تكلمنا في المرة السابقة عن الذكر ومعناه في اللغة والاصطلاح، وكيف حث ربنا عليه في كتابه ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، وتناولنا الذكر بالكلمات العشر المنجيات والتي تبدأ بـ (سبحان الله) وذكرنا معنى التسبيح وفائدته، واستكمالاً لهذا الموضوع نتكلم عن باقي الكلمات العشر ونتعرض للكلمة الثانية وهي (الحمد لله).
الحمد لله : وهي تعني الثناء على الله لكمال صفاته وعلو شأنه سبحانه وتعالى، فهي تعبر عن شكر الله على نعمته، وتعبر كذلك عن الثناء على الله لغير نعمة، بل لجميل صفاته، فيحمد الله على عظمته وجلاله كما يحمد على إحسانه وإكرامه قال تعالى : (وَلَهُ الحَمْدُ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم :18]
فإذا لاحظ الإنسان إحدى نعم الله عليه أو أنشأ الله منة جديدة فسيقول الحمد لله، فإن ذلك الحمد إنما هو من توفيق الله وفضله، فكيف تسمي نفسك حامداً والله هو الذي جعلك تحمد، فينبغي عليك حينئذ أن تحمد الله أن وفقك لحمده، فإذا فعلت ذلك ولاحظت أن الحمد الثاني أيضا من توفيق الله، فتشعر أنك عاجز حتى أن تشكر ربك على نعمة بغير عونه وفضله، فيترتب على ذلك خضوعك وتواضعك لله، ويظهر هذا التواضع بين إخوانك المسلمين، فيحسن به الخلق وتزيد به العلاقات الإنسانية حميمية.
والكلمة الثالثة هي (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة تعد الميثاق بينك وبين الله، وبها دخلت دين الله عز وجل، وهي تعني أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، فلا حق لأحد في الخلق مهما عظم أن يُعبد، ويُتوجه إليه. وفي الحقيقة بقولك هذه الكلمة تدخل الإسلام، وبترديدها ينجلي قلب المؤمن ويزداد إيماناً.
وهذه الكلمة تعني أن نعبد الله لأنه ليس لنا إله غيره سبحانه، وبهذا أرسل الله جميع الرسل قال تعالى : (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) [المؤمنون :32]، وهي أفضل كلمة قالها أنبياء الله جميعهم عليهم السلام بما فيهم نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال : (أفضل ما قولته أنا والنبيون من قبيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له) [مالك في الموطأ والترمذي في سننه] وهي كلمة تشتمل على أمرين، الأمر الأول : أن لا نتوجه بالعبادة والقصد لغير الله. والأمر الثاني : أن نتوجه بالعبادة والقصد لله ولا نقف على المعنى السلبي فحسب، فإن تركك لعبادة غير الله لا يكفي، بل ينبغي أن تعبد الله فعلاً بإقامة الفروض والمحافظة عليها، وفعل المندوبات وهذا هو الجانب الإيجابي في التوحيد وهي عبادة الله عز وجل.
أما الكلمة الرابعة فهي (الله أكبر) ويستفاد من هذه الكلمة أنه ينبغي أن يكون الله هو أكبر شيء في حياة الإنسان، وأنه القضية الأولى لديه هي (رضا الله) فالله ورضاه أكبر من أي شيء، ولذلك يفتتح الإنسان بها صلاته مذكراً نفسه بأنه لا ينبغي أن يشغله شيء عن ذكر الله، فإن الله أكبر من أي شيء يشغله، ويجدد العهد في الصلاة كلما انتقل من ركن إلى ركن أو من ركن إلى سنة داخل الصلاة دائما يقول لنفسه : الله أكبر، من الدنيا وما فيها، فلا ينبغي أن ينشغل بالأصغر عن الأكبر.
فالله أكبر تعني أن قدر الله في قلب كل مؤمن ينبغي أن يكون أكبر من قدر أي شيء آخر، لأن الله هو الحقيقة الوحيدة في هذا الكون. بمعنى أنه الموجود بغير حاجة لأحد، فكل وجود غيره يحتاج إليه فهو مظهر من مظاهر وجوده سبحانه، فالله أكبر كبيراً.
والكلمة الخامسة فهي (لا حول ولا قوة إلا بالله) وتعني أنه لا يحول ولا يمنع بينك وبين كل ضر أو خير إلا الله، كما أنه لا تصلك ولا يصل أحد خيراً إلا بقوة الله، فبقوة الله وحده تحدث الأشياء، وبحول الله وحده تتمنع الأشياء عن الحدوث؛ لأنه في الحقيقة لا حول ولا قوة لأحد في هذا الكون إلا لله سبحانه وتعالى.
وهذه الكلمة لما فيها من حقائق عالية ومعان غالية كانت كنزاً من كنوز الجنة، فقد قال النبي صلى الله عليه لعبد الله بن قيس : (قال يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله) [أخرجه البخاري]، وينبغي لمن يذكر الله بهذه الكلمة أن تحدث له تسليماً وإخباتاً وخضوعاً لله وحده، ولا يخشى من غير الله حيث لا فعل له في الكون ولا قوة ولا حول.
وتلك الكلمات الخمس من الكلمات العشر هي التي قال عنها العلماء (الباقيات الصالحات) التي ذكرها الله في كتابه حيث قال : (المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف :46] وقال سبحانه : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًا) [مريم :76] قال النبي صلى الله عليه وسلم : (استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الملة. قيل : وما هي ؟ قال : التكبير، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله) [أخرجه الحاكم في المستدرك].
رزقنا الله الاستمساك بالباقيات الصالحات، وذكر الله بهن دائما، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين (يتبع)