إن رؤية النبي صلي الله عليه وسلم في اليقظة ليست من المسائل التشريعية التي يترتب عليها زيادة في الدين، أو نقص فيه، وإنما هي مسألة واقعية يتحمل مسئوليتها من ادعى ذلك، وهي من قبيل المبشرات، ومن قبيل الكرامة، وهذه الرؤية لا تتنافى مع كونه صلي الله عليه وسلم انتقل من حياتنا هذه، ولا يلزم منها دعوى الصحبة، ولا يترتب عليها أي شيء.
إذا عرفنا ذلك ننظر هل هذه الدعوى مستحيلة عقلًا أو لا ؟ فالمستحيل العقلي هو وجود أي ذات في مكانين في وقت واحد، ودعوى رؤيته صلي الله عليه وسلم لا يلزم منها وجوده في مكانين في وقت واحد؛ إذ مكانه صلي الله عليه وسلم روضته الشريفة يحيا فيها صلي الله عليه وسلم يصلي لربه ويأنس به، كما أن الأنبياء جميعهم أحياء في قبورهم، فعن أنس رضى الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون »([1])، ويؤكده قوله صلي الله عليه وسلم : « مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره »([2]).
ورؤيته صلي الله عليه وسلم لا تعد إلا أن تكون انكشافًا للولي عن حاله الذي هو في قبره صلي الله عليه وسلم يقظة، وهذا لا ينكره العقل، ويؤيده النقل فقد ثبت عن سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يخطب فكشف الله له عن حال سارية - كرامة له رضى الله عنه - وهو في بلاد نهاوند بفارس، وناداه قائلا : « يا سارية الجبل الجبل، وسمع سارية النداء »([3])، وطالما جاز وقوعه لغير النبي صلي الله عليه وسلم فلا يقتصر على عمر بن الخطاب رضى الله عنه أو حتى الصحابة وحدهم، وكذلك المرئي فقد يكون سارية أو غيره.
وقد تكون الرؤية رؤية صورة النبي صلي الله عليه وسلم الحقيقية بمعنى أن النبي صلي الله عليه وسلم في مكانه في روضته الشريف، والرائي رأى صورته الشريفة وتسمى صورة من عالم المثال، وذلك ينتج من كثرة المحبة والتفكير في شخصه الشريف صلي الله عليه وسلم ، فالإنسان قد تتعدد صورته بتعدد الأسطح العاكسة كالمرايا وغيرها.
وقد ورد النص النبوي الذي يؤكد إمكانية وقوع رؤية النبي صلي الله عليه وسلم يقظة، فعن أبي هريرة قال سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول : « من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي »([4]). فعبارة النبي صلي الله عليه وسلم «فسيراني في اليقظة» تدل على إمكان رؤيته له في حياته، وتخصيص اليقظة بيوم القيامة بعيد، لأمرين؛ الأول أن أمته صلي الله عليه وسلم ستراه يوم القيامة من رآه في المنام ومن لم يره، الثاني : أن الحديث لم يقيد اليقظة بيوم القيامة، وهذا التخصيص بغير مخصص تحكم ومعاندة.
ولقد ثارت هذه المسألة في زمن العلامة السيوطي فصنف كتابًا خاصًا وسماه : «تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك» وقال في مقدمته : «فقد كثر السؤال عن رؤية أرباب الأحوال للنبي صلي الله عليه وسلم في اليقظة، وأن طائفة من أهل العصر ممن لا قدم لهم في العلم بالغوا في إنكار ذلك والتعجب منه، وادعوا أنه مستحيل، فألفت هذه الكراسة في ذلك وسميتها : «تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك »([5])، ولقد ساق في تلك الرسالة الأدلة والبراهين على جواز وإمكان رؤية النبي صلي الله عليه وسلم يقظة وكذلك سماع صوته صلي الله عليه وسلم والملائكة.
يقول ابن حجر الهيتمي : « أنكر ذلك جماعة وجوزه آخرون وهو الحق، فقد أخبر بذلك من لا يتهم من الصالحين، بل استدل بحديث البخاري (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) أي بعيني رأسه، وقيل بعين قلبه.
واحتمال إرادة القيامة بعيد من لفظ اليقظة، على أنه لا فائدة في التقييد حينئذ؛ لأن أمته كلهم يرونه يوم القيامة من رآه في المنام ومن لم يره في المنام. وفي شرح ابن أبي جمرة للأحاديث التي انتقاها من البخاري ترجيح بقاء الحديث علىعمومه في حياته ومماته لمن له أهلية الاتباع للسنة ولغيره. قال : ومن يدعي الخصوص بغير تخصيص منه صلي الله عليه وسلم فقد تعسف، ثم ألزم منكر ذلك بأنه غير مصدق بقول الصادق، وبأنه جاهل بقدرة القادر وبأنه منكر لكرامات الأولياء مع ثبوتها بدلائل السنة الواضحة »([6]).
ويقول العلامة النفراوي المالكي : « يجوز رؤيته عليه الصلاة والسلام في اليقظة والمنام باتفاق الحفاظ، وإنما اختلفوا هل يرى الرائي ذاته الشريفة حقيقة أو يرى مثالا يحكيها، فذهب إلى الأول جماعة وذهب إلى الثاني : الغزالي، والقرافي، واليافعي، وآخرون، واحتج الأولون بأنه سراج الهداية، ونور الهدى، وشمس المعارف كما يرى النور والسراج والشمس من بعد، والمرئي جرم الشمس بأعراضه فكذلك البدن الشريف، فلا تفارق ذاته القبر الشريف، بل يخرق الله الحجب للرائي ويزيل الموانع حتى يراه كل راء ولو من المشرق والمغرب، أو تجعل الحجب شفافة لا تحجب ما وراءها، والذي جزم به القرافي أن رؤياه منامًا إدراك بجزء لم تحله آفة النوم من القلب فهو بعين البصيرة لا بعين البصر بدليل أنه قد يراه الأعمى. وقد حكى ابن أبي جمرة وجماعة أنهم رأوا النبي صلي الله عليه وسلم يقظة . وروي : «من رآني مناما فسيراني يقظة». ومنكر ذلك محروم؛ لأنه إن كان ممن يكذب بكرامات الأولياء، فالبحث معه ساقط لتكذيبه ما أثبتته السنة أشار إلى جميع ذلك شيخ مشايخنا اللقاني في شرح جوهرة التوحيد»([7]).
وقال ابن الحاج في المدخل : « بل بعضهم يدعي رؤيته عليه الصلاة والسلام ، وهو في اليقظة وهذا باب ضيق، وقل من يقع له ذلك الأمر إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان، بل عدمت غالبا، مع أنا لا ننكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في ظواهرهم وبواطنهم »([8]).
بل إن الشيخ عليش تكلم عن أن رؤية النبي صلي الله عليه وسلم من أسباب تأييد آراء العلماء المجتهدين، فقال : «وسمعت سيدي عليًا الخواص يقول : لا يصح خروج شيء من أقوال الأئمة المجتهدين عن الشريعة أبدًا عند أهل الكشف قاطبة، وكيف يصح خروجهم عن الشريعة مع اطلاعهم على مواد أقوالهم في الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، ومع اجتماع روح أحدهم بروح رسول الله صلي الله عليه وسلم، وسؤاله عن كل شيء توقفوا فيه من الأدلة : هل هذا من قولك يا رسول الله أم لا ؟ يقظة ومشافهة وكذلك كانوا يسألونه صلي الله عليه وسلم عن كل شيء من الكتاب والسنة قبل أن يدونوه في كتبهم ويدينوا الله تعالى به ويقولون يا رسول الله قد فهمنا كذا من آية كذا وفهمنا كذا من قولك في الحديث الفلاني كذا فهل ترضاه أم لا، ويعملون بمقتضى قوله وإشارته صلي الله عليه وسلم، ومن توقف فيما ذكرناه من كشف الأئمة ومن اجتماعهم برسول الله صلي الله عليه وسلم من حيث الأرواح، قلنا له : هذا من جملة كرامات الأولياء بيقين »([9]).
من العرض السابق نرى أن رؤية الصالحين للنبي صلي الله عليه وسلم في اليقظة قد تحدث، ولا يوجد مانع عقلي أو شرعي يمنعها، ولكن هذا باب عزيز ليس مفتوحًا لكل أحد، وينبغي على من رآه أن لا يحدث من لا طاقة له بهذا حتى لا يكذب فمخاطبة الناس بما يعقلون أولى، والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________________________________________________
([1]) أخرجه أبو يعلى في مسنده، ج6 ص 147، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب، ج1 ص 119، وذكره أبو بكر الهيثمي في مجمع الزوائد ج8 ص 211، وعقبه بقوله : «رواه أبو يعلى والبزار، ورجال أبي يعلي ثقات».
([2]) أخرجه أجمد في مسنده، ج3 ص 148، ومسلم في صحيحه، ج4 ص 1845، والنسائي في سننه، ج1 ص 419، وابن حبان في صحيحه، ج1 ص 241.
([3]) رواه الطبراني في تاريخه، ج2 ص 553، وابن عبد البر في الاستيعاب، ج4 ص 1605، وذكره ابن حجر في الإصابة، ج3 ص 6.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج6 ص 2567، وأبو داود في سننه، ج4 ص 305.
([5]) تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك، ص 10، طبعة دار جوامع الكلم.
([6]) الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي.
([7]) الفواكه الدواني، للنفراوي، ج2 ص 360.