قامت حضارة المسلمين على العلم، ووضع المسلمون الأوائل علوماً خادمة لمحور حضارتهم وهو النص الشريف، والتزموا بهذا المحور وخدموه وانطلقوا منه وجعلوه معياراً للقبول والرد والتقويم، ولهذا أصبح توليد العلوم من أهم أدوات بناء هذه الحضارة، فأخذ المسلمون يخترعون العلوم اختراعاً، وينقلون منها عن الأمم السابقة ما يمكِّنهم من فهم الحقيقة، وإدراك الواقع ونفس الأمر، ويصنفونها ويبلغونها لمن بعدهم، ولمن يجاورهم، ورأينا عصر الترجمة في عهد المأمون، ورأينا البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة ممدوحة في العقل أو مرذولة)، ورأينا الخوارزمي في كتابه (مفتاح العلوم) وهو الذي يرسم لنا الذهنية العلمية في التاريخ الإسلامي ويرصد ذلك التنوع من ناحية، والتفاعل من ناحية أخرى، وهما الصفتان المجمع عليهما لكل من اطلع على التراث الإسلامي ونتاجه الفكري.
ولابد علينا أن ندرك أن توليد العلوم نوع من أنواع مظاهر حياة الفكر، وأنه لم يمت، وهو أيضاً مظهر من مظاهر التفاعل مع العصر الذي نعيشه، وهو ثالثاً الجسر الذي يصل بين الشرع والواقع المحيط.
ويسأل كثير من المخلصين عن كيفية توليد العلوم، وهي تحتاج إلى قدرة التصور المبدع، وهي التي قد لا توجد عند كثير ممن اشتغل بنقل العلم والحفاظ عليه، والتصور المبدع هذا أمر لابد منه لعملية التوليد.
ولنضرب مثالاً يجيب على أولئك الذين يريدون نموذجاً لتوليد العلوم حتى يسيروا على منواله، وحتى يُهدئ بال من يشك في هذه العملية وما قد تخفيه في ظنهم من الاعتداء على ثوابت الدين، أو القدح في هوية الإسلام، فنحاول أن نلقي الضوء على بذور توليد العلوم وآليات ذلك في التراث الإسلامي عسى أن ندرك المنهجية التي ساروا عليها في خدمة حضارتهم.
فقد وضع التراث الإسلامي ما يسمى بالمبادئ العشرة من أجل أن يطلع عليها طالب العلم، ليتشوف للعلم الذي سوف يدرسه، أو ليعرف ما لا بد له من معرفته، وهي بذاتها العناصر التي يجب الالتفات إليها عند توليد العلوم.
ووضعها بعضهم في صورة نظم يحفظه صغار الطلاب حتى يحدث لهم هذا التشوف الذي انحسر بعد ذلك عند المسلمين في التلقي دون إنشاء العلوم واستمرار الفكر فقال:
من رام فَنًّا فليقدِّم أوَّلا |
* |
علما بحدِّه وموضعٍ تلا |
وواضع ونسبة وما استمد |
* |
منه وفضله وحكم معتمَد |
واسم وما أفاد والمسائل |
* |
فتلك عشر للمُنى وسائل |
وبعضهم فيها على البعض اقتصر |
* |
ومن يدري جميعها انتصر |
فالمبدأ الأول هو تعريف العلم، وهو المعيار الأول لتحديد إطاره، والمبدأ الثاني هو موضوعه، والعلوم تتمايز بموضوعاتها، وموضوع العلم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية حتى تتكون المسائل في هذا العلم من الموضوع والوصف المناسب له، والمسائل هي الجمل المفيدة التي عرفناها في اللغة العربية في علم النحو وغيره، والتي تتكون إما من مبتدأ وخبر، وإما من فعل وفاعل، وكلاهما واحد في الدلالة على الجملة المفيدة التي يستفيد منها سامعها مراد المتكلم من كلامه، فموضوع علم الطب جسم الإنسان من حيث الصحة والمرض، وعلى ذلك يكون جسم الإنسان مبتدأ وما يعرض عليه من أحوال الصحة والمرض وكيفية العلاج وأسباب ذلك كله هو الخبر الذي يكوِّن الجمل المفيدة في علم الطب، فجسم الإنسان مسند إليه (مبتدأ أو فاعل) فهو موضوع، وما يخبر عنه هذا المسند (خبر أو فعل) وهو محمول أي محمول على ذلك الموضوع، فقولنا جسم الإنسان يمرض بالميكروب ويصح بالدواء جمل مفيدة تكوِّن العلم.
والمبدأ الثالث هو تحديد الواضع لهذا العلم، حيث إنه سينسب إلى أول من ألَّف فيه، ولو ألفت جماعة مرة واحدة فسيحدث نزاع أيهم ألف أوَّلاً، ونرجع إلى حلاوة النقاش العلمي والخلاف الثري الذي كان يحرك العقول ويربي النفوس على قبول الرأي الآخر، ويدرب الطلاب والعلماء على البحث وترتيب الأدلة واستجلاب البراهين وبيان جهة دلالتها، ويخرج العقل المسلم من إسار التقليد والجمود والأزمة الفكرية التي يمر بها إلى نوع آخر من العمق في الفهم والوعي بما يجرى حوله، والقدرة على تهيئة الأجواء لعودة المجتهدين العظام مرة أخرى، قادرين على عرض ما عندهم بالمنطق والبرهان الذي يوافق عليه الجميع حتى لو لم يتخذوه سبيلاً لهم، ولكنهم يحترمون المنهج ويؤكدون على صحته بغضِّ النظر عن النتائج ومشارب البشر، أما المبادئ السبعة الباقية فهي نسبته إلى العلوم الأخرى، ومن أي العلوم يستمد، وأحكامه ومسائله، وما فضله وما حكمه وما اسمه، وما الثمرة والفائدة المترتبة عليه؟
فهذه العشرة تعد مدخلاً للعلم تدفع طالب العلم إلى التشوف لدراسته وتحصيله، وهي بنفسها التي يمكن للمفكر إذا أراد أن يبني علماً أن يحددها كبداية لاستقلال العلوم أو إبداعها، والحقيقة أن العلم لا يولد كاملاً حتى علم العروض الذي ضبط به الخليل بن أحمد الفراهيدي الشعر العربي لم يولد كاملاً بالرغم من أنه كان شبه كامل، إلا أننا رأينا الأخفش يضيف إليه بحر المتدارك، ورأينا علماء هذا الفن ينشئون أوزاناً أخرى، صحيح أنه لم يتكلم بها العرب، ولم ينقل من شعرهم شيء على أوزانها إلا أنها زادت في العلم، ووسعت من مفهوم الشعر كما أورده الدمنهوري في كتابه: «الكافي في العروض والقوافي»، حتى ابتدع محمود سامي البارودي بعض الأوزان التي لم تكن من قبل فقال:
املأ القدح |
* |
واعصِ مَنْ نصح |
واروِ غُلتي |
* |
بابنة الفرح |
إن توليد العلوم منهج مناسب للخروج العملي من الأزمة الطاحنة التي تمر بها الأمة، وهو من الأدوات اللازمة لبناء الحضارة الإسلامية وضمان استمرارها لعصور مديدة في المستقبل، والله ولي التوفيق.