آمنت حضارة الإسلام بالإنسان وجعلته مقصودَها وعنوانَ هويتها، فهي ترى أن الإنسان مكرم، وأنه ليس مجرد جزء من الكون، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: ٧٠]، وترى أن الإنسان كائن فريد في هذا الكون؛ لأنه متحمل للأمانة، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) [الأحزاب: ٧٢]، وترى أن الإنسان سيد في هذا الكون، وليس سيدًا له، فالسيد هو الله، قال صلى الله عليه وسلم: «السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» [رواه أحمد وأبو داود والنسائي]، ولكن المؤمن وهو يسير في عبادة الله يسير سير السيد، وليس سير الجمادات: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية: 13].
وبناء الإنسان بصفاته وسماته المحددة هو الكامن وراء هذه الحضارة، فقد نجح نبينا، صلى الله عليه وسلم، في بدايات الرسالة في بناء جيل كامل من هذا الإنسان؛ فجابوا الآفاق وبنوا حضارة لم يعرف البشر لها مثيلا حتى الآن، حضارة فريدة لم تَستعمِر أحدًا ولم تسرق خيرات أحد ولم تستعبد أحدًا، بل صيرت عبيدها حكامًا فيما يُعرف في تاريخنا الإسلامي بعصر المماليك وهي واقعة عجيبة لم يكررها أحد في العالمين.
ومن ثم فقضيتنا -بعد تحديد محور الحضارة وقواعدها وغاياتها- هي بناء هذا الإنسان المؤمن بالرحمن والمؤمن بقيمة الإنسان والمؤمن برعاية الأكوان، والقادر على استخدام هذا الفكر وتحويله إلى واقع حضاري ثم المحافظة عليه من الضياع، وقد وصف الله تعالى هذا النموذج في كتابه الكريم فقال سبحانه: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [الفرقان: ٦٣].
وصفات هذا النموذج الإنساني الحضاري محددة ومعروفة في التراث الإسلامي تحت عنوان «الهوية الإسلامية»، وتنقسم إلى قسمين: سمات عقائدية ومكونات عقلية، والقسم الأول دلنا الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه، وأرشدنا النبي، صلى الله عليه وسلم، إليه في سنته، وهذا القسم يجيب عن الأسئلة الكلية الكبرى التي حيرت الفلاسفة عبر التاريخ وهى: من أين نحن؟ وهو سؤال يتعلق بالماضي، وماذا نفعل هنا؟ وهو سؤال يتعلق بالحاضر، وماذا سيحدث لنا غدًا؟ وهو سؤال يتعلق بالمستقبل.
فيجيب هذا الإنسان المسلم عن أول هذه الأسئلة بإيمانه بوحدانية الله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان: ٦٨]، والتوحيد صفة محورية في عقل هذا النموذج الحضاري وهو توحيد لم يقتصر فقط على توحيد الإله، بل شمل كل شيء في بنائه العقائدي، فالنبي صلى الله عليه وسلم واحد؛ لأنه خاتم، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِّجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: ٤٠]، وكتابه واحد؛ ولذلك حفظه من التحريف والتخريف وجعله واحدا لا تعدد له، قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: ٩]، والأمة واحدة، قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: ٩٢]، والقبلة واحدة، قال عز وجل: (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: ١٤٤]، والرسالة واحدة عبر الزمان، قال سبحانه: (هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج: ٧٨]، والتوحيد بهذا المعنى الذي اشتمل على الأشياء والأشخاص وتعدى الزمان والمكان هو أساس لفهم الحياة والتعامل مع الأكوان بما فيها من حيوان ونبات وجماد.
ويجيب عن السؤال الثاني بإيمانه بالتكليف، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان: ٦٤]، والإيمان بالتكليف محوره أن الله لم يدَعِ الخلق بلا تكليف، فهناك شرائع وكتب ووحي، قال سبحانه وتعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: ٤٨]، وقد جعل سبحانه الإسلام اسم هذه الشريعة وهذا المنهاج، فهو الديانة التي يرضاها عبر التاريخ من لدن آدم إلى سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران: ١٩]، وقال سبحانه: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة: ٣]، وأسس هذا التكليف ثلاثة: عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض، وتزكية النفس.
ويجيب عن السؤال الثالث بإيمانه باليوم الآخر، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) [الفرقان: ٦٥]، فإنسان هذه الحضارة يؤمن بأن هناك يوماً آخر للحساب -الثواب أو العقاب- قال سبحانه وتعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرا يَرَهُ) [الزلزلة: ٧-٨]، وهذا الإيمان يؤثر في سلوك الفرد بالإحجام والإقدام، فتراه يقدم على شيء إن كانت فيه مشقة أو فوات لذة إذا رأى أن ذلك يقربه من الجنة ويترتب عليه الثواب، وتراه يمتنع عن شيء فيه لذة ويحجم عنه لأنه يراه يقرب إلى النار، وهذا مرتبط بقضية الإيمان بالله والإيمان بالتكليف، ويؤثر على الحياة، ويجب أن يؤثر عليها بصورة إيجابية وإلا تحول الخوف والرجاء أسبابا لإعاقة الحياة، وفي الحقيقة أن الله شرعها لحماية الحياة، ولدفعها، فإذا كانت تصرفاتنا قد حولتها إلى عائق للحياة كان ذلك ضد مقصود الشرع الشريف.
هذه الإجابات الثلاث كونت عقيدة هذا الإنسان الحضاري وأفرزت مجموعة من المكونات العقلية التي أسست تفاصيل شخصيته ليكونا معًا النموذج الفريد الكامن وراء حضارة الإسلام، والذي نرجو أن يعود إليه المسلمون من جديد فيبنوا الإنسان نفسه ويؤسسوا الحضارة نفسها.