قدرتهم على الجمع بين الأحاديث، وعدم التفاتهم إلى الإجماع القولي والفعلي من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، فاستشهدوا بحديث عائشة رضي الله عنها؛ حيث قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى ثلاثًا. قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال « يا عائشة، إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي» [رواه البخاري ومسلم].
وهذا الحديث يصف كيفية أداء النبي صلى الله عليه وسلم لقيام الليل في رمضان وغير رمضان، ولم يتعرض إلى صلاة التراويح؛ إذ هي قيام ليل مخصوص بشهر رمضان، وهي سنة نبوية في أصلها عُمَرِيَّة في كيفيتها، بمعنى أن الأمة صارت على ما سنه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تجميع الناس على القيام في رمضان في جميع الليالي، وعلى عدد الركعات التي جمع الناس عليها علي أبي بن كعب رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول : «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ». [أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان واللفظ له].
والسؤال هنا هو : إن لم يكن مستند الأمة فعل سيدنا عمر رضي الله عنه، فلِمَ تؤدى التراويح في جماعة في المسجد على إمام واحد ؟ وكأن هؤلاء يأخذون من سنة سيدنا عمر رضي الله عنه جمع الناس على إمام طوال الشهر، وهو ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ويتركون عدد الركعات ويزعمون أنهم يطبقون سنة صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا صحيحًا، وأنتم لا تلفتون لفعل سيدنا عمر رضي الله عنه، فيجب عليكم أن تصلوا التراويح في البيت، وتتركوا الناس يطبقون دين الله بما ذهب إليه علماء الأمة وأئمتها.
وقد يقول قائل : وما الدليل على أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس على الصلاة بهذه الصفة وبالعدد المذكور من الركعات، فالأدلة على ذلك كثير منها ما رواه عبد الرحمن بن عبد القارى؛ أنه قال: «خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان، إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط ،فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل» .ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر : «نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» .يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله» [رواه البخاري].
وأن تلك الصلاة التي جمع عمر رضي الله عنه الناس عليها هي التراويح، وهي عشرون ركعة، دل على ذلك عدة أحاديث، منها ما رواه السائب بن يزيد رضي الله عنه؛ حيث قال : «كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة. قال: وكانوا يقرءون بالمئين، وكانوا يتوكؤن على عصيهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شده القيام». [رواه البيهقي في الكبرى، ومالك في الموطأ].
وعن يزيد بن رومان، قال : «كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة» [رواه البيهقي في الكبرى، ومالك في الموطأ].
واتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على ذلك، فذهب الحنفية إلى ذلك، قال السرخسي عن التراويح : « إنها عشرون ركعة سوى الوتر عندنا ،وقال مالك رحمه الله تعالى : السنة فيها ستة وثلاثون » [المبسوط للسرخسي 2/144]. وذكر الكاساني ما يؤكد ذلك؛ حيث قال : «وأما قدرها فعشرون ركعة في عشر تسليمات، في خمس ترويحات، كل تسليمتين ترويحة، وهذا قول عامة العلماء» [بدائع الصنائع 1/288].
ويعضد ذلك ما نقله العلامة ابن عابدين في حاشيته ؛حيث قال : « (قوله وهي عشرون ركعة) هو قول الجمهور، وعليه عمل الناس شرقًا وغربًا» [حاشية ابن عابدين 2/46].
وأما المالكية فالمشهور من مذهبهم ما يوافق الجمهور، قال العلامة الدردير : «(والتراويح) : برمضان (وهي عشرون ركعة) بعد صلاة العشاء، يسلم من كل ركعتين غير الشفع والوتر. (و) ندب (الختم فيها) : أي التراويح، بأن يقرأ كل ليلة جزءًا يفرقه على العشرين ركعة» [الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 1/404، 405].
وذكر العلامة النفراوي قوة مذهب الجمهور، وموافقة أتباع مالك له، والقول الآخر لمالك فقال : « (وكان السلف الصالح) وهم الصحابة (يقومون فيه) في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبأمره كما تقدم (في المساجد بعشرين ركع ) وهو اختيار أبي حنيفة والشافعي وأحمد، والعمل عليه الآن في سائر الأمصار. (ثم) بعد صلاة العشرين (يوترون بثلاث) من باب تغليب الأشرف لا أن الثلاث وتر؛ لأن الوتر ركعة واحدة كما مر، إلى أن قال .... (ستا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر) ... - إلى قوله - وهذا اختاره مالك في المدونة واستحسنه، وعليه عمل أهل المدينة، ورجح بعض أتباعه الأول الذي جمع عمر بن الخطاب الناس عليها لاستمرار العمل في جميع الأمصار عليه» [الفواكه الدواني 1/318، 319]. [يتبع]