ظاهرة العنف من المشكلات العصيبة التي يجب على المجتمعات البشرية مواجهتها والقضاء عليها في مهدها قبل بناء حضاراتهم، ولقد كثرت نصوص الكتاب والسنة في ترسيخ فضيلة التسامح والعفو للقضاء على العنف في دعوة حثيثة للمؤمنين للتخلق بها، ومن أمثلة تلك النصوص أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح؛ حيث قال: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [سورة الحجر:٨٥]، وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المؤمنين فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [سورة آل عمران:١٥٩]. وبيّن ربنا أن العفو وسيلة لتحصيل عفو الله ورحمته عن الإنسان فقال سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة النور:٢٢] وأثنى الله على العفو ومن يتخلق به فقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران:١٣٤]. وقال: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [سورة الشورى: ٤٣].
وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعفو والتسامح وجعلهما عنوانا لحضارة الإسلام، فلا حضارة بلا عفو ولا تقدم بلا تسامح.
وأشكال العفو والتسامح كثيرة، فأمرنا صلى الله عليه وسلم بصلة الأرحام، وعلى رأسها نجده يوجه الزوج فيقول: «خيركم خيركم لنسائه وبناته» (رواه البيهقي في الشعب) ووصفته السيدة عائشة رضي الله عنها: «أنه كان في مهنة أهله» (رواه البخاري) أي أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم بمساعدة الزوجة في مهامها، تعليمًا لأمته كيف يتعاملون داخل الأسرة، ويقول أنس بن مالك: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أفًا قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟) (رواه البخاري ومسلم) وأمر الزوجة بأن تجعل علاقتها مع زوجها علاقة ربانية، تطلب بها ثواب الله قبل كل شيء، وترجو منه سبحانه وتعالى أن يأجرها في الدنيا والآخرة على ما قد تصبر عليه، قال تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء:٣٤].
ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم الآباء كذلك فيقول: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا» (رواه الترمذي والحاكم في المستدرك)، ويوجه الأبناء إلى بر الوالدين الذي هو مكافئ التوحيد، فيقول فيما أُوحِى إليه: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء:٣٦]، ويأمر الجميع بحسن الجوار، فيقول: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه» (رواه البخاري) ويأمر بصلة الرحم مع فعل أوجه الخير، فقال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (أخرجه الحاكم في المستدرك)، وهو ما أُجمل في قول الله تعالى: (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:٧٧].
وحتى نقيم تلك النصوص الشرعية يجب أن نعمق في وجداننا قيمة العفو والتسامح، فهما وسيلة ناجحة في تحقيق الرفق والود والتعاون، التي بها نقضي على ظاهرة العنف الأسرى وهي ظاهرة شاعت في عصرنا، والمقصود بها ذلك العنف الذي يكتنف سلوك الزوج مع زوجته، وسلوك الزوجة مع زوجها، وسلوك كل من الوالدين مع الأبناء، وسلوك الأبناء مع كل من الوالدين، ومع إخوتهم فيما بينهم، ثم سلوك أفراد الأسرة مع الجيران، ومع الأقارب، وفي الحياة العامة، فهذه صور اكتنف العنف جلها أو اكتنفها كلها.
وعن الحكم الشرعي لهذه الظاهرة فهي تعد مخالفة -بكل المقاييس- للدين الإسلامي، سواء أكانت على المستوى الفردي، أم المستوى الجماعي، فقد أمرنا بالرفق في الأمر كله فيما بيننا، ففي الحديث الشريف «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (رواه البخاري ومسلم) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يكون الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (رواه مسلم) وقال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» (أحمد والبيهقي في الشعب).
هذه هي المنظومة الشرعية التي تقي من العنف الأسري على مستواه الفردي أو شيوعه الجماعي ومن ثم تساعد على بناء الحضارة وترسيخ جذورها على مبادئ التسامح والعفو.
إن عدم الاهتمام بتربية النشء على هذه المعاني، مع ما يضاف إليه من توتر الحياة المتمثل في الضجيج والضوضاء وسرعة حراك البرنامج اليومي للإنسان، ومجموع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الذي انعكس سلبًا على أعصابه، كل ذلك كان من الأسباب التي أدت إلى تفكك الأسرة، وإلى سوء الخلق، وإلى العنف الأسري، وإلى انهيار الحضارة حتى قبل بنائها.
ومن الأهمية بمكان أن يشمل برنامج بناء الحضارة ضرورة علاج هذه الظاهرة، بدءًا بعملية التربية، والتربية عملية مرتبة لها أبعادها، ولها أركانها، لا تقتصر فقط على التعليم ولا على التدريب، ولا تقتصر فقط على المدرسة، بل لابد من اشتراك الإعلام، وتكوين ثقافة سائدة للمجتمع تقيه هذه الظاهرة السلبية، وتدفع به إلى الأمن والاستقرار وإلى بناء الحضارة، عسى الله أن ينهي هذه الظاهرة من مجتمعنا، وجميع المجتمعات الإسلامية، ومن الأرض كلها إنه رءوف بعباده.