نحن في أيام مباركات وأشهر معلومات فرض فيهن الله سبحانه وتعالى زيارة بيته الأعز الأكرم بيت الله الحرام، وذكر المسلمين في كافة أركان الأرض ممن لم يزوروا ولم يعتمروا أو حبسهم حابس أو حال صرفهم أن يصلوا إلى البيت الحرام فأمرهم بأن يعيشوا معيشة الحجاج وأن يهرقوا الدم فليس هناك عمل أحب إليه في ذلك اليوم في –يوم عيد الأضحى- من أن يهراق الدم في سبيله وله ولوجهه خالصا من دون الناس إعلانا للتوحيد.
فالذبح لا يكون إلا لله والأضحية لا تكون إلا لله، والنذر بها لا يكون إلا لله، فهو حده الذي يستحق العبادة، والأضحية توزع في الفقراء، وتوزع في المساكين لوجه الله، ويوهب ثوابها لفلان وعلان إنما هي لوجه الله.
وقد يظن بعضهم أن الذبح للحيوان يتعارض مع الرفق والرحمة به، فهل الإسلام أمر بالرفق بالحيوان في نصوصه الشرعية ؟ وهل نفذ المسلمون ذلك في حضارتهم ؟ لقد اهتم الإسلام بالحيوان وأكد على ضرورة التعامل معه بالرأفة والرحمة فهو مسخر للبشر، وغير قادر على التعبير عن احتياجاته وآلامه ولذلك كان الاهتمام به أكبر.
فنرى رسول الله صلى الله عليه ويسلم ينهى عن قتل العصفور، فقال : «ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حق إلا سأله الله عز وجل عنها» [رواه النسائي]. ويبين أن الإساءة للحيوان وتعذيبه والقسوة معه تدخل الإنسان في عذاب الله، ونار جهنم والعياذ بالله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : «دخلت امرأة النار في هرة حبستها ولا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» [رواه البخاري ومسلم]
وجعل الإسلام دخول الجنة جزاء للرفق بالحيوان، وأن الرفق به قد يكون سببا في تجاوز الله عن كبائر وقع فيها الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم : « بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به» [رواه البخاري ومسلم]
وقال صلى الله عليه وسلم «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خُفَّهُ ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر» [رواه البخاري ومسلم].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها» [رواه أبو داود]
فالإسلام حرم قتل الحيوان جوعاً أو عطشاً، وحرّم المكث على ظهره طويلاً وهو واقف، وحرّم إرهاقه بالأثقال والأعمال الشاقّة، وحرّمت الشريعة التلهّي بقتل الحيوان، كالصيد للتسلية لا للمنفعة، واتخاذه هدفاً للتعليم على الإصابة، ونهى الإسلام عن كي الحيوانات بالنار في وجوهها للوسم، أو تحريشها ببعضها بقصد اللهو، وأنكر العبث بأعشاش الطيور، وحرق قرى النمل.
وقد أوجب الإسلام نفقة مالك الحيوان عليه، فإن امتنع أجبر على بيعه، أو الإنفاق عليه، أو تسييبه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه، وإذا لجأت هرّة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه حيث لم تقدر على الانصراف.
ولم يعاقب المسلمون الحيوان بما جنى على غيره، وإنما عاقبوا صاحبه إذا فرّط في حفظه وربطه، ومنعوا أن يؤجّر الحيوان لمن عرف بقسوته على الحيوان، خشية أن يجور بقسوته وغلظته عليه.
ورعى الإسلام الحالة الصحية للحيوانات وأمر بالجر الصحي عند انتشار الأوبئة والأمراض المعدية للحفاظ على باقي الحيوانات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يوردن ممرض على مصح، وإن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها، أو أوى إلى مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه» .
وقد حول المسلمون الرحمة بالحيوان في حضارتهم إلى واقع معيش فأنشئوا مساقي الكلاب؛ وفي العصر المملوكي، وبالتحديد في تكية محمد بك أبو الذهب بنيت صوامع للغلال لتأكل منها الطير، وأنشأوا مبرات للبيطرة وصيروها علما لتخفيف الألم عن الحيوان.
مما سبق يتضح لنا أن الإسلام أحاط الحيوان بالرافة والرحمة، فكيف يمكننا الجمع بين الرحمة والرأفة بالحيوان، وبين الأمر بذبحه تقربا إلى الله سبحانه وتعالى ؟
هناك اتفاق بين البشر على منفعة أكل لحوم الحيوانات مأكولة اللحم [الجمال-البقر-الماشية-الأرانب] أو الطيور [الدجاج-الأوز-البط-الحمام]، ولا يعقل أن يأكل الناس هذه الحيوانات والطيور وهي حية فلابد من قتلها.
إذن فإن عقلاء البشر يتفقون على ضرورة قتل الحيوان للاستفادة من منفعته التي خلقها الله، وجاء الإسلام يإذن للبشر في ذلك، إلا أنه حدد وسيلة ذلك القتل إلا وهو الذبح، وغير المسلمين من أصحاب الدعوات الحديثة يرون أن قتل الحيوان بالذبح تعذيب له، ويرون أنه من الرحمة قتله بالصعق الكهربائي، أو الضرب على رأسه..
وهذه الدعوة الحديثة والتي جاءت عبر جميعات الرفق بالحيوان والذي أنشئت أول ما أنشئت ببريطانيا سنة 1829م، رفضها اليهود في إنجلترا وغيرها من البلاد، إلا أن وسائل الإعلام لا تذكر ذلك كثيرا، وتحاول أن تهم الناس أنه لا يعارض هذه الدعوة غير المسلمين، ربما لتأكيد النظرة المعادية للإسلام التي تتهمه بالعنف والإرهاب!
في بداية إبريل سنة 2004 ذكرت البي بي سي أن تقرير مجلس رعاية الحيوان أثار غضب الجالية اليهودية في بريطانيا، وذكرت أن هناك منظمة تدعى سيخيتا بريطانيا لزيادة الوعي «بالطريقة اليهودية الدينية الإنسانية لإعداد الماشية للطعام» التي تسمى بطريقة السيخيتا. وقال هنري جرونوولد -الذي يرأس منظمة سيخيتا ومجلس نواب اليهود البريطانيين- إن الحكومة لم تنشر أدلة تثبت أن الحيوانات تتعذب بالذبح بهذه الطريقة، وقال : بالعمل البناء مع الحكومة، سنوضح أن طريقة السيخيتا رحيمة تماما ولا يمكن العدول عنها.
إذن يتفق المسلمون مع اليهود في عدم جواز قتل الحيوان لأكله إلا عن طريق الذبح، فينبغي أن يكون الإنكار على من يقر الذبح يشمل اليهود كذلك.
والعجيب أنهم يصعقون الحيوان بالكهرباء، ويصوبونه بالطلق الناري، ويضربونه بالآلات الحديدية على أم رأسه حتى يخر ميتاً، بل وتسلخ جلود الحيوانات وهي لم تمت، ويزعمون أن في كل ذلك رحمة بالحيوان.
ويتساءل الإنسان هل هناك فرق من الناحية الصحية بين القضاء على الحيوان بالذبح أو بأي طريقة أخرى ؟ فمع اعتقادنا أن الذبح هو الوسيلة الشرعية للقضاء على الحيوان لأكله، وذلك لما ورد من الآيات القرآنية واتفق عليه علماء الإسلام، وإنما نذكر نتائج الأبحاث الطبية والأدلة العلمية ليزداد الإيمان واليقين، وييأس غير المسلمين من محاولة صدنا عن الالتزام بشريعتنا.
فذبح الحيوان وهو يسمى في الفقه الإسلامي بالذكاة الشرعية، ويعرفها الفقهاء بأنها هي عبارة عن قطع مخصوص [ما بين اللبة وهي أسفل العنق واللحية وهي شعر الذقن] لحيوان مباح الأكل بنية القصد لله وذكره عليه.
ولذلك فالمسلمون يرون أن أي حيوان يموت أو يقتل بغير الذبح هو ميتة يحرم أكلها، وقد ذكر القرآن أشكال من قتل الحيوان بغير ذبح كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فقال تعالى : ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ والنطيحة وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. [المائدة: 3 ]
يقول القرطبي: «الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح, وما ليس بمأكول فذكاته كموته كالسباع وغيرها» [تفسير القرطبي]. وقال الألوسي في شأن تحريمة الميتة : «أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه» [روح المعاني].
ويستنبط الأطباء العلاقة بين المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة باعتبارهم أشكال للحيوان الميت الذي يحرم أكله، فيرون أن القاسم المشترك الذي يجمع بين هو أن الدم بقي في جسمها.
ويقول الدكتور جون هونوفر لارسن - أستاذ قسم البكتريا في مستشفي غيس هوسبيتال – المستشفى الرسمي – اكبر مستشفيات كوبنهاجن- : «الميتة مستودع للجراثيم، ومستودع للأمراض الفتاكة، والقوانين في أوربا تحرم أكل الميتة.كما يقول: إن قوانيننا الآن تحرم أكل لحم الحيوان إذا مات مختنقاً. حيث اكتشفنا مؤخراً أن هناك علاقة بين الأمراض التي يحملها الحيوان الذي يموت مختنقاً وبين صحة الإنسان. حيث يعمل جدار الأمعاء الغليظة للحيوان كحاجز يمنع انتقال الجراثيم من الأمعاء الغليظة – حيث توجد الفضلات – إلى جسم الحيوان والى دمه طالما كان الحيوان على قيد الحياة. ومعلوم أن الأمعاء الغليظة مستودع كبير للجراثيم الضارة بالإنسان، والجدار الداخلي لهذه الأمعاء يحول دون انتقال هذه الجراثيم إلى جسم الحيوان، كما أن في دماء الحيوان جداراً أخر يحول دون انتقال الجراثيم من دم الحيوان، فإذا حدث للحيوان خنق فانه يموت موتاً بطيئاً».
إذن نعلم من ذلك أن في تحريم الدم حماية للإنسان، فتتجلى رحمة ربنا عند قراءة قوله : ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .[الأنعام:145]. قال الشوكاني : «اتفق العلماء على إن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به».
وعلميا الدم هو هذا السائل الأحمر القاني الذي يتكون من أخلاط عديدة منها الخلايا الحمراء الممتلئة بمادة الهيموجلوبين التي تقوم بنقل الأكسجين إلى مختلف خلايا الجسم, والخلايا البيضاء التي تدافع عن الجسم ضد غزو حاملات الأمراض من الجراثيم والطفيليات, والصفائح التي تتحطم حول نزيف الدم من أجل تجلطه.
ويحمل الدم سموماً وفضلات كثيرة ومركبات ضارة، وذلك لأن إحدى وظائفه الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليطرحه خارج الجسم عبر منافذها التي هيأها الله لهذا الغرض, وأهم هذه المواد هي: البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها.
والأحكام الشرعية تؤثر في الروح وفي القلب وليس هناك انفصال بين دائرة الاعتقاد ودائرة الامتثال، فالاعتقاد هو الأساس، وهو ما وقر في القلب، ولكن لابد أن يصدقه العمل وهو الامتثال. وتأملت في تحريم الله علينا الدم والميتة ولحم الخنزير فوجدت أن تلك الأحكام أنشأت نفسية للمسلم يجعلها هي أبجديته التي يتعامل بها في حياته في جميع مناحيها السياسية، والاقتصادية، والحضارية، والفكرية، والاجتماعية، وغيرها. وظهر هذا في تاريخ المسلمين في كل بلادهم شرقا وغربا.
ولذلك لم نر المسلمين عبر تاريخهم يبيدون الشعوب، أو يستعمرون الناس استعمار هيمنة واستغلال، أو يدخلون البلاد لرفع الطغيان وصد العدوان فيحولونها إلى حمام دم يهون معه الطغيان ويرضى بإزاءه العدوان، ويتمنى الإنسان أن لم يأت ذلك المنقذ الذي اتضح منقذ خسيس من أجل أن يحرره، وأن يدافع عنه.
والسؤال الذي يثير الفكر ويدعو إلى التأمل هو ما الرابطة بين تحريم الدم والميتة واعتبار تسبيح الكون وسجوده، بين عمارة الدنيا وبين استباحة الدم والميتة وبين خراب الدنيا. تأمل. لعل الله أن يفتح عليك.
فتحريم الدم المسفوح ليس من أجل أنه يسبب ضررًا من ناحية الطب بقدر ما أنه يسبب ضررًا من ناحية الأخلاق، والتجرؤ على شكل الدم، وعلى رفع الحاجز النفسي بين الإنسان وبين سفك دماء البشر، وتحريم الخنزير كذلك، فإنه الحيوان الوحيد -كما يقال- الذي لا يغار على أنثاه، وهو أيضا تعود على أكل القاذورات بشكل أساسي.
ويحاول بعضهم -وقد يكون صادقا، وقد يكون غير دقيق- أن يربط بين التحريم وبين الضرر الجسدي، وأن يبحث في حكمة التحريم بالمسائل الطبية، إلا أن التحريم لا يقتصر على هذا الجانب، بل إنه يبني نفسًا، ويعمق شعورًا لدى الإنسان يساعده في نشاطه الاجتماعي، وفي عمارته للدنيا، ولذلك لا يقبل المسلم حلولاً لأزماته الكمية بتحليل الحرام، فقد يقترح بعضهم إذا ما وقع مجتمع ما في أزمة لحوم، أن يربي ذلك المجتمع الخنزير وأن يأكله، فالخنزير كثير التناسل، ونفقته قليلة، ويمكن أن يحل المشكلة بطريقة كمية، ولكن (سلطان الكم) ليس هو كل شيء في هذه الحياة.
ولقد كتب في هذا المعنى رينيه جينو (عبد الواحد يحيى رحمه الله تعالى) كتابه الماتع (سلطان الكم وعلامات الزمان) وهو في نسخته الإنجليزية (The Reign of Quantity & the Signs of the Times) وفيه يبين أن من سمات عصرنا سيطرة الكم على معيار التقويم، فأصبح الكم هو المسيطر على السوق وعلى الاستهلاك.
فلا تعارض بين الرحمة بالحيوان، والامتثال لأمر الله بذبحه للانتفاع الذي أذن الله به، ولتحقيق وظيفة هذا الحيوان في الكون التي خلقها الله من أجله، وهي أن يأكله الإنسان ليحدث التوازن البيئي الكوني. رزقنا الله الفهم عنه والامتثال لأمره وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.