إن صدور بعض الكتب التي تهدف إلى حمل الناس على مذهب مؤلفيها، ووصف المخالف بالابتداع، والفسق، والضلال، فيه من الخطورة بوحدة الأمة الإسلامية ما فيه، ولا شك أن كثيرًا من التشرذم الذي نراه، ونعيشه في عصرنا، كان لهذه الكتب كفل فيه، وهذا لا يعني أن نتعصب لمذهبنا في مقابلة مذهبهم، ولكن لكل صاحب مذهب الحق في عرض مذهبه وترجيحه، ولكن لا يجوز له أبدًا أن يتهم المخالف بالابتداع، والضلال، والفسق وبخاصة أن هذه المسائل التي ينكرون عليها قَبلها العلماء في كل عصر من عصور الأمة، ولا يجرؤ أحدهم أن يضلل هؤلاء العلماء الأكابر، وإنما أقصى ما يمكن له فعله هو أن يخالف مذهبًا ويتبع مذهبًا آخر وهذا ليس فيه تفريقًا للأمة، أما إصرار أحدهم على أن مذهبه هو الحق، وما دونه باطل فيلزم منه التنازع والاختلاف والشقاق.
فهوية الإسلام لا يختلف عليها أحد، وهي المعلوم من الدين بالضرورة، والمسائل التي أجمعت عليها الأمة سلفًا وخلفًا شرقًا وغربًا، وهي حقيقة هذا الدين، وما دون ذلك من أمور اجتهادية يجوز للمسلم أن يتبع أيًا من المذاهب طالما أن أصحابها علماء لهم حق الاجتهاد والنظر في الدليل، وليس هناك اعتبار لاجتهاد من لم تتوافر فيه شروط الاجتهاد.
والخلاف في المسائل غير القطعية موجود من لدن الصحابة رضى الله عنهم قال الإمام القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : «لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمل عمله»([1]).
قال سفيان الثوري رحمه الله : «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه»([2]).
ي الروضة في أصول الفقه لا تنهه بعة المذاهب الفقهية الإسلامية.ى كمذهب الثوريين، والإمامية، والإباضية، والظاهريةضارتهم.د والنوقال الإمام أحمد بن حنبل : «لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم»([3]).
قال الإمام الحنبلي ابن قدامة المقدسي : «وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام, مهد بهم قواعد الإسلام, وأوضح بهم مشكلات الأحكام, اتفاقهم حجة قاطعة, واختلافهم رحمة واسعة»([4])، وقد صنف رجل كتابًا في الاختلاف. فقال له الإمام أحمد : «لا تسميه الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة»([5])، وقال كذلك : «إن للمفتي إذا استفتى وكانت فتواه ليس فيها سعة للمستفتي أن يحيله إلى من عنده سعة»([6])، وقال ابن العربي : «إن العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية»([7]).
وإن تيقن العالم أن مخالفه قد أخطأ لا يجوز له وصفه بالابتداع ولا الفسق؛ لأن الخطأ على أساس المنهج العلمي الصحيح لا يوصف بذلك، وذلك ما فهمه كبار العلماء من السابقين كالإمام الحافظ الذهبي؛ حيث يقول : «ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه وبدعناه، وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصير، ولا ابن مندة، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة»([8]).
قال ابن تيمية : «وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين، كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد لوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن الإنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل حرام، والمتعة حرام»([9]).
مما سبق نعلم أن مجرد الخلاف بين العلماء والمجتهدين في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، وممن توافرت فيهم شروط الاجتهاد هو رحمة واسعة من الله على المسلمين؛ حيث اتسع الأمر عليهم وجاز لهم أن يتبعوا ما يلائم ظروفهم ولا يشق عليهم.
والذي يدعو إلى التشرذم المذكور في السؤال فهي محاولة للإرهاب الفكري، أو الإجبار، أو التلبيس لإيهام الناس أن الذي يقوله هو الحق ولا حق غيره، وهي الصفة المسئول عنها، وهي بدعة مذمومة ما كانت من هدي سلف هذه الأمة، رزقنا الله سعة الفهم، والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________________________________
([1]) جامع بيان العلم وفضله، ج4 ص 80.
([3]) الآداب الشرعية لابن مفلح ج1 ص 166، وغذاء الألباب للسفاريني ج1 ص 223.
([4]) المغني، لابن قدامة، ج1 ص1.
([5]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ج30 ص 79.
([6]) الروضة في أصول الفقه، لابن قدامة.
([7]) العواصم من القواصم، لابن العربي، ص .