النموذج المصري نموذج يستحق الدراسة في ماضيه وحاضره ومستقبله، وذلك لأنه نموذج رائد، ولأنه أيضا نموذج فريد، ولأن النماذج التي جاءت من بعده تحتاج إلى إعادة تقويم، ولأن كثيرا من اللبس والخلط قد حدث في تحليله وفهمه مرة عن سوء قصد، ومرات عن حسن نية، ولكن إما عن جهل بحقيقته، وإما عن تحيز في مدرسة تحليله يمينًا ويسارًا، وإما لعدم الوعي بتطوره أو بتغيره.
ويحتاج شبابنا كثيرا إلى دراسة هذا النموذج ليس فقط لتقويمه، وإنما أيضا لمستقبل الثقافة في مصر، ولمستقبل الثقافة في العالم العربي والإسلامي، ولمزيد من الصلة مع العالم كله، ولأن هذا الموضوع موضوع كبير، فإننا سنعرض لمفرداته إجمالاً ثم نبدأ في تفصيلها، ونعالج هذه المفردات كلا على حدة.
ونقصد بالنموذج المصري تجربة الدولة الحديثة بكل جوانبها السياسية، والثقافية، والقانونية، والدينية، والاجتماعية، والعلمية، وسائر الجوانب التي تكون الحياة منذ عصر محمد علي، وحتى الآن.
أما المفردات فيمكن إجمالاً أن نصوغها في الأسئلة التالية :
1- ما موقف التجربة المصرية من الليبرالية والديمقراطية؟
2- وما مدى اعتمادها على السلطة الدينية، وهل مصر تحكم بالدين -كما يقول بعضهم- أو أنها دولة كافرة كما يقول آخرون؟
3- وما مدى قبول الشعب المصري للمشروع العلماني؟
4- وما مدى نجاح ذلك المشروع؟
5- وما الفرق بين الدعوة إلى الحرية والدعوة إلى التغريب؟
6- وما مفهوم الهوية والخصوصية؟
7- وهل نحن في حاجة إليها؟
8- وما معنى المساواة والحرية؟
9- وما معنى الإبداع؟
10- وهل هناك أزمة تمر بها الثقافة المصرية، ما ملامحها وما أسبابها؟
11- وهل هي أزمة دولة أو أزمة عصر، أو أزمة شعب، وكيف الخروج منها؟
12- وهل نحن في حاجة إلى الإصلاح؟
13- وما برنامجنا إذا احتاجنا إليه؟
14- وكيف نزيل الأمية الهجائية، والمهنية، والثقافية، والتكنولوجية، وهل نحن أمة في خطر؟
15- وكيف نقضي على البطالة الصريحة والمقنعة، وكيف نشيع قيم العمل والبحث العلمي، والرغبة في أن نصبح أقوياء، وأن نشارك في بناء الحضارة الإنسانية، وأن ننفع أنفسنا والآخرين، وما الذي لا نعلمه لأولادنا، والذي نعلمه لأولادنا حتى نتوارث الأمية والبطالة في أجيال متعاقبة، على الرغم من أننا شعب زكي صاحب تاريخ وحضارة يحسدنا عليها العالم كله؟
16- وهل هناك تجارب يمكن أن نستفيد منها، كما استفادت اليابان من تجربة محمد علي في القرن ، كاليابان والصين، وكوريا، وسنغافوره، وماليزيا، أو كإنجلترا وأمريكا والفاتيكان، وما علاقة ذلك بالخصوصية والهوية، والإبداع العلمي والثقافي؟
17- وما مدى معرفتنا بعلوم الإدارة الحديثة، وما مدى اطلاعنا الحقيقي على مجريات الأحداث في العالم، وأين نحن من جيراننا؟
18- وأين نحن من بناء أدوات ثقافة المستقبل (الموسوعات، والترجمة إلى العربية ومنها، والفنون، والآداب، والتربية والتعليم والتدريب)؟
19- وكيف نتعامل مع التراث الإسلامي، ومع التراث الإنساني؟
20- وكيف نصوغ بعد كل ذلك نموذجنا المعرفي، وكيف يكون قادرًا بأن يتواءم مع كل عصر على أساس أن ذلك النموذج نسق مفتوح له وعليه؟
هذه بعض الأسئلة التي نريد أن نجري حولها الحوار، وكل سؤال يشتمل على كثير من المشكلات، ونحتاج فيه إلى تحرير كثير من المصطلحات التي احتلت، أو التي اختلت بإزاء مفاهيمها، ويمكن بعد ذلك أن نضع أيدينا على مواضع الخلل، إذا أردنا أن نسير في الاتجاه الصحيح، ويمكن لنا أيضًا أن يتضح لنا مدى تفوق النموذج المصري على كثير من النماذج المعاصرة في العالم الإسلامي.
اتجه محمد علي باشا إلى بناء الدولة العصرية الحديثة في مصر، وهي دولة حاولت أن تستقل عن أشخاصها بقدر الإمكان، والاستقلال بين الدولة وأشخاصها يتم عن طريق المؤسسات، ويتم عن طريق النظام، ويتم عن طريق الدستور، ويتم عن طريق التقنين، ويتم عن طريق الفصل بين السلطات، ونحو ذلك.
والديمقراطية بالأساس مبنية على المساواة بين المواطنين، وأن فكرة المواطنة وليس فكرة الرعايا هي التي تسود في دولة ما، والمساواة هنا تشمل المساواة في الحقوق وفي الواجبات، وتشمل عدم الاستثناء من القانون أو التمييز العنصري، وكلما تحقق ذلك كانت الدولة أقرب إلى تحقيق الديمقراطية.
والليبرالية تعني احترام الحريات، حرية العقيدة، حرية الانتقال، حرية العمل، الحرية السياسية، والتي هي بالأساس مبناها التعددية، ومبناها التمثيل الشعبي.
ثم بعد ذلك تأتي النظم والتنظيمات التفصيلية التي قد تختلف من بلد إلى آخر طبقا للتجربة التاريخية، وطبقا لما يمكن أن نسميه بالثقافة السائدة، والتي لا يجوز الخروج عنها إلا بقدر تحقيق المصلحة، لأن الخروج عن الثقافة السائدة –خاصة في صورة طفرات- يؤدي إلى ضياع المصالح وإلى اضطرابات، أكثر ما يؤدي إلى تحقيق المصالح والمقاصد لشعب ما.
أراد محمد علي أن يحقق ذلك بالتوازي مع البقاء على الثقافة السائدة، وعلى الشريعة الإسلامية التي هي المكون الأساسي لجمهور الشعب في مصر، فأنشأ تعليما موازيا للأزهر الشريف، ولكنه سحب السلطة من المماليك بتراثهم المعروف، ومن رجال الدين أيضا، حيث كان لرجال الدين سلطة في اتخاذ القرار، ولم يعد للأزهر سلطة في اتخاذ القرار السياسي، ولكن ظلت له سلطة علمية أدبية، وليست تنفيذية، والفرق بينهما كبير على قدر اتصاله بالرأي العام، واتصاله بوجدان الأمة، وعلى قدر الثقة فيه الناشئة من تاريخه أولا، ومن منهجه العلمي الوسطي ثانيا، ومن شموليته ثالثا، ومن احترام علمائه لأنفسهم ولأمتهم ولتراثهم رابعا، وهكذا.
ولكننا نؤكد أن السلطة والمسئولية وجهان لعملة واحدة، وما دام أن السلطة الزمنية قد رفعها محمد علي باشا من علماء الدين، فإن لا مسئولية زمنية عليهم، وما دام الشعب والرأي العام قد أولى الأزهر سلطة أدبية، فإنه يكون مسئولاً أدبيا أيضا أمام الرأي العام على قدر ما أولاه من سلطة من هذا النوع.
فما الذي حدث في عصر إسماعيل باشا ؟ نرى ذلك في لقاءنا التالي (يتبع)