عرضنا لحوادث رمي الجمرات في المقال السابق، ورأينا أن الأزمة لا تتمثل في القوانين والفقه، وفي هذا المقال نجيب عن ذلك السؤال المحير : من أين تبدأ الأزمة في حوادث الجمرات المتكررة ؟
الأزمة تبدأ في الفكر الفقهي الذي يأبى الاجتهاد ويجهله، والاجتهاد هو بذل الوسع في فهم النصوص الشرعية لاستنباط الأحكام منها، ولقد ركد الفكر الفقهي، وركن إلى التقليد وإلى الاكتفاء بفقه الأوراق دون رغبة في دراسة الواقع، وهو أمر جد خطير ليس فقط في حدوث مثل هذه الحوادث، بل إنه خطير أيضًا من الناحية الدينية التي ترى في هذا التصرف نوعًا من الضلال والإثم أن ينظر أحدهم إلى ما سطر في الكتب فيوقعه في فتاويه من غير نظر إلى الواقع الذي يفتي فيه.
ويقول القرافي في كتابه الفروق : (والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين) [الفروق للقرافي 1/177، 178]، وهو يؤيد ما سطره ابن تيمية في كيفية الفتوى من وجوب إدراك الواقع، وأن الفتوى مبنية (على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم [مجموع الفتاوى 28/510] فالمعرفة بالحال جزء لا يتجزأ من الفتوى.
3- فظهر لنا إذن أن الرمي بعد الزوال ليس محل اتفاق أو إجماع بين العلماء، وعلى ذلك فهو من المسائل المجتهد فيها التي يجوز لنا أن نفهم النص لتحقيق مصلحة الواقع، وليس في هذه المسألة نص بذاتها، بل إنه مأخوذ من عموم قوله صلى الله عليه وسلم : (خذوا عني مناسككم) [رواه البيهقي] مع أنه قد رمى الجمرة عند الزوال قبل الصلاة.
وهذا العموم مع ذلك الفعل لا يدل على الوجوب الذي ذهب إليه كثير من العلماء عبر التاريخ، فالمناسك منها ما هو ركن كالوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي، ومنها ما هو ركن وفيه خلاف في ركنيته كالحلق والتقصير لشعر الرأس، ومنها ما هو واجب لو فاته الحج بعذر فلا إثم عليه ويجب عليه أن يذبح ذبيحة لله، ولو تركه بغير عذر فهو آثم، ويذبح نفس الذبيحة أيضًا، ومنها ما هو سنة أو هيئة من سنن أو هيئات الحج تاركها لا إثم عليه ولا ذنب، فالقول بالوجوب استدلالا بعموم ذلك الحديث محل نظر واجتهاد منذ القديم، والتمسك بهذا الفهم مع هذه الحالة الموجودة نوع من أنواع الضلالة كما يقول القرافي رحمه الله تعالى.
ويؤكد ذلك المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : (صلوا كما رأيتموني أصلي) [رواه البخاري] فالصلاة هدفها الخشوع : (قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون : 1، 2] وذلك حتى يتذكر المؤمن ربه، فيقلع عن الفحشاء والمنكر (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت :45]، والصلاة تشتمل على أركان وسنن وهيئات فلا تصح إلا باستيفاء أركانها، ولكن وضع اليمنى على اليسرى، ورفع اليدين عند التكبير، وقولنا سمع الله لمن حمده هيئات الصلاة بتركها.
وليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (صلوا كما رأيتموني أصلي) أن كل هذه الهيئات من أركان الصلاة، بل ولا أن تركها يستوجب إثمًا، ولكن الإثم الصحيح هو أن يشتغل بهذه الهيئات حتى يذهب خشوعه، وحتى تصير الصلاة مجرد شعيرة ظاهرية لا علاقة لها بأن يترك الفحشاء أو المنكر التي يمارسها خارج الصلاة، فتفقد الصلاة بهذا الاهتمام الزائد هدفها ومراد الله فيها.
وكذلك واجب الرمي، له هيئة في الزمان لا تجعلنا نهلك أنفسنا، ولم يأمرنا الله بذلك، بل أمرنا بخلافه فقال تعالى : (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة :195] وقال : (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء :29] وقال : (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام :151].
فإذا انضم إلى ذلك أن الحج بني على التيسير، فلم يُسأل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدم أو أُخر إلا قال : (افعل ولا حرج)، ولم يُسأل عن شيء فيه عذر من تأخير في الزمان أو ضيق في المكان، أو حال اعترت من حج معه إلا وقد أباح له ذلك، فأين هذا من عقلية قد أغلقت نفسها على الأوراق فضاع من ضاع بسببها.
تأكد لنا أن وقوع مثل تلك الحوادث المروعة بموسم الحج ، سببه في الأصل عدم الالتفات للنصوص والقرارات الميسرة، التي إذا ما التزم بها الحجيج تجنبنا كثيرًا من تلك الأزمات.
وقد أقر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بعض الحلول لتفادي وقوع حوادث مماثلة لحادث التدافع الذي وقع أثناء رمي الحجاج للجمرات في منى في موسم الحج عام 1424 هـ، الموافق بداية فبراير عام 2004، حيث أرسلت لجنة تابعة لمجمع البحوث خطابًا باسم الأزهر إلى وزير الحج السعودي ومفتي السعودية، وتم إرسال ذلك الخطاب فور موافقة المجمع في جلسته الأخيرة في 24 مارس 2004 على تفويض شيخ الأزهر في إعداد ذلك الخطاب الذي يشمل اقتراحات طرحها أعضاء المجمع.
وقد افتُتح ذلك الخطاب بالنص التالي : (من منطلق التعاون الصادق والإخاء بين علماء المسلمين في أمور دينهم، وحرصا على سلامة الحجاج، يتقدم مجمع البحوث الإسلامية بمقترحات حتى لا يتكرر الحادث الذي ألم بضيوف الرحمن في ساحة الرمي بموسم الحج هذا العام).
وكانت أولى تلك المقترحات ما نصه : (التوسع في إباحة زمن رمي الجمرات في جميع الأيام الخاصة به، بحيث يكون الرمي 24 ساعة في كل يوم من هذه الأيام نظرًا للزحام الشديد الذي يحدث كل عام خلال أداء الحجاج لهذه الشعيرة، ويترتب عليه في الغالب عنت شديد يلم بهم، وضرر عظيم للضعفاء قد يصل إلى الموت، خاصة أنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن من أهم أسباب مشروعية الحج المحافظة على النفس وإحياؤها، ومنع الضرر والهلاك عنها، وبذلك تكون كل مناسك الحج ـ بما فيها رمي الجمار ـ محققة للغرض الذي شرع له الحج، ومؤكدة لحكمة مشروعيته، وهو إحياء النفس، وعليه فلا يتصور أبدًا أن تكون مناسك العبادة التي شرعت لإحياء النفس سببًا في هلاكها، ولذلك فإن بعض الفقهاء من المسلمين ـ قديمًا وحديثًا ـ صرحوا بجواز الرمي في أي وقت)
كما تضمن ذلك الخطاب مقترحًا آخر كان نصه : (ضرورة الإنابة في الرمي للنساء وغير القادرين عن طريق نشر الوعي بين الحجيج بأن من الخير للنساء وغير القادرين أن يوكلوا غيرهم من الرجال والقادرين لرمي الجمرات عنهم حتى لا يتعرضوا للضرر والزحام الشديد).
ونص كذلك على : (العمل بمبدأ التعاقب في الرمي أيام التشريق الثلاثة بمنى، وذلك بتفويج الحجيج وتقسيمهم، مع الجمع بحيث يجمع رمي يومين في يوم واحد لكل طائفة مع مراعاة الترتيب خاصة أنه لا حرج في ذلك شرعًا؛ لأن أيام التشريق كلها زمان واحد للرمي).
وختم ذلك الخطاب اقتراحاته بالإشارة إلى حلول أخرى غير فقهية، وكان نصه في ذلك الشأن : (إن هناك تيسيرات أخرى تتعلق بجوانب هندسية من حيث توسيع الأماكن المخصصة للرمي وهي متروكة للسلطات في المملكة العربية السعودية؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها).
ولعلنا في حاجة لنقل المزيد من الفتاوي والتأصيل الفقهي لعرض الأقوال التي تجيز الرمي في أي وقت، وننقل من ذلك فتوى العلامة مصطفى الزرقا -رحمه الله- حيث قال : (رمي الجمرات يكون في الأيّام الأربعة كلّها من الصّباح قبل الزوال في مختلف الاجتهادات، ولو في غير يوم النّفر للمستعجِل وغيره؛ لأن في الرمي قبل الزوال تيسيرًا كبيرًا على الناس حتى على غير المستعجِل لأجل النفر، فإن الماكِث أيضًا قد يحتاج إلى التبكير في الرمي اجتنابًا للزِّحام الشّديد في الحَرّ الشديد، ولا يخفَى أن المكلَّف عليه أن يتبع أحد المذاهب المُعتبرة، ويتقبّل الله تعالى منه، فإن الدين يُسر بنصِّ الحديث الثابت).
وقد ذيل فضيلة الشيخ الزرقا فتواه بذكر مذاهب من أجاز الرمي في أي وقت وعد منهم الإمام الباقر محمد بن علي من آل البيت (كما في بداية المجتهد)، وكذا الإمام الناصر من الزّيديّة (كما في البحر الزخار) وكذا من التابعين عطاء وطاووس (كما في نيل الأوطار) فقال هؤلاء جميعًا : إن الوقت في اليوم الثاني أيضًا يبدأ من الفجر، فيرمي قبل الزوال مُطلقًا، وفي قول آخر عند الحنفيّة أيضًا غير القول المشهور: أنّ اليومين الثاني والثالث أيضًا يجوز الرّمي فيهما قبل الزّوال. انتهت فتوى الشيخ الزرقا.
ولقد صرحت لجريدة الأهرام المصرية بتاريخ (4-1-2005) تصريحًا بهذا الشأن، وأكدت في ذلك التصريح على : (أن من فَضَّل المزاحمة التي تؤدي إلى الأذى لنفسه ولغيره هو آثم شرعًا، ويخشى عليه من عدم قبول حجه، وذلك تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نظر إلى الكعبة فقال لها : (أنت حرام، ما أعظم حرمتك ؟ وأطيب ريحك ؟ وأعظم حرمة عند الله منك المؤمن) [الطبراني في الأوسط، وابن أبي شيبة في مصنفه] وعلى ذلك فإن الأخذ بفتوى إجازة رمي الجمرات في ساعات اليوم كله وليس الرمي في وقت محدد واجب شرعي على الحجاج؛ تفاديًا لحدوث أي مكروه) كان ذلك نص تصريحي لجريدة الأهرام منذ أكثر من عام.
فها نحن نرى محاولات صادقة ومجهود كبير من علماء الأمة لحل الأزمات وإدارتها، ولتوحيد المسلمين، ولمثل هذه المسألة وأشكالها اتجه العلماء المخلصون في التاريخ المعاصر -وبعد بناء الدول الحديثة وأنظمة المجامع الفقهية والجمعيات- إلى محاولة توحيد المسلمين عبر هذه المذاهب، بالبيانات والمقررات المتفق عليها بينهم رأفة بالناس وإعانة لهم على القيام بالواجبات الشرعية ومساعدتهم على كل خير.
تعلمنا في الحج الكثير، تعلمنا الفقه والأسرار والفكر، نسأل الله أن يرزقنا حسن عبادته وذكره وشكره، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.