استكمالا للكلام عن السنن الإلهية وبعد أن تكلمنا عن سنة التكامل، نتكلم هذه المرة عن سنة التدافع، وهي سنة مأخوذة من قوله تعالى : ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ﴾ [البقرة : 251].
وهذا التعبير القرآني يبين حقيقة علو القرآن على التفاسير التي خطها البشر، فهو لم يحصر هذا في القتال أو النزاع والخصام -كما ورد في التفاسير- عبر بالتدافع ليشمل كل أنواع التعاون والاختلاف بل والصراع والصدام للوصول بكل وسيلة إلى الاستقرار وتحقيق مراد الله من خلقه : عبادة، وعمارة وتزكية.
فالتدافع سنة إلهية تبين أن الإنسان قد خلقه الله سبحانه وتعالى اجتماعيًا يحتاج إلى الآخرين، وهم يحتاجون إليه، فلم يخلقه منعزلا قادرا على البقاء وحده حتى يحقق مراد الله من خلقه، بل إنه لابد أن يعمل في فريق ليصل إلى هدفه، وعمله في الفريق وحراكه الاجتماعي ونشاطه الذاتي يحتاج إلى إدراك سنة التدافع، وإدراك هذه السنة يتولد منها قوانين كثيرة لضبط هذا النشاط والحراك، وعليه فإن عمليةً فكريةً لابد أن تسبق النشاط، وهو ما قد يكون الإنسان العصري قد افتقده حيث سبق النشاط الفكر، وكان ينبغي أن يسبق الفكر النشاط ويسبق حديث القلب أيضا الفكر ولهذا موضع آخر يشرح الفرق بين الآمرين.
وتكون سنة التدافع بمدافعة أهل الخير وجند الله، لأهل الشر والإفساد في الأرض؛ وذلك لتحقيق الصلاح والاستقرار على الأرض، فقد أوضح ربنا سبحانه وتعالى أن من آثار هذه السنة الإلهية منع الفساد في الأرض (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) وأوضح سبحانه أن هذا التدافع الذي جعله الله تعالى بين جنده القائمين بالصلاح والإصلاح وإعمار الأرض، وبين أعدائه الفاسدين المفسدين القائمين بتخريب الأرض من أعظم نعم الله على البشرية، إذ لو تُرك الفاسد يشيع الفساد في الأرض ويستضعف الصالحين، وهم لا قوة لهم لتهدمت كل القيم وكل الأشياء الجميلة في هذا الكون، حتى أماكن عبادة الله سبحانه وتعالى، كما أخبر الحق تعالى بذلك فقال : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج :40].
وسنة التدافع ليست أمرًا شرعيًا بقدر ما هي حالة تحدث لتطهير الأرض ونقاءها، فإن الله لا يبقي الخبيث يقود ويسود حياة الناس أبدًا، حتى وإن مكنه من ذلك قليلاً، قال تعالى : (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) [الرعد :17].
فإن حق قيادة الناس يكون دائمًا للأصلح الذي يحقق الخير والنماء والرخاء لهم، بما يحقق حضارة الإنسان، التي تعلو فيها القيم الأخلاقية على الشهوات، ولذا كتب الله سبحانه وتعالى ذلك في الرسالات السابقة قبل القرآن، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِى هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء :105 : 107].
ومن أجل تحقيق ذلك كتب الله في كونه تلك السنة التي بينا معناها وأشكالها، وموقف أهل الخير منها وأهل الفساد. ونحاول أن نتأمل سنة أخرى وهي سنة إخراج النبي من قومه والتي أشرنا إليها بإيجاز في بداية الحديث عن السنن الإلهية.
السنن الإلهية .. سنة إخراج الأنبياء
قال تعالى لنبيه ﷺ : (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) [الإسراء :76 ،77].
وقد أخبر القرآن الكريم بأمر سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن حاول قومه قتله حرقًا فخلصه الله منهم، ثم هجرهم وذهب إلى ربه، فقال تعالى : (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ) [الصافات :98]، وقال سبحانه عن لسان إبراهيم : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّى شَقِيًا) [مريم :48]
وقد هاجر نبي الله لوط مرتين، مرة أول ما آمن لإبراهيم عليه السلام، قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [العنكبوت :26]، ومرة لما أرادوا أهل قريته إخراجه وجاءه الإذن الإلهي بالخروج، فقال تعالى : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل :56]، وقال سبحانه : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) [الحجر :65].
كما أراد قوم شعيب ذلك، فأخبر الله عنهم في القرآن : (قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف :88].
وقد قص ربنا علينا مشهد ملاحقة جنود فرعون لموسى ومن معه، حتى خرجوا من مصر متجهين إلى الأرض المقدسة، قال تعالى : (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) [الشعراء :60 : 66]
إذن فهناك رغبة ثابتة مستمرة عبر الزمان وفي مختلف الأماكن عند أهل الفساد والإفساد والكفر في إخراج الأنبياء وأتباعهم، أو في إقصائهم، أوفي إذائهم، حتى حكى الله ذلك عن الذين كفروا عامة فقال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم :13 : 14]، ولكن الله سبحانه وتعالى ناصر جنده، وبالغ أمره.
وقد أعلم الله نبيه ﷺ بهذه السنة في مستهل دعوته عندما أخذته السيدة خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان على اطلاع بكتب أهل الكتاب، فقال له ورقة بن نوفل بعدما قص عليه النبي ﷺ ما رآه في الغار : «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعاً يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ ». قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ قَطُّ إِلاَّ عُودِىَ وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً » [رواه البخاري ومسلم].
فهاجر أنبياء الله ونصرهم الله، وأتم دينه، وأظهر كلامه على الأرض، ولا يخفى ما في إخراج الأنبياء وأتباعهم من أرضهم من معاناة ومجاهدة، فإن الأنبياء كانوا يحبون أوطانهم، وتألموا لمفارقة أوطانهم، ففي حديث عَدِىِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ قَالَ لَهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ يَقُولُ : « وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّى أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ » [رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح].
وقدم أصيل الغفاري على رسول الله ﷺ من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة كيف تركت مكة ؟ قال اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها –فاغرروقت عيناه ﷺ وقال تشوقنا يا أصيل. وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبك يا أصيل لا تحزني. [الخطابي في غريب الحديث]
قال السهيلي : وفي هذا الخبر وما ذكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه. [شرح الزرقاني].
فلما حضر أصحاب النبي ﷺ r إلى المدينة، فوُعِك بعضهم وأصابتهم الحمى، وكانوا يحنون إلى مكة ويشتاقون إلى العودة إليها، فعند ذاك قال رسول الله ﷺ: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا» [رواه البخاري ومسلم].
فكان من الآلام التي تحملها النبي ﷺ وأصحابه مفارقة أوطانهم وشدة حنينهم إليها، وأنهم ما خرجوا منها إلا أن قومهم أخرجوهم.
نتعلم من هذه السنة الإلهية أن الإنسان يضحي بكل غال ونفيس في سبيل تحقيق مراد الله من نشر دينه، وإقامة التوحيد على الأرض، ونتعلم أن المسلم لا ينبغي له أن يتابع هواه، بل يتبع أوامر الله ومراده حتى وإن خالفت هواه في فراق الأحبة والأوطان.
ولنتأمل مرة أخيرة في سنة من سنن الله في الكون وفي الأمر، وهي سنة التوازن.
السنن الإلهية .. سنة التوازن
وهي سنة قد أشار الله إليها كونيا، قال تعالى : ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ [الحجر : 19]، وقيميا قال تعالى : ﴿وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ﴾ [الرحمن : 9]، وقال سبحانه : ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى : 17]، وقال تعالى : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد : 25].
ونرى مرة ثانية أن الاستقرار هو الأساس الذي يجب أن ينتهي إليه النشاط الإنساني بعد التوتر الذي يبدأ به، وإذا تحدثنا عن مثل هذه السنة لرأينا أنها سنة كونية وسنة قيمية، ونأخذ منها موقفنا من قضايا البيئة وموقفنا من قضايا الفكر، وموقفنا من مفهوم العدل خاصة إذا رأيناها تمتد إلى الآخرة والحساب وتمثل دالاً على عدل الله سبحانه، قال تعالى : ﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ﴾ [الأنبياء : 47]، وقال سبحانه : ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ﴾ [الأعراف : 8].
والذي لابد للإنسان أن يتمثل به ثم يأتي التكليف على وفق هذه السنة مشيرا إلى أن التكليف بالأحكام مرتبط ارتباطا تاما بالسنن الإلهية المحيطة بنا، وأن تطبيق هذه الأحكام من خلال فهمنا للسنن وتفاعلنا معها هو الضامن لتحقيق هدفها والوصول إلى مقاصدها يقول تعالى : ﴿فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف : 85].
فالتوازن هو التوسط بين الإفراط والتفريط في كل الأمور، وهذا التوسط هو من خصائص هذه الأمة المحمدية الخاتمة، يقول تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة :143]. والوسط هو الأجود والمختار والأعلى كذلك، يقول ابن كثير في تفسيره «والوسط هنا: الخيار الأجود، كما يقال: قريش وسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، ولما جعل الله عز وجل هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوى المناهج، وأوضح المذاهب» [تفسير القرآن العظيم لابن كثير].
الوسطية أو التوازن تساهم في بناء المسلم متوازن النفس، متزن العقل، سليم الصدر، النافع لمجتمعه ووطنه، ولقد قامت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت في عهد وزيرها الأستاذ الدكتور عبد الله معتوق المعتوق بعمل أمانة لمشروع الوسطية، وجعلت عليه أمينًا عامًا هو المفكر الإسلامي والعالم الكبير أ.د عصام البشير وزير الأوقاف السابق بدولة السودان، وهذه الوسطية كمنهج حياة، وكفكر ديني، هي التي ينبغي أن تشيع في الفكر الإسلامي الآن، وهي التي من خلالها صدر بيان عمان الذي اعترف بالمذاهب الإسلامية كلها، والذي كان بيانه الافتتاحي من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، والذي تأكد وتأيد في اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة في شعبان سنة 1426هـ الماضي، والذي وقعه أكثر من مائتي عالم ومرجع من مراجع الفقه الإسلامي في العالم.
فالتوازن إذن سنة إلهية نتعلم منها الكثير، نتعلم منها الإنصاف، وقول الحق في الغضب والرضا، ونتعلم منها التفكير المستقيم، ونتعلم منها بناء العقلية العلمية، وترك عقلية الانطباعات.
ولعله قد اتضح طريق المسلمين في هذا العصر شديد التغير بتأملنا في تلك السنن الإلهية التي تناولنا كل واحدة منها بشيء من الحديث المفصل، وإن لم نكن قد وفيناها حقها، فالسنن الإلهية كما ذكرنا ينبغي أن يكون لها علما مستقلاً يتم دراسة كل هذه السنن التي ذكرناها فيه، وأيضا يتم استنباط سنن أخرى من كتاب الله، ويتم تناولها علميًا حتى يساهم هذا العلم -الذي نسأل الله أن يوجد بين علوم المسلمين في السنوات القليلة المقبلة- في بناء المسلم المعاصر القادر على نشر دينه والالتزام به ونفع بلاده ومن ثم نفع البشرية كلها.
وفيما يلي سوف نرى كيف يمكن أن نستفيد من السنن الإلهية في توضيح التعامل مع القضايا المعاصرة، والفرق بين التناول الإسلامي المتحضر لها، والتناول الغربي، فإلى لقاء.(يتبع)