يحتاج شرح حديث سيدنا معاذ الجامع للخير إلى مجلدات للإتيان على جميع معانيه، ونحن وصلنا إلى نهايات هذا الحديث عند قوله صلى الله عليه وسلم : «وذروة سنامه الجهاد .....»، وكنا قد تكلمنا في المقالة السابقة عن الجهاد، وكيف أن القتال الذي يضطر المسلمون لخوضه دفاعا عن حقهم وردا للظالم هو أنقى أنواع الحروب :
(1) من ناحية هدفه (2) من ناحية أسلوبه
(3) من ناحية شروطه وضوابطه (4) من ناحية انتهائه وإيقافه
(5) من ناحية ما ترتب عليه من نتائج.
وقد وضحت هذه الحقيقة من الناحيتين : التنظرية والتطبيقية :
فمن الناحية التنظرية : أولا : القرآن الكريم :
قال تعالى : ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفَُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة : 190 : 193]
وقوله تعالى : ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾ [النساء : 75]
وقوله : ﴿وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير [الأنفال : 39]
وقوله سبحانه : ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنفال : 61]
وقوله سبحانه وتعالى : ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج : 39، 40]
ومن الأحاديث النبوية :
عن النعمان بن مقرن «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا وقال اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال أيها أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وادعهم إلى الإسلام والتحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين وإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم انهم يكونوا كأعراب المسلمين يجري عليهم ما يجري على الأعراب ليس لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم وإذا حاصرت حصنا فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه واجعل لهم ذمتك وذمم أصحابك لأنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم أصحابكم خير من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلوهم ولكن انزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» [رواه الترمذي]
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» [رواه مسلم]
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «إني أريد الجهاد فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم، قال : ففيهما» [رواه عبد الرزاق في مصنفه].
ومن هذا يتبين أن أهداف الحرب في الإسلام :
- رد العدوان والدفاع عن النفس .
- تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها .
- المطالبة بالحقوق السليبة .
- نصرة الحق والعدل .
وأما شروط تلك الحرب فهي :
- النبل والوضوح في الوسيلة والهدف .
- لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين .
- إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين .
- المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التي تليق بالإنسان .
- المحافظة على البيئة ويدخل في ذلك النهي عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار، وإفساد الزروع والثمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت .
- المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم .
والآثار المترتبة عليها هي :
- تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية .
- إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس، وهو الشر الذي يؤدي إلى الإفساد في الأرض بعد إصلاحها .
- إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم .
- تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية .
- تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس في أوطناهم .
- أن مجموع تحركاته العسكرية نحو ثمانين غزوة وسارية وتجريدة وأن القتال الفعلي لم يحدث إلا في نحو سبع مرات فقط
- المحاربين كانوا كلهم من قبائل مضر أولاد عمه صلى الله عليه وسلم ولم يقاتل أحد من ربيعة ولا قحطان
- أن عدد القتلى من المسلمين في كل المعارك 139 ومن المشركين 112 ومجموعهم 251 وهو عدد القتلى من حوادث السيارات في مدينة متوسطة الحجم في عام واحد وبذلك يكون عدد القتلى في كل تحرك من تلك الثمانين 3.5 شخص وهذا أمر مضحك مع ما جبل عليه العرب من قوة الشكيمة والعناد في الحرب أن يكون ذلك سبب لدخولهم الإسلام وتغير دينهم.
- لقد انتشر الإسلام بعد ذلك بطريقة طبيعية لا دخل للسيف ولا القهر فيها وإنما إقامة العائلات بين المسلمين وغيرهم وعن طريق الهجرة المنتظمة من داخل الحجاز إلى أنحاء الأرض وهناك حقائق حول هذا الانتشار حيث يتبين أنه في المائة عام الأولى من الهجرة كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي ففي فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين فيها هي 5% وفي العراق 3% وفي سورية 2% وفي مصر 2% وفي الأندلس أقل من 1%
أما غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فقد اكتنفها حقائق
أما السنوات التي وصلت النسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي:ـ
إيران سنة 185 هـ ـ العراق سنة 225 هـ ـ سورية 275 هـ ـ مصر 275 هـ ـ الأندلس سنة 295هـ
والسنوات التي وصلت نسبتهم فيها إلى 50% من السكان كانت كالآتي :
بلاد فارس 235 هـ ـ والعراق 280 هـ ـ وسورية 330 هـ ـ ومصر 330هـ والأندلس 355 هـ
أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان كانت كالآتي
بلاد فارس 280 هـ ـ والعراق 320 هـ ـ وسورية 385 هـ ـ ومصر 385 هـ والأندلس سنة 400 هـ.
تميز هذا الانتشار أيضا بخصائص منها :
(أ) عدم إبادة الشعوب
(ب) معاملة العبيد معاملة راقية بعد تعليمهم وتدريبهم وتوليتهم الحكم في فترة اشتهرت في التاريخ الإسلامي بعصر المماليك.
(ج) الإبقاء على التعددية الدينية من يهود ونصارى ومجوس حيث نجد الهندوكية على ما هي عليه وأديان جنوب شرق آسيا كذلك
(د) إقرار الحرية الفكرية فلم يعهد أنهم نصبوا محاكم تفتيش لأي من أصحاب الآراء المخالفة
(هـ) ظل إقليم الحجاز مصدر الدعوة الإسلامية فقيرا حتى اكتشاف البترول في العصر الحديث.
إن هذه الحقائق ظلت باقية إلى يومنا هذا وعبر التاريخ وعلى العكس منها تعرض العالم الإسلامي للاستعمار ولإبادة الشعوب وتهجيرها ولمحاكم التفتيش والحروب الصليبية ولسرقة البشر من غرب إفريقيا وصناعة العبيد في أمريكا من ملف واسع كبير.
والغرض من ذكره المقارنة بين نقاء الإسلام والحروب عند غيرنا قديما وحديثا.