المؤسسة الدينية في مصر لها موقف واضح في تاريخها وحاضرها من أعداء الإسلام ومن أدعياء الإسلام، فأعداء الإسلام وهم من خارج أبنائه الذين يعادونه ويرفضون التعاون معه ويعملون على حربه وأذية أهله، وأدعياء الإسلام هم من المنتسبين إليه ولكنهم على قسمين المنافقين والمرجفين، وحذرنا الله سبحانه من هذه الطوائف الثلاثة.
وموقف المؤسسة الدينية يقوم على امتثال أمر الله ورسوله فيهم جميعا، وهذه الأسس نراها واضحة في المصادر التي يأخذ منها المسلمون دينهم، ونرى المعترض على المؤسسة الدينية يريدها أن تنتهج منهجاً آخر يراه من عاطفته أو انطباعه هو، أو من رغبته وأمنيته إن كان صادقا، أو من شهوته ومصلحته إن كان قد اختلط عليه الطريق.
1- فأول الأسس هو التأكد من المعلومات ووقوعها فعلا وفهمها فهماً جيداً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله كره لكم ثلاثاً : قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال) [البخاري] وقال عليه الصلاة والسلام : (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) [البخاري ومسلم] ويقول : (بئس مطية الرجل : زعموا) [أحمد وأبو داود] أي أسْوأ عادة للرجل أن يستخدم لفظة "زعموا" للتلميح عن غرضه، فينقل الأمر بدون تثبت، وكثرة تلك الأخبار التي تستخدم هذا المنهج تُكون العقلية الهشة التي لا تعتمد على الحقائق في التفكير، بل تعتمد على الإشاعات والأكاذيب والأهواء.
2- تتبع المؤسسة الدينية منهج التثبت من المعلومات الذي أكد عليه الإسلام، والذي عن طريقه نقل الدين إلينا، ويتم ذلك بخصال الحلم والأناة وحسن الخلق والعفو والصفح والحكمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس (إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم، والأناة) [مسلم]، وفي رواية الطبراني (يحبهما الله ورسوله) وهذا ما افتقده كثير من المعترضين على المؤسسة الدينية حيث يطالبونها بأن تبادر بعد كل هيعة وميعة، وأن تتبع الأخبار فتتفاعل مع صادقها وكاذبها، وهي لم تفعل هذا في حياتها الطويلة ولن تفعله إن شاء الله تعالى؛ لأن ذلك يذهب بجلالها ويخالف ما تعلمته من دين الله ويقول الله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة : 109 ، 110] ويقول سبحانه : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل :125] ويقول سبحانه : (لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) [البقرة :256] ويقول : (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة :8 ،9].
3- تبني المؤسسة الدينية أحكامها على فهم شامل للقرآن والسنة، وعلى فهم عميق لهما في ذات الوقت، والخروج عن الشمول أو العمق منهي عنه قال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة :85]، ويقول سبحانه : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران :71].
ولذا نراها تفرق بين مفهوم القتال ودستوره وبين القتل المحرم وإرجاف المرجفين، يقول تعالى : (وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) [البقرة :190] ويقول سبحانه : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء :93].
4- وهناك من يتذكر المؤسسة الدينية إذا أرادها لتعليق قصوره أو تقصيره عليها، وتاريخ المؤسسة الدينية أنها اختصت بحماية العبادة والدعوة والعلم الشرعي منذ عصر محمد علي، واستقل التعليم المدني بسيره دون تأثير من المؤسسة الدينية ونشأت الجامعات ابتداء من الجامعة الأهلية حتى صارت الجامعات المصرية اثنتا عشرة جامعة مستقلة بالمجلس الأعلى للجامعات، وجامعة الأزهر مستقلة في نفسها تتبع المجلس الأعلى للأزهر، ومع هذا ترى بعض دعاة العلمانية ينعون على المؤسسة الدينية فشلهم في تحويل الناس إلى فكر العلمانية الشاملة التي يريدونها، فصال الأمر مضحكاً يدعو إلى الأسف وإلى الشفقة، ونحن ننصح بأن يراجعوا أنفسهم وأن يدرسوا تاريخ الشعوب ومقتضيات الفطرة الإنسانية ومكانة الدين فيها، وأن يعلموا أن التجارب السابقة التي كانت أكثر جدة وأعمق تأثيرا مثل تركيا لم تخرج الناس من الدين، وأن فرنسا تراجع الآن مناهج تعليمها بعد فش العلمانية في تنحية الدين من حياة الناس والنتيجة أخرجت جيلاً يرثى لحاله، والرئيس (بوش) يدعو الآن لتدريس (التصميم الذكي للكون والحياة) وهي نظرية تشجع فكرة أن هناك قوة خفية تقف وراء التطور البشري وخلق الكون بجانب نظرية (التطور والنشوء والارتقاء) حيث قال ما نصه : (إن التلاميذ في المدارس ينبغي أن يتعلموا نظرية التصميم الذكي كنظرية منافسة للنشأة والتطور) [نقلا عن صحيفة الوشنطن بوست الأربعاء 3/8/2005]، وقد أثارت تصريحات بوش انتقادات حادة من جانب خصوم نظرية "التصميم الذكي" الذين يقولون إنه لا يوجد دليل علمي على تأييدها ولا يوجد أساس تربوي لتدريسها. ويقول الجانب الأكبر من العلماء في المؤسسة البحثية العلمية إن نظرية (التصميم الذكي) لم تختبر ولكنها مجرد مسعى يتم التسويق له ببراعة لإدخال التفكير الديني -خاصة المسيحي- في تفكير التلاميذ. نأمل من أولئك أن يقرأوا مصادرهم في الغرب ولا يقفوا عند ستينيات القرن العشرين.
5- لقد حمت المؤسسة الدينية العبادة بالإتباع لا الابتداع، وكان منهجها وسطيا قائماً على الحجة والبرهان، وأسس علمية رصينة في مجال التوثيق والفهم وأدوات منهجية، واهتمت بالدعوة وكانت الأسس هي الحكمة والموعظة الحسنة، واهتمت بالعلم وكان أسسها المنهج والعقلية العلمية لا الانطباع والخرافة، وهذه الثلاثة هي التي يحتاجها الناس في حياتهم : عبادة مخلصة، ودعوة نيرة وعلم نافع
6- وإذا كان هذا هو حال المؤسسة الدينية وفكرها، وأنه يمكن الاستفادة منها الاستفادة الأكمل، فنحن نعلم أننا في عالم لا يقف عند حد وأنه مستمر في سيره وتطوره وأننا نحتاج إلى العمل ليل نهار من أجل أن نثبت أقدامنا في هذا العالم، وحتى نستمر في أداء المهمة التي أوكلت إلينا، وأن وصفنا لواقع المؤسسة الدينية لا يعني أننا انتهينا من واجبنا وأننا أدينا ما علينا، بل الذي تعلمناه في تلك المؤسسة ومن مشايخها الكرام رحمهم الله، أن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، وأن الإنسان عليه أن يقوم بواجب الوقت وهو دائم ومستمر وأن (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) [مسلم] وأن طلب العلم والعمل من المهد إلى اللحد، ومع المحبرة إلى المقبرة، وإنما ما ذكرناه هو لتصحيح الصورة القاتمة التي تصدر عن كثير من الناس من غير علم ولا اطلاع على واقع أو حقيقة، والتي تشتمل على تحميل مسئولية دون إعطاء سلطة، بل مع التأكيد المستمر على نفي السلطة.
7- المأمول من المؤسسة الدينية أن تدخل في تقنيات العصر، ولقد بدأت في الدخول فعلاً ولكن هذا يحتاج إلى مال كثير وإلى جهد أكبر وإلى همة لا تتوقف ، وإلى تدريب مستمر على كل المستحدثات والمستجدات، وتحتاج من الجميع الالتفاف حول مرجعيتها التي كانت لها ولا زالت تقوم بها ولا ينبغي لمن أراد الاستفادة أن يؤخرها عن مكانها التي جعله الله لها.فاللهم أرشدنا إلى الصواب، ووفقنا إلى ما تحب وترضى.