رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي فينا بسنته الشريفة، فما هي السنة ؟ وما حقيقتها ودلالتها ؟ وما مدى حجيتها ؟ السنة في اللغة: هي السيرة المتبعة, والطريقة المسلوكة, وهي الأنموذج الذي يحتذى والمثال الذي يقتدى. وتطلق هذه الكلمة أيضا بمعنى البيان حيث يقال سن الأمر أي بينه, وأيضا بمعنى ابتداء الأمر.
ويختلف مدلول السنة بين علماء الشريعة الإسلامية تبعا لنوع العلم الذي يتناول تعريفها، فقد كان تعريف السنة موضع اهتمام علوم الشريعة الإسلامية وخاصة، علم الحديث، وعلم الأصول، وعلم الفقه، وعلم العقيدة.
فعلماء الحديث يرون أن معنى السنة واسع يشمل: كل قول أو فعل أو إقرار، حقيقة أو حكمًا، وسيرة وصفة خَلقية وخُلقية حتى الحركات والسكنات في اليقظة والمنام، قبل البعثة وبعدها.
وعلماء الأصول يرون أنها ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
وعلماء الفقه يطلقون السنة ويريدون بها المندوب، أي غير الفريضة من الأعمال التي طلبها الشارع، إلا أنهم يفرقون بين المندوب والسنة، أن المندوب يشمل ما ندب إليه الشارع سواء ثبت في السنة أو من استقراء أصول الشريعة.
وعلماء العقيدة يطلقون السنة عند علماء العقيدة على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصول الدين, وما كان عليه من العلم والعمل والهدى, وقد تطلق السنة أيضا بمعنى الدين كله.
ونحن في مقامنا هذا إذ نتكلم عن السنة، نقصد بها ما قصده علماء الحديث من المفهوم الشامل لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي تسجيل دقيق (يشبه تصوير الفيديو في عصرنا الحديث) لحياة النبي وكلامه وطريقته في الأداء وكل شيء، ووصف جلسته أو سيره أثناء الكلام، وهو ما وضع له علماء الحديث قواعد في النقل، وأثَّر على تصنيف أقسام الحديث في علم المصطلح فأنشأ ما يعرف «بالحديث المسلسل».
ثانيا: مدى حجية السنة النبوية:
يعتقد المسلمون أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله، والبعْدية هنا في الفضل، أما في الاحتجاج فحجية السنة كحجية الكتاب، وإفادة العلم بأن ذلك صدر من الشارع طالما أنه قد تواتر، أما الآحاد فله حجية التشريع إن صح ولم يعارض المتواتر من السنة والقرآن وأصول الشريعة، ولكنه مع ذلك يفيد الظن ولقد دل القرآن الكريم، والسنة النبوية نفسها، والإجماع على أن السنة مصدر أساسي في التشريع الإسلامي.
ففي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تؤكد على حجية سنة النبي r في التشريع، ولعدم إطالة الكلام نكتفي بذكر بعض هذه الآيات، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل :44]، وفي هذه الآية دليل على أن السنة النبوية وحي من الله تعالى، وقد سماها ربنا الذكر، وطالما أن السنة النبوية هي الذكر الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليبين للناس ما نزل إليهم فإنه قد حفظها كما أخبر - سبحانه - بذلك في قوله - تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ [الحجر :9]، وفيها دليل على حفظها بما ألهم الله أتباعه من توثيقها وابتكار العلوم التي حفظتها إلى يومنا هذا.
ومن الآيات التي تؤكد على حجية السنة كذلك قوله - سبحانه: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء :80] ، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ [الحشر :7]، ومنها قوله - عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب :36]. وقوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء :65].
وقوله تعالى : ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [النور :51]، وقوله - تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم :3 ،4]
فدلت تلك الآيات على حجية كلام النبي وفعله، وضرورة الالتزام به، لأنه صدر من الوحي، ونفس المشكاة التي صدر منها القرآن الكريم.
كما دلت الأحاديث النبوية على حجيتها من ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» [رواه أحمد في مسنده]. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما يقوله من السنة هو مثل القرآن في الاحتجاج به، ويؤكد ذلك المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله » [رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في سننه واللفظ له]. فينعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصورة التي تريد هدم الدين بحجة التمسك بالقرآن وحده، ويحذر من هذا المسلك منذ بداية الأمر.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا : يا رسول الله، ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى » [رواه البخاري في صحيحه]، وقريب من ذلك المعنى ما روي عن حسان بن عطية قال: «كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن» [رواه أبو داود في مراسيله، وابن المبارك في الزهد].
كما دل الإجماع على حجية السنة، فقد أجمعت الأمة على حجية السنة، وتتبعنا آثار السلف ابتداء من عهد الخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ولا يعلم مخالف في ذلك من المسلمين على الإطلاق. وفي سلم الوصول: «الإجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلا تستمد منه الأحكام، فإن المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة» [سلم الوصول ص 261].
مما سبق يتبين وجوب الاحتجاج بالسنة والعمل بها، فالمستغني عنها هو مستغنٍ في الحقيقة عن القرآن، وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله وعصيانه عصيان لله تعالى، وأن العصمة من الانحراف والضلال إنما يتحقق بالتمسك بالقرآن والسنة جميعاً.
وليست السنة مصدرا للتشريع فحسب، بل هي منظومة أخلاقية، ومنهاج للوصول إلى رب العالمين، يرشدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أفضل الطرق، وأحبها إلى ربنا في تحقيق سعادة الدارين، ومعنا في هذه المقالة حديث جامع هو حديث معاذ رضي الله عنه.
فعن معاذ رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت : يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار ؟ قال : لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال ثم قرأ : ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع.... حتى بلغ يعملون﴾، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده، وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، قال : كف عليك هذا، فقلت : يا نبي الله، وإنا المؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [رواه أحمد في مسند، والترمذي في سننه، والحاكم في المستدرك] وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
فالحديث يبدأ بأن معاذ رضي الله عنه انتظر تهيئة الوقت للسؤال، فانتهز فرصة سيره مع النبي وقربه منه، وعدم انشغال النبي صلى الله عليه وسلم بشيء عن الإجابة، وفي هذا السلوك تأديب لمن أراد أن يسأل العلماء أن يتخير الوقت المناسب لسؤالهم.
ثم سأل معاذ سؤاله الذي اتسم بسمات عظيمة، الأولى : أنه سؤال موجز ومختصر. الثانية : أنه سؤال عن قضايا مهمة وعملية. الثالثة : أنه سؤال جامع، وتلخص ذلك في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم : « أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار ؟».
ثم يجيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بتقديم مهم، وهو إعلام السائل مدى أهميته سؤاله وعظمته، فهو عظيم من حيث الغاية، ومن حيث أن السؤال يدل على فهم غرض السائل من حقيقة التكليف والوجود، وهي عبادة الله بالأعمال الصالحة، فهذه هي العظمة، لأنها مقصود الله من خلقه وهي العبادة، قال تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات :56]. فهذه هي جهة التعظيم، يردف النبي صلى الله عليه وصف الأمر المسئول عنه بالعظمة، بأنه مع تلك العظمة فإنه يسير، فيقول صلى الله عليه وسلم : « قال : لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه».
وليس في وصفه بالعظمة تناقض مع وصفه باليسير، لأنه قيد اليسر بتيسير الله له، ولأن الله يسر على العباد عبادته، وأن جهة العظمة في أنه يمثل غاية الخلق وهي عبادة الله سبحانه وتعالى، وجهة اليسر في توفيق الله وتيسيره لعباده الذين صدقوا في رغبتهم في السير إليه، ولقد جمعت العظمة واليسر في قوله تعالى : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة :5]، فإياك نعبد هذه المقصود من الخلق، وهي أعظم قضايا الكون، وإياك نستعين هي التيسير على من يسر الله عليه طريقه، فهو يسير لأن نهايته الجنة، والجنة هي القرار المكين، والظل الظليل، ورضا رب العالمين، فيهون في سبيلها أي شيء، ويتيسر الصعب في سبيل الوصول إليها، فلو علم الإنسان ما أعده له ربه في الجنة لهان عليه الأمر، واستلذ العبادة، لأن رضا الله وجنته نصب عينه.
ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما وصفه له المسئول عنه بالعظمة واليسر، بدأ بإعلامه بالأعمال التي تدخله الجنة، وتبعده عن النار، فأجمل في بداية إجابته تلك الأعمال في أركان الإسلام الخمسة، فقال صلى الله عليه وسلم : «تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» فبدأ بعبادة الله سبحانه وتعالى، وهي اعتقاد وحدانيته في التأثير، والتوجه إليه بكل ما شرعه من الأعمال الظاهرة والباطنة، فيتوجه الموحد لربه بالتوكل، والإنابة، والحب، والإخلاص لربه سبحانه وتعالى، كما يتوجه إليه بالصلاة والزكاة، والصيام والحج، فعبادة الله يتحقق كمالها بإقامة الدين كله.
ثم أعلمه بفضل الصلاة التي هي معراج المؤمن إلى ربه، وهي الحوار الرباني الإنساني الذي يعقده المسلم مرات كثيرة مع ربه في اليوم الليلة؛ هذا الحوار الذي يتمثل في أم الكتاب كما أخبر بذلك ربنا سبحانه وتعالى على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد : ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ قال الله تعالى : حمدني عبدي، وإذا قال : ﴿الرحمن الرحيم﴾ قال الله تعالى : أثنى علي عبدي، وإذا قال : ﴿مالك يوم الدين﴾ قال : مجدني عبدي، وقال مرة : فوض إلي عبدي، فإذا قال : ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ قال هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال : ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» [رواه مسلم في صحيحه].
لذا استحقت الصلاة أن تكون الركن الثاني بعد الشهادة لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، فهي تعبر عن الاتصال الإنساني الإلهي اليومي الذي، يقوم به الإنسان مستعينا، عابدا، مستأنسا بربه، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجد راحة قلبه وهدوء باله فيها، فكان يقول صلى الله عليه وسلم : «وجعلت قرة عيني في الصلاة» [رواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك]، وكان يقول صلى الله عليه وسلم لبلال : «أقم الصلاة أرحنا بها» [رواه أبو داود] هذا باختصار شديد عن الصلاة، وفضلها والتي ذكرها النبي صلى الله عليه في إجابة سؤال معاذ بعد عبادة الله، وفي المقال التالي سنتكلم عن الزكاة، والصيام، والحج، وما بقي من الحديث، رزقنا الله عبادة حقا، وذكره دائما آمين (يتبع)