اشتهر أبناء مصر المحروسة بحبهم الشديد وشغفهم وتعلقهم الوجداني بكتاب الله, فيكتب أحمد أمين في كتابه الماتع: قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية الصادر في عام 1953, تحت عنوان تلاوة القرآن: إن من سمات المصريين التي تميزوا بها عن سائر الشعوب ارتباطهم بكتاب الله, فاهتموا بحفظه وعلموه أولادهم, وأنشأوا له الكتاتيب الصغيرة في مختلف أنحاء البلاد فارتبط تعلم القرآن بتعلم القراءة والكتابة, ويقسم الشيخ المحفظ, والذي يلقبه الأطفال (بسيدنا), مهامه بين التحفيظ والمراجعة فيحفظ الطفل ما في استطاعته طوال الأسبوع, ثم يسمع للشيخ ما حفظه في بداية الأسبوع التالي, ويستمر في ذلك حتى يتم القرآن.
وامتد الارتباط بين المصريين وكتاب الله إلى حد اتخاذ تلاوته من قبل البعض حرفة ومهنة يرتزق بها, وقد انتشرت هذه المهنة كما يؤكد أحمد أمين في قاموسه بين فاقدي البصر حتى أصبحت مصدرا رئيسيا للرزق لمن يبتليه الله تعالى بفقد حبيبته, فيدعوه الناس إلى منازلهم في أيام الجمع والأعياد والمآتم للقراءة, فإذا كان حسن الصوت اشتهر وذاع صيته, وإذا تدهور به الحال, يجلس ليقرأ في الطرقات والشوارع فيعطف عليه المارة ببعض النقود أو المأكولات. ورغم حالته هذه, إلا أنه يقع في قلب المصريين في منزلة تسمو فوق منزلة المتسولين, باعتباره حافظا للقرآن.
ويعتقد المصريون أن قراءة القرآن في المنازل أو المحال التجارية تجلب البركة والرزق وتبعد الشياطين والأبالسة, واعتاد الأغنياء وأفراد الطبقة المتوسطة إحضار القراء للمنازل طوال ليالي رمضان تبركا واحتفالا بالشهر الكريم, ويدعو صاحب المنزل الأصحاب والأقرباء للاستماع للقارئ وشرب المشروعات الساخنة من شاي وقهوة, وانتشرت هذه العادة أيضا بين النساء, خاصة في المآتم فظهر جيل من القارئات المصريات مثل الشيخة: كريمة العدلية والشيخة منيرة عبده وغيرهما, وهناك تسجيلات لهن في الإذاعة المصرية التي تم تسجيلها في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين, كما اعتادت الشيخة كريمة العدلية إقامة حفل ضخم للإنشاد في الخميس الأول من كل شهر في أحد بيوت أثرياء الأقاليم وكان ذلك في عام 1905, واعتاد حضور هذه الحفلات كبار القراء وهم في مقتبل العمر حينذاك مثل الشيخ علي محمود, ومحمد رفعت, ومحمد الصيفي ومنصور بدار. (راجع ألحان السماء لمحمود السعدني).
وكانت عادة المصريين في المآتم إحضار القارئ ليقرأ ما تيسر من سورة البقرة إذا كان الوقت عصرا, وتلاوة ما تيسر من سورة يونس وهود ويوسف والرعد والنحل والإسراء إذا جن الليل, ويختمون دائما بقصار السور.
كما يتم دعوة القارئ لقراءة الآيات أثناء الدفن حتى يواري الميت التراب، وأكد أحمد أمين أن من أسباب ذلك حث النساء الحاضرات لعملية الدفن على الامتناع عن العويل والصياح حيث اعتاد المصريون الاستماع بخشوع إلى آيات القرآن متى بدأت التلاوة. ولنفس الأمر اعتاد الإمام في المسجد قراءة ما تيسر من سورة الكهف يوم الجمعة قبل الصلاة ليحث المصلين علي الإسراع للمسجد وعدم التأخر وللجلوس في سكون وتؤدة.
وامتد الأمر للحفلات السياسية الكبيرة, فكان يدعو منظمو الحفل أحد مشاهير القراء ليبدأ الحفل بتلاوة بعض آيات القرآن, وكان زعيم الأمة سعد زغلول باشا يفعل ذلك أثناء ثورة 1919, فكان يصاحبه في جميع المحافل السياسية الشيخ محمود البربري الذي كان يعرف بمقرئ حزب الوفد, فلا يبدأ الحزب اجتماعه إلا بقراءة وتلاوة الشيخ محمود, وكان الشيخ محمود يرفض التلحين في التلاوة وكان مغرما بالإعادة فيقرأ لمدة ساعات طويلة عددا قليلا من الآيات.
وعندما تم القبض عليه, طلب سعد من الشيخ منصور بدار أن يحل محله, فلقب بمقرئ الثورة وقد اعتزل الشيخ بدار التلاوة بعد تأبينه سعد زغلول لمدة سبع ليال متواصلة, ولم يظهر الشيخ بعد ذلك سوى مرتين في الذكرى السنوية الثانية لسعد زغلول سنة 1930, وفي مأتم الملك فؤاد سنة 1936.
ويؤكد أحمد أمين أن انتشار المذياع كان له أكبر الأثر في اندثار هذه العادة وهي دعوة المقرئين للمنازل والمحال التجارية, واقتصارها فقط على المآتم, واعتادت الإذاعة المصرية على التعاقد مع مشاهير القراء وأصحاب الأصوات الحسنة, وقامت بتسجيل العديد من الأسطوانات فكان لها أكبر الأثر في الحفاظ على هذا التراث الضخم من الضياع, ثم كان انطلاق إذاعة القرآن الكريم في الخامس والعشرين من مارس عام 1964م تتويجا لروح التناغم بين الشعب المصري وكتاب الله عز وجل, لكونها أول إذاعة متخصصة في الإعلام الديني في العالم العربي والإسلامي, وكانت أولى المهام الأساسية لهذه الإذاعة هي إذاعة آيات القرآن الكريم مرتلا ومجودا بصوت مشاهير القراء على مدي اليوم والليلة, كما اهتمت الإذاعة بالعلوم الشرعية الأخرى من تفسير وحديث وسنة وتاريخ إسلامي وغير ذلك بما يؤكد وسطية الإسلام ويبعده عن الأفكار الهدامة المتطرفة ويرسخ حب الانتماء للوطن والحرص على ما في الحضارة المصرية القديمة والمعاصرة من كنوز وتراث, فكانت الإذاعة ولا تزال أحد منابر الحق.
هذه هي بعض عادات المصريين مع كتاب الله, والتي تدل على مدي تعلق هذا الشعب بقراءة القرآن فأصبح جزءا من تراثه وثقافته وهويته وتاريخه وحضارته.
قراءة القرآن من العادات المحببة إلى المصريين وتتوهج هذه العادة في شهر رمضان الكريم, والمقارئ المصرية جزء لا يتجزأ من التراث المصري, حيث قالوا قديما: إن القرآن نزل في مكة, وطبع في إسطنبول, وقرئ في مصر، وتتميز مدرسة التلاوة المصرية بعدد لا حصر له من القراء أصحاب الأصوات المميزة التي جمعت بين: حلاوة الصوت, والتمكن من الأداء, والحفظ التام للقرآن, والدراسة الدقيقة لفن التجويد من إدغام وإظهار وتنوين ومد وغيرها من أحكام التلاوة, فهم كما قال عنهم شيخ مشايخ كردستان في كتابه: (أفضل قراء القرآن) إنهم -أي القراء المصريين- يجتازون عتبات الأذن ليصلوا بالمتلقي إلى قمة النشوة القرآنية ليتخيل أنه يسبح فوق نهر من لبن.
وقد حوت المكتبة المصرية العديد من الكتب الماتعة التي تناولت القراء المصريين, لعل من أشهرها كتاب الراحل محمود السعدني بعنوان: ألحان السماء الذي طبع للمرة الأولي سنة 1959م, وحوى قصصا ممتعة عن العديد من قراء الجيل الذهبي في مصر لا يعرفها سوى مؤلف الكتاب بعدما صحبهم في حياته لأيام طويلة, وسجل كل ما وصل إليه من حكاوي وقصص, وهناك كذلك كتاب الإذاعي أحمد همام بعنوان: سفراء القرآن الكريم الذي تناول فيه السيرة الذاتية لستة عشر مقرئا من مشاهير -حسب تعبيره- دولة التلاوة في مصر, حيث تناول المؤلف رحلتهم مع القرآن حتى صاروا نجوما تتلالأ في المجتمع المصري, وهناك كتاب: عباقرة التلاوة في القرن العشرين للصحفي شكري القاضي, وتطرق الكتاب لقراء لم يتحدث عنهم أحد قبل ذلك واعتبرهم المؤلف قراء عظاما مثل: الشيخ محمود البيحرمي, ومحمد محمود رمضان, والشيخ محمود أبو السعود, أما الجزء الأخير في الكتاب فحوى قائمة بأسماء القراء والمبتهلين المعتمدين في الإذاعة المصرية, وهي وثيقة مهمة توثق العديد من الأسماء التي ضاعت في صفحات التاريخ.
وتضم مدرسة التلاوة المصرية العديد من الأسماء البارزة التي تعدت في شهرتها حاجز الزمان والمكان, فهناك الشيخ محمود علي البنا الذي تناولت سيرته الشخصية ابنته الكاتبة آمال البنا, تحت عنوان: صوت تحبه الملائكة وقد ولد الشيخ في قرية شبرا باص مركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية شمال مصر يوم 17 من شهر ديسمبر سنة 1962م, وحفظ القرآن الكريم في كتاب القرية على يد الشيخ موسى المنطاش, وأتم حفظه وهو في الحادية عشرة, ثم انتقل إلى مدينة طنطا لدراسة العلوم الشرعية بالجامع الأحمدي, وتلقى القراءات فيها على يد الإمام إبراهيم بن سلام المالكي, كما درس الشيخ علوم المقامات, والموسيقى على يد الحجة في ذلك المجال الشيخ درويش الحريري, ولقب بسفير القرآن لكثرة سفره لمختلف الدول العربية وبعض الدول الأوروبية لقراءة القرآن بصوته الجميل, وأعتبر قارئا لجمعية الشبان المسلمين عام 1974م, وكان يفتتح كل الاحتفالات التي تقيمها الجمعية, وانضم إلى الإذاعة المصرية في عام 1984 حيث بدأ بقراءة ما تيسر من سورة هود, وتوفي الشيخ الجليل في عام 1985، ودفن في ضريحه الملحق بمسجده في قريته التي نشأ بها.
وهناك الشيخ عبد الباسط عبد الصمد, صاحب الحنجرة الذهبية, وقد نشرت سيرته الشخصية في كتاب من تأليف الدكتور زكريا, بعنوان: صوت من السماء, وقد قدم له الإمام الأكبر شيخ الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوي, وولد الشيخ في عام 1927 م بقرية المراعزة التابعة لمدينة أرمنت بمحافظة قنا, وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ محمد الأمير شيخ كتاب قريته, كما أخذ القراءات على يد الشيخ المتقن محمد سليم حمادة, انضم الشيخ للإذاعة المصرية سنة 1591 حيث قرأ ما تيسر من سورة فاطر, وعين قارئا لمسجد الإمام الشافعي سنة 1952 ثم لمسجد الإمام الحسين سنة 1958 خلفا للشيخ محمود علي البنا, وكان من المجاهدين لإنشاء نقابة للمقرئين, وتم تعيينه أول نقيب لها سنة 1984، وانتقل الشيخ إلى جوار ربه عام 1988، وهناك الشيخ محمد رفعت بن محمود بك، ومحمد رفعت اسم مركب, ولد في حي المغربلين بالدرب الأحمر بالقاهرة عام 1882 وهو أول من افتتح الإذاعة المصرية في 31 مايو من عام 1943, بقوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح:1], وقد عرف الشيخ القارئ بالعديد من الألقاب منها قيثارة السماء, وكروان الإذاعة, والصوت الذهبي, والصوت الملائكي. توفي الشيخ في عام 1950 في نفس يوم مولده عن عمر يناهز 68 عاما، وذلك بعد إصابته بالأمراض العضال في السنوات الأخيرة من عمره, نعته الإذاعة المصرية عند وفاته قائلة: أيها المسلمون فقدنا اليوم علما من أعلام الإسلام.
ومن مشاهير مدرسة التلاوة المصرية, الشيخ القارئ محمود خليل الحصري, الذي اشتهر بقراءته المتماثلة في دقتها بالوحي المنزل على سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وهو من القراء القلائل الذين تركوا تراثا ضخما من التسجيلات المسموعة حيث سجل القرآن كاملا مرتلا للإذاعة المصرية عام1960، كما ترك تسجيلات أخرى للمصحف المرتل بروايات مختلفة حفص, وورش عن نافع، وقالون عن نافع, والدوري, ثم المجود, فضلا عن المصحف المعلم, كما ترك العديد من المؤلفات المطبوعة حول أحكام التجويد والتلاوة مثل: أحكام قراءة القرآن الكريم, والقراءات العشر من الشاطبية والدرة, وأحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر, بالإضافة إلى كتاب يحكي فيه بعضا من سيرته الشخصية تحت عنوان: رحلاتي في الإسلام.
هذه الأسماء الأربعة هي فقط مثال وليست حصرا للقراء المصريين, فهناك أسماء أخرى كالشيخ: صديق المنشاوي, والشيخ أبي العينين شعيشع, والشيخ مصطفي إسماعيل وغيرهم, وهم معا رسموا المعالم الأساسية للمدرسة المصرية في تلاوة كتاب الله والتي ستظل منبرا لصوت الإسلام وواحة للآذان المتعطشة للتمتع والأنس بكلام الله سبحانه وتعالى.
لفظ (رمضان) مشتق من الرمض, وهو: شدة وقع الشمس على لرمل وغيره, وقال الليث: (هو حرقة القيظ), والاسم: الرمضاء, وإنما اشتقت كلمة (رمضان) من هذا المعنى لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي هي فيها, فوافق رمضان أيام رمض الحر, وقيل: رمضان مشتق من (رمض الصائم) أي: اشتد حر جوفه: أو لأنه يحرق الذنوب. وجمع رمضان: رمضانات وكانت الاحتفالات في مصر برؤية هلال رمضان تبدأ في يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان وكانت الاحتفالات كبيرة وعظيمة علي مدى التاريخ الإسلامي في مصر يحضرها وجوه الناس وكبار رجال الدولة في العاصمة والمدن الكبرى, ويؤكد المؤرخ إبراهيم عناني -عضو اتحاد المؤرخين العرب- أنه في عام 155هـ خرج أول قاض لرؤية هلال رمضان وهو القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الذي ولي قضاء مصر, وخرج لنظر الهلال, وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته, حيث كانت تعد لهم دكة على سفح جبل المقطم عرفت بـ دكة القضاة, يخرج إليها لاستطلاع الأهلة, فلما كان العصر الفاطمي بني قائدهم بدر الجمالي مسجدا له على سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصدا لرؤية هلال رمضان, كما سن الفاطميون أيضا ما يعرف بموكب أول رمضان أو موكب رؤية الهلال, وهي العادة الحميدة التي استمرت في العصر المملوكي, فكان قاضي القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الشموع والفوانيس, ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف, وتم في هذا العصر نقل مكان الرؤية إلى منارة مدرسة المنصور قلاوون -المدرسة المنصورية- بين القصرين لوقوعها أمام المحكمة الصالحية مدرسة الصالح نجم الدين بالصاغة، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن وتضاء المساجد, ثم يخرج قاضي القضاة في موكب تحف به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتى يصل إلى داره, ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنة الصيام.
أما في العصر العثماني, فعاد موضع استطلاع الهلال مرة أخرى إلى سفح المقطم فكان يجتمع القضاة الأربعة وبعض الفقهاء والمحتسب بالمدرسة المنصورية في بين القصرين, ثم يركبون جميعا يتبعهم أرباب الحرف وبعض دراويش الصوفية إلى موضع مرتفع بجبل المقطم حيث يترقبون الهلال, فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل إلى المدرسة المنصورية, ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال رمضان ويعود إلى بيته في موكب حافل يحيط به أرباب الطرق والحرف بين أنواع المشاعل في ليلة مشهودة. واستمر الأمر على ذلك حتى أمر الخديو عباس حلمي الثاني بنقل مكان إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق.
ومع إنشاء دار الإفتاء المصرية في أواخر القرن التاسع عشر, أسندت إليها مهمة استطلاع هلال رمضان والاحتفال به, وتقوم الدار بهذه المهمة كل عام بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان, ويتم ذلك من خلال لجانها الشرعية والعلمية المنتشرة بجميع أنحاء الجمهورية بالوادي الجديد وتوشكا وسوهاج وقنا والبحر الأحمر ومدينة السادس من أكتوبر ومرسى مطروح ومرصد حلوان. وتعلن الدار نتيجة الاستطلاع في احتفال جميل يحضره الإمام الأكبر والمفتون السابقون ووزير الأوقاف ومحافظ القاهرة والوزراء وسفراء الدول الإسلامية ورجال القضاء وغيرهم من رجال الدولة ويكونون جميعا في ضيافة مفتي الديار المصرية.
ولقد كان الاحتفال يتم في سرادق بجوار دار القضاء العالي عندما كان مقر دار الإفتاء فيها, ثم استقلت الدار بمبناها الحالي بالدراسة وانتقل الاحتفال لقاعة المؤتمرات بالدور الأرضي بمبنى الدار, إلى إن ضاقت بالحضور فانتقلت إلى قاعة المؤتمرات الكبرى للأزهر الشريف بمدينة نصر بالقاهرة، ويتم نقل الاحتفال من خلال الإذاعات الرسمية المسموعة والمرئية, ويبدأ الاحتفال بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم, ثم يعلن فضيلة المفتي ثبوت رؤية الهلال ومن ثم يكون اليوم التالي هو غرة الشهر الكريم, أو عدم ثبوته ويكون اليوم التالي المتمم لشهر شعبان.
وتتقيد دار الإفتاء المصرية في رؤية الهلال بقرارات مؤتمر جدة التي أقرتها منظمة المؤتمر الإسلامي, وقرارات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثالث المنعقد في الفترة من 30 سبتمبر إلى 27 أكتوبر من عام 1966م, والذي نص في قراره الخاص بتحديد أوائل الشهور القمرية في بنده رقم 1 الفقرة (ب) على الآتي: يكون ثبوت رؤية الهلال بالتواتر والاستفاضة, كما يكون بخبر الواحد ذكرا كان أو أنثى, إذا لم تتمكن التهمة في إخباره لسبب من الأسباب, ومن هذه الأسباب مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به الصادر ممن يوثق به, وهذا يعني أن الاعتماد على الرؤية البصرية هو الأساس مع الاستئناس بالحساب الفلكي لإفادته القطع واليقين في مثل تلك الأمور المحسوسة, والحساب الفلكي ينفي ولا يثبت, فإذا نفى الحساب إمكان الرؤية فإنه لا تقبل شهادة الشهود على رؤيته بحال, لأن الواقع الذي أثبته العلم الفلكي القطعي -يكذبهم, وفي هذا جمع بين الرؤية البصرية المأمور بها والحساب الفلكي المقطوع بدقته, وهو ما اتفقت عليه قرارات المجامع الفقهية الإسلامية كما أشرنا.
وقد انتهجت الدار سلوكا حميدا للاحتفال بقدوم الشهر بطبع كتيب عن الصيام يوزع على السادة الحضور, كما يوزع على الجمهور الزائر للدار على مدي الشهر الكريم, ويتناول الكتاب فضائل الشهر والمسائل الفقهية المتنوعة الخاصة بفضل شهر رمضان, وأحكام الصيام من: أركان وشروط ومبطلات, ومكروهات, والأعذار المبيحة للفطر, وأحكام قراءة القرآن وختمه, وفضل قيام ليلة القدر, وأحكام زكاة الفطر وحكمتها, وفضل صيام ست من شوال وغير ذلك. وهذه سنة حسنة للدار تنتهجها في جميع المواسم الدينية كالحج وغيره.
لقد شهدت الأمة الإسلامية منذ أيام مؤتمرا حاشدا يتكرر كل عام, يتجمع فيه المسلمون من شتى بقاع العالم على صعيد واحد, بزي واحد, وبنداء واحد, متوجهين إلى رب واحد, في مشهد عظيم يجمع بين هيبة الجلال ورحمة الجمال ابتغاء الفضل من صاحب صفات الكمال.
ذلك اليوم المشهود يوم عرفة, الذي خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا في حجة الوداع خطبة لم يعرف التاريخ مثلها, ولم ينطق أحد بأفصح منها, والتي تعد جامعة لأصول المبادئ والقيم الإسلامية والإنسانية, مما جعلها بمنزلة الإعلان الأول لحقوق الإنسان.
في هذه الخطبة العظيمة جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أمور دينهم ودنياهم, وحدد أسس العلاقة بين الإنسان وربه التي قوامها قطع كل ما يربط المسلم بالجاهلية, وكذلك وضع دستورا ينظم العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم, وبينه وبين غير المسلم, بادئا خطابه إلى كل الناس وليس للمسلمين وحدهم فقال: أسمعوا مني أبين لكم, فأني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا, في موقفي هذا, وقد كانت حقا وصية مودع لم يمكث بعدها إلا ثلاثة أشهر وبعدها اختار جوار ربه.
يقول الإمام الغزالي: إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.. وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق (المستصفى 1/834), وبتلك المقاصد النبيلة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم خطبته فقال: إن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة, يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا.
وفي علاقة الإنسان بربه قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ربا الجاهلية موضوع, وإن أول ربا أبدا به ربا عمي العباس بن عبد المطلب, وإن دماء الجاهلية موضوعة, وإن أول دم عامر بن ربيعة بن الحارث, إن مآثر الجاهلية موضوعة, فأراد أن ينزع كل ما ترسخ في صدور الناس من عوالق الجاهلية من ربا وثأر ومآثر قبلية, ليخلصهم من أدرانها وأوحالها, فيكونوا عبادا مخلصين لله حنفاء, واتخذ من نفسه قدوة حسنة حين بدأ بوضع الربا والثأر المتعلقين بأهله وعشيرته, أي قدوة خير من القائد الذي يبدأ بتطبيق ما يدعو إليه على نفسه!
وفي تأصيل علاقة المسلمين ببعضهم حذرنا, صلى الله عليه وسلم من خطر التكفير وقتال المسلمين بعضهم بعضا, وكأنه ينظر بعين المستقبل ويستشعر ما سيحدث لأمته من بعده من تفرق وتشرذم, فحذر من ذلك قائلا: فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض, فإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده, كتاب الله.
كذلك رسخ الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ الأخوة بين المسلمين. بقوله: المؤمنون إخوة, ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، وفي ذلك دعوة إلى إقامة مجتمع قوي متماسك: فالمسلم أخو المسلم, لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته, ومن فرج عن مسلمٍ كربةً فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة, ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (صحيح البخاري 2/862).
وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللبنة الأولى للمجتمع وهي الأسرة, وعمادها المرأة, فأكد حقها في الحياة الكريمة في إطار مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلق والتكاليف الشرعية والكرامة الإنسانية, حرصا على بناء الأسرة الصالحة, وذلك بقوله: إن لنسائكم عليكم حقا, ولكم عليهن حق.. فاتقوا الله في النساء, واستوصوا بهن خيرا, فالاهتمام بالمرأة والحفاظ على حقوقها وصونها مدعاة لتنشئة جيل مسلم قوي يعرف حقوقه وواجباته, ويحمي نفسه ووطنه وعقيدته.
وعن علاقة المسلم بغيره أرسى صلى الله عليه وسلم قيمة المساواة بين البشر جميعا دون النظر إلى عرقٍ أو نسبٍ أو مال, حيث قال: أيها الناس إن أباكم واحد، وإن ربكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب, لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى, وكما يقول أمير الشعراء:
الله فوق الخلق فيها وحده |
* |
والناس تحت لوائها أكفاء |
ومن المعاني التي تستقى من هذه الخطبة في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان, نداؤه بـ أيها الناس ففيه دلالة على أن أصل دين الله واحد من لدن آدم إلى قيام الساعة, ولذا لم يوجه خطابه إلى المسلمين بل إلى الناس عامة, كما ورد في قوله تعالى: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97] فالآية في سياق بيان وجوب الحج للمسلمين, ولكنها خاطبتهم بـ الناس لتبين أن الحج مشروع منذ بناء الكعبة، وهو وعد الله تعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلام.
تلك بعض مبادئ وقيم خطبة حجة الوداع التي ألقاها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, وأودع فيها وصيته لأمته, بل للناس جميعا, بما فيها من بيان لأصول سعادة الإنسان في الدارين, من خلال أحكام شرعية, محفوفة بقيم سامية, في نطاق من سنن الله الحاكمة العادلة, ليتحقق مراد الله ومقصوده في الحفاظ على أكرم خلقه وخير بنيانه وهو الإنسان, أي إنسان!
تعد الأعياد مظهرا من مظاهر الفرح والسرور في الإسلام, وشعيرة من شعائره التي تنطوي على حكم عظيمة, ومعان جليلة, فالإسلام لم يأت ليكون طوقا حول رقبة معتنقيه.
بل جاء تلبية لحاجة الإنسان الفطرية مادية وروحية, وكان مقصده الأسمى في تشريعاته وأحكامه ضبط العلاقة بين الروح والجسد, وبين الدنيا والآخرة, فقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77].
ومن مظاهر هذا المقصد الأسنى استحباب الاحتفاء بالأعياد في الإسلام; ومشروعية الترويح عن النفس من هموم الحياة, فضلا عن أنها احتفال بإتمام فريضة, فالصائمون يفرحون بالعيد لأدائهم فريضة الصوم, والحجاج يفرحون لأنهم أدوا شعيرة الحج, ويشاركهم المقيمون في أوطانهم بالتقرب إلى الله بالأضاحي إحياء لسنة الأنبياء من لدن إبراهيم إلى خاتمهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين, وبذلك سما الإسلام بمعنى العيد وربط فرحته بالتوفيق في أداء الفرائض وشكر الله على القيام بها.
والغاية العظمى من الأعياد إدخال السرور والبهجة على المسلمين رجالًا ونساءً وأطفالا, إلا أنها في الوقت ذاته لم تشرع من أجل الفرح المجرد فقط; بل لتمام البر في المجتمع الإسلامي, حيث يصبح البر قضية اجتماعية عامة, لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأغنياء بإدخال السرور على الفقراء في هذه الأيام وتجنيبهم ذل المسألة, فيحث على زكاة الفطر ويقول: «أغنوهم في هذا اليوم» (سنن الدارقطني).
وفي يوم الأضحى جاءت شعيرة الأضحية أيضا من باب إدخال السرور على الفقراء في الأعياد, فلم يسنها الإسلام ليشبع أصحاب الأضحية من اللحم, ولكن ليتشارك الجميع في الشبع, ولتلتقي قوة الغني وضعف الفقير على عدالة ومحبة ورحمة من وحي السماء, وعنوان ذلك كله: الزكاة, والصدقة, والإحسان, والتوسعة.
ومن باب السرور والبهجة في أيام العيد إدخال الفرح والسعادة على الأطفال والنساء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم, فقد دخل أبو بكرٍ رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان وتضربان الدف, ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجي بثوبه, فانتهرهما أبو بكر, فكشف رسول الله عن رأسه وقال: «دعهما يا أبا بكر, إن لكل قوم عيدا, وإن عيدنا هذا اليوم» (صحيح البخاري).
وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم النساء بمزيد عناية واهتمام في هذا اليوم فأمر بخروجهن إلى صلاة العيد مهما كانت أحوالهن, فعن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور, فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله, إحدانا لا يكون لها جلباب. قال: لتلبسها أختها من جلبابها» (صحيح مسلم). قال الشوكاني: «والحديث وما في معناه من الأحاديث قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها, ما لم تكن معتدة أو كان خروجها فتنة أو كان لها عذر».
فصلاة العيد تعد مظهرا من مظاهر الفرحة, ترتفع الأصوات فيها بالتكبير في بهجةٍ وسرور بما أنعم الله على الأمة الإسلامية من توفيقٍ في أداء الفرائض, قال تعالى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185], والتكبير هو التعظيم, والمراد به في تكبيرات العيد تعظيم الله عز وجل على وجه العموم, وذلك في كلمة: (الله أكبر) كناية عن وحدانيته بالإلوهية; لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه, والناقص غير مستحق للإلوهية; ولذلك شرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله, وشرع التكبير عند نحر الهدي في الحج وكذلك الأضحية لإبطال ما كان يتقرب به مشركو مكة إلى أصنامهم ويندب التكبير في عيد الأضحى من فجر يوم عرفة إلى غروب ثالث أيام التشريق, جماعة وفرادى في البيوت والمساجد, إشعارا بوحدة الأمة, وإظهارا للعبودية, وامتثالا وبيانا لقوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الرُّوم:30] ويسن إحياء ليلة العيد بالعبادة من ذكر وصلاة وغير ذلك من العبادات; لحديث: «من قام ليلتي العيدين لله محتسبا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (سنن ابن ماجه), ويحصل الإحياء بمعظم الليل كالمبيت بمنى, وقيل بساعة منه, وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: بصلاة العشاء جماعة, والعزم على صلاة الصبح جماعة, والدعاء فيهما.
وفي الأعياد أيضا دعا الإسلام إلى العمل على زيادة الأواصر الاجتماعية, إذ حث على بر الوالدين وصلة الأقارب ومودة الأصدقاء وزيارتهم, فتتزين المجالس بالحب والتراحم والتواد, وتزول الأحقاد والمشاحنات والنفرة من النفوس.
إن الأعياد لم تشرع لتكون مناسبات فارغة المحتوى والمضمون من الدلالات الأخلاقية والإنسانية, وإنما جاءت لتكون مظاهر لقيم الإسلام وآدابه وجمالياته المعنوية والحسية, فالأعياد تجدد الروابط الإنسانية, حيث يتجلى السلوك الطيب والأخلاق الحميدة, وتشيع التهاني والقول الحسن بين الناس, ويظهر المسلمون بصفة الرحمة التي هي قوام دينهم, فتتجدد العلاقات الإنسانية وتقوى الروابط الاجتماعية وتنمو القيم الأخلاقية, ويصبح المسلم دعوة مفتوحة لهذا الدين, ونبراسًا هاديًا لنفوس الحائرين, وبردًا وسلامًا على العالمين.
إن الفرح بالعيد له وجوه عدة, فواحد يميل إلى الذكر والعبادات, وآخر يؤثر مواساة الفقير والمحتاج بكثرة الصلات, والجميع ونحن معهم ينشرون جوًا من المحبة والوئام في المجتمع بأطيب الكلمات, وأقلها كل عام والأمة العربية والإسلامية بخير ويمن وبركات.
لم يشرع الإسلام شيئا إلا لحكمة بالغة وهدف نبيل, فما من عبادة أو شعيرة شرعت في الإسلام إلا وكان الهدف الأسمى منها هو التقرب إلى الله وزيادة درجة التقوى وتحقيق مصلحة الفرد والمجتمع.
وهكذا يجب أن تكون حياة المسلم كلها لله رب العالمين, قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].
ومن نفحات الله وفضله على عباده أن جعل لهم مواسم يتقربون إليه فيها بعبادات متنوعة, ليزدادوا قربا وعطاء وأنسا به سبحانه, ومن تلك الأوقات المخصوصة بمزيد رحمة وإحسان العشر الأوائل من ذي الحجة التي أقسم الله تعالى بها: (وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1-2] وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» (صحيح البخاري) ولذا يستحب التقرب إلى الله في هذه الأيام المباركة بجميع الوسائل.
والأضحية من هذه الوسائل التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة, والمقصود بالأضحية شكر الله تعالى على نعمة الحياة إلى حلول الأيام الفاضلة من ذي الحجة وعلى التوفيق فيها للعمل الصالح.
وتشتمل الأضحية على معان جليلة وحكم قيمة; منها: التشبه بالحجاج حين ينحرون هديهم في فريضة الحج, سواء على وجه الوجوب للمتمتع والقارن أو على الاستحباب للمفرد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا» (سنن الترمذي).
ومن التشبه بالحجاج أيضا في الأضحية أنه يسن لمن أراد الأضحية عدم قص الأظافر وحلق الشعر إلا بعد ذبح أضحيته, كما هو شأن الحجاج, وهو تشبه بهم في كونهم شعثا غبرا, فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أراد أن يضحي فلا يقلم أظفاره ولا يحلق شيئا من شعره في العشر الأول من ذي الحجة» (سنن الدارمي).
ومن التشبه بالحجاج أيضا في الأضحية التوسعة على الفقراء والمساكين وإدخال السرور عليهم, كما قال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ) [الحج:27], ولذلك كان تقسيم الأضحية كما قال الإمام أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله: يأكل هو الثلث, ويطعم من أراد الثلث, ويتصدق بالثلث على المساكين, وقال الشافعي: أحب ألا يتجاوز بالأكل والادخار الثلث, وأن يهدي الثلث, ويتصدق بالثلث. (تفسير ابن أبي حاتم) ومن هنا قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج:37], ففي الآية دلالة صريحة على أن الأضحية لا تطلب لذاتها, ولكن للتوسعة على الفقير وابتغاء التقوى ومحبة الخير لكل الناس, ويؤكد ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها» (الترمذي).
ومن حكم مشروعية الأضحية تحقيق فضيلة التقوى, وذلك بالإذعان والطاعة والانقياد لأمر الله تعالى حيث قال: (لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ) [الحج:37], وتتحقق التقوى كذلك بحسن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وبيانه لشروط الأضحية التي تدور حول سلامتها من العيوب تقوى للمضحي ونفعا للفقير, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بين عورها, والمريضة بين مرضها, والعرجاء بين ظلعها, أي عرجها, والكسير التي لا تنقي, أي الهزيلة) (سنن أبي داود) ذلك أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة:267], والإنفاق لا يكون إلا من أطيب ما يملكه الإنسان.
وفي الأضحية كذلك نوع إشارة إلى القربان الأول في حياة البشرية حيث قدم كل من ولدي آدم قربانا, فقدم هابيل كبشا من أجود الكباش التي يملكها, في حين قدم قابيل بعضا من أردأ ثمار الأرض التي يملكها, فتقبل الله قربان هابيل ورد قربان قابيل, قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ) [المائدة:27], فقبول العمل مرتبط بالتقوى, وعلامة ذلك البذل والعطاء مما يحبه الإنسان, قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
وفي الذبح والأضحية تذكير بسيدنا إبراهيم عليه السلام وإحياء لسنته, إذ ابتلي فصبر, وقدم أمر الله سبحانه ومحبته على فلذة كبده وولده إسماعيل, حين امتثل لأمر الله وهم بذبحه, ففداه الله عز وجل: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصَّافات:107].
لكل هذه المعاني ولغيرها كانت الأضحية ذات شأن ومشروعية واستحباب من قبل الشرع الشريف; إذ فيها دلالة على حسن العلاقة بين العبد وربه, وبين الإنسان وأخيه الإنسان, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» (مسند أحمد).
ووقت الأضحية يبدأ من بعد صلاة العيد لقول الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذبح بعد الصلاة تم نسكه, وأصاب سنة المسلمين» (البخاري ومسلم), وينتهي الوقت بغروب شمس ثالث أيام التشريق, وفي ذلك توسعة للزمان حتى تتحقق التوسعة على الفقراء طول أيام العيد.
يتميز الحج بمعان سامية وحكم شريفة عالية تدعونا للتأمل في أركانه وأفعاله, والنظر في نتائجه وآثاره, وهي في الجملة تطهير الأبدان وتزكية النفوس, فأفعال الحج كلها تربية عملية على الطاعة التامة لله رب العالمين, والإخلاص في العبودية له، والامتثال لأمره, فضلا عن شمولها لكثيرٍ من المعاني التي تسهم في بناء مجتمع إسلامي متكامل, ووحدة عضوية وروحية مترابطة. ومن تلك المعاني العظيمة:
(1) التجرد: فالحج ينأى بالإنسان عن هموم الحياة وتعلقه بها لتصفو نفسه وتسمو روحانيته فيزداد قربا من الله, وأولى خطوات هذا التجرد هي الإحرام, الذي يعني التجرد من كل ما سوى الله, وأسوتنا في هذا التجرد وذلك التعلق ما فعله وقاله أبو الأنبياء إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) [إبراهيم:37].
والحاج في هذه الحالة من التجرد لله يتشبه بالملائكة في التجرد المحض للخير, قال الله تعالى فيهم: (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التَّحريم:6] وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: «التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين, والتجرد للشر دون التلافي سجية الشياطين, والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين; فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان, والمتجرد للشر شيطان, والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان» [الإحياء 3/105].
وعندما يكون المرء أقرب للملائكة ينبذ الرفث ويهجر الفسوق ويتزود بخير زاد, كما قال تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (صحيح البخاري 2/553).
(2) المداومة بعض الوقت على أعمال الآخرة: ومظهر ذلك الذكر والتلبية ,فعندما يتجرد القلب لله يعرف القصد والغاية, فلا يقطعه عنه قاطع, ولا يشغله عنه شاغل, فيلهج لسانه بذكر الله عز وجل ودعائه وتلبيته, فلا نسمع إلا صدى التلبية وأصوات التكبير التي تبين أن هذه الأمة في حقيقتها إنما تكبر الله, وتستصغر كل شيء سواه, وتتحقق بذلك واقعا, فتبتهج الخلائق من حول الحجاج فتشدو أجمل الألحان وأصدقها: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك», ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا» (الترمذي3/410)، وهذا الذكر يؤدي إلى شحن القلوب وغمرها بفيوض الإيمان, وإلى تقوية الصدور باليقين والتجرد لرب العالمين.
(3) التقاء الأرض بالسماء: ففي ظل هذه الروح العامرة بالذكر تلتقي الأرض بالسماء حين تقع عين المرء على الكعبة المشرفة ويعلم أن الدعاء عندها مطلوب ومستجاب; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحجاج والعمار وفد الله, إن دعوه أجابهم, وإن استغفروه غفر لهم» (سنن ابن ماجه 2/966), قال المناوي: «وعند رؤية الكعبة يحتمل أن المراد أول ما يقع بصر القادم إليها عليها, ويحتمل أن المراد ما يشمل دوام مشاهدتها, فما دام إنسان ينظر إليها فباب السماء مفتوح والدعاء مستجاب, والأول أقرب» (فيض القدير 3/339).
وفي الطواف بالبيت تشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش وأيضا الطائفين حول البيت المعمور في السماء السابعة, وما القصد طواف الجسم, بل طواف القلب بذكر الرب سبحانه. وفي التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم طلب القرب حبا وشوقا للبيت ولرب البيت, وتبركا بالمماسة وبالإلحاح في طلب المغفرة.
وفي السعي بين الصفا والمروة مضاهاة تردد العبد بفناء الملك ذهابا ومجيئا إظهارا للخلوص في الخدمة, ورجاء للملاحظة بعين الرحمة, والتجاء إلى من بيده الضر والمنفعة.
(4) الشعور بالانتماء لأمة مترامية الأطراف مترابطة الأواصر: وذلك يوم وقوف الحجيج جميعا بعرفة في صعيدٍ واحد ووقتٍ واحد, ساعتها يدرك الإنسان أن تكاليف الشرع سهلة المنال; إذ السالكون والوافدون من كل فجٍ عميق, تحقيقا لوعد الله تعالى لخليله إبراهيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27], وفي هذا تذكرة بيوم الحشر واجتماع الأمم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول,وفي ذكر ذلك إلزام القلب الضراعة والابتهال إلي الله عز وجل ورجاء الحشر في زمرة الفائزين, فالموقف مهيب وشريف,والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب النقية. وفي هذا الموقف تتضح لنا قيمة الوحدة والتآلف والتراحم بين أفراد هذه الأمة التي هي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
(5) الفأل الحسن برفع الأذى: حيث نجد الحاج بعد رمي الجمرات والنحر والحلق أو التقصير في راحة نفسية كبيرة, استبشارا بأنه كما أزال عن جسده الدرن والأذى الجسماني, أن يمن الله عليه بالتخلص من درن الذنوب والخطايا والأذى النفساني.
(6) اقتران الشهادتين: ففي الحج أيضا صورة من صور اقتران شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, حين يهفو الحجيج إلى المدينة المنورة شوقًا لزيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, فهو من دلنا إلى الطريق المستقيم, وأرشدنا إلى ذلك الفضل العظيم, فزيارة المدينة النبوية لها شأن كبير في الدلالة على ارتباط الشهادتين, والاعتراف بالجميل لسيد الخلق وخاتم المرسلين, على ما أسداه إلينا من معروف فكنا بفضل الله من المسلمين. وصدق من قال: فذو العرش محمود وهذا محمد.
أنعم الله على مصر بالنيل, وهو من أعذب الأنهار طعما, وأجملها منظرا, حتى عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنهار الجنة, فقال: "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" (أخرجه مسلم 4/2183), وفي رواية أنه لما رفع صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى كان من وصفه: "وإذا أربعة أنهار نهران باطنان, ونهران ظاهران. فقلت ما هذان يا جبريل قال أما الباطنان, فنهران في الجنة, وأما الظاهران فالنيل والفرات" (أخرجه البخاري 3/1411).
واعتاد المصريون من قديم الزمان أن يحتفلوا بفيضان النيل ووفائه, وكان لهذا الاحتفال أغراض متعددة:
1- شكر النعمة قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7], وقال سبحانه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18]. والماء من أعظم النعم التي منَّ الله بها على الإنسان, قال عز وجل: (وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة:164],وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة:27], وقديما بين الفقهاء درجات أفضلية المياه إظهارا لهذه النعمة وامتثالا لعلو شأن الماء في حياة المسلم, بل وفي حياة الإنسان عامة, فقال ابن السبكي في تفضيل النيل:
أفضل المياه ماء قد نبع |
* |
من بين أصابع النبي المتبع |
يليه ماء زمزم فالكوثر |
* |
فنيل مصر ثم باقي الأنهر |
ولذلك قال أهل التجارب والخبرة: "من أقام بمصر سنة وجد في طباعه وأخلاقه رقة وحسنا" (كوكب الروضة, للسيوطي ص 208).
2- أن الله سبحانه قد جعل الماء أصل المخلوقات فقال: (وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30], وقال تعالى: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) [النور:45], ثم أكثر الحاجة إليه, وجعله عنوانا للطهارة الحسية والتهيؤ للصلاة بالوضوء أو الاغتسال, وأداة من أدوات إزالة النجاسة, وأمرنا باحترامه وبعدم إفساده وتلويثه,إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم "أن يبال في الراكد" (مسلم 1/235), والتبول في الماء الراكد لا يفسده فقط, بل يجعله مستنقعا وموطنا لانتشار الأوبئة والأمراض, ونهى كذلك عن الإسراف في استعمال الماء, ولو تعلق الأمر بالعبادة كالوضوء, فقد مر صلى الله عليه وسلم بسعد رضي الله عنه وهو يتوضأ فقال: "ما هذا السرف؟" فقال سعد: أفي الوضوء إسراف؟ قال: "نعم, وإن كنت على نهر جار" (ابن ماجة 1/147).
3- استمر المصريون في ترصد وتخصيص يوم يحتفلون فيه بالنيل عند وفائه, واشتهر ذلك اليوم باسم (وفاء النيل), وكانت هذه الحفاوة تبدأ في يوم 26 بؤونة من الشهور القبطية, وهو الوقت الذي اعتاد النيل أن يفيض من جانبيه, ويستمر في الزيادة لمدة 48 يوما, فيحتفلون في يوم 14 مسري وهو يوافق عادة يوم 20 أو 21 أغسطس باختلاف السنين الكبيسة والبسيطة.
وفي هذا اليوم ينعقد المجلس الشرعي الإداري لرصد زيادة النيل, فإن وصل المقياس إلى 16 ذراعا فأكثر وجبت الضرائب على المزارعين, وإن كانت أقل من 16 ذراعا عفي عنهم.
وكان أهل العلم هم الذين يحكمون بين الحاكم والمحكومين في هذا الشأن, وظل هذا التقليد في مصر, وتولى رئيس المحكمة الشرعية العليا حضور ذلك المجلس إلى أن ألغيت تلك المحاكم ابتداء من أول يناير سنة 1956 م, وآلت تلك الوظيفة إلى مفتي الديار المصرية.
4- ظل مفتي الديار المصرية يحضر هذا المجلس بمقر محافظة القاهرة حتى سنة 1972م, حيث تم بناء السد العالي ولم يعد النيل يوفي بفيضانه, فتوقف الاحتفال الذي كان يذكرنا بوجوب احترام النيل, وشكر النعمة عليه, والعمل على طهارته والاستفادة الرشيدة منه, وعدم السرف في مائه, وعدم التعدي على جماله, وإزالة كل ما يضر به من نبات وجزر, وكان الناس يتذكرون في مثل هذا اليوم أيضا وحدة دول حوض النيل من منابعه إلى مصبه, إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي كادت تنسى, ونحن في حاجة إلى إعادتها ونشر ثقافتها بين أبنائنا.
5- أما خرافة إلقاء عروس في النيل فقد جاءت عن طريق المؤرخ ابن عبد الحكم في القرن الثالث الهجري, حيث سمع بعض الإشاعات فسجلها دون سند من الحقيقة أو الواقع.
6- ولدينا حجة ذلك المجلس المشار إليه سنة 1958م, والتي وقعها فضيلة الشيخ/ حسن مأمون مفتي الديار المصرية, وجاء في مطلعها "انعقد المجلس الشرعي في تمام الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء الخامس من شهر صفر سنة 1378 هجرية, الموافق 20 من شهر أغسطس سنة 1958 ميلادية, والرابع عشر من شهر مسري سنة 1674 قبطية, بسراي محافظة القاهرة بميدان الجمهورية برياسة السيد اللواء/ عبد العزيز صفوت. محافظ القاهرة نائبا عن السيد الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة, وبحضور حكمدار القاهرة وسكرتير عام المحافظة ووكلاء الحكمدارية وكبار الضباط والعلماء ورجال الصحافة والإذاعة والتجار والأعيان".
ولا يسعنا في الختام إلا أن نردد ونتأمل ونعلم هذا الجيل والأجيال بعده قول سيدنا عمرو بن العاص في خطابه إلى سيدنا عمر بن الخطاب يصف له مصر ونيلها: (اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء, وشجرة خضراء, طولها شهر وعرضها عشر, يكتنفها جبل أغبر ورمل أعفر, يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات, محمود الذهاب والإياب, يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان, تعظم أمواجه فتفيض على الجانبين).
يظن كثير من المتصدرين للإفتاء أنه بمجرد قراءتهم للقرآن أو حتى حفظهم له مع بعض الإلمام بالأحاديث النبوية الشريفة, أنهم قد تأهلوا بذلك للإفتاء في دين الله تعالى, فضلا عن إرشاد الناس وتعليمهم أمور دينهم, ونسوا أو تناسوا أن العلماء قاطبة, ومعهم علماؤهم المولعون بهم, قد وضعوا للاجتهاد والإفتاء شروطا, لا تتوافر إلا في القليل من الأمة في كل عصر, مصداقا لقول الله سبحانه: (وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].
وأمر الفتوى ليس بالشيء الهين; إذ هي تمر بأربع مراحل أساسية, تخرج بعدها في صورتها التي يسمعها أو يراها المستفتي, وهذه المراحل الأربع هي: مرحلة التصوير, ومرحلة التكييف, ومرحلة بيان الحكم, ومرحلة الإفتاء.
المرحلة الأولى: مرحلة التصوير: وفيها يتم تصوير المسألة التي أثيرت من قبل السائل, والتصوير الصحيح المطابق للواقع شرط أساسي لصدور الفتوى صحيحة منسجمة مع الواقع المعيش, وعبء التصوير أساسا يقع على السائل, لكن المفتي ينبغي عليه أن يتحرى بواسطة السؤال عن الجهات الأربع التي تختلف الأحكام باختلافها, وكثيرا ما يتم الخلط والاختلاط من قبل السائل بشأنها, وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.
وقد نقل الحافظ السيوطي عن الإمام الغزالي أن وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه, بل الذكي ربما يقدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذكرت له صورتها, ولو كلف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه, ولم تخطر بقلبه تلك الصور أصلا, وإنما ذلك شأن المجتهد (كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض.. للسيوطي ص 181).
المرحلة الثانية: مرحلة التكييف: والتكييف هو إلحاق الصورة المسئول عنها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله, فتكيف المسألة مثلا على أنها من باب المعاملات لا العبادات, وهذه مرحلة تهيئ لبيان حكم المسألة الشرعي, والتكييف من عمل المفتي, ويحتاج إلى نظر دقيق.
المرحلة الثالثة: مرحلة بيان الحكم, ويؤخذ هذا من الكتاب والسنة والإجماع, ويتم إظهاره أيضا بواسطة القياس والاستدلال, ويجب على المفتي أن يكون مدركا لهذه الأدلة وترتيبها, ولدلالات الألفاظ العربية وطرق الاستنباط, وإدراك الواقع إدراكا صحيحا, ويتأتى هذا بتحصيله لعلوم الوسائل والمقاصد, كالأصول والفقه واللغة والحديث ونحوها, وبتدريبه على الإفتاء الذي ينشئ لديه ملكة راسخة في النفس يكون قادرا بها على ذلك, وكذلك تحليه بالتقوى والورع والعمل على ما ينفع الناس.
المرحلة الرابعة: الإفتاء, أو مرحلة تنزيل الحكم الذي توصل إليه على الواقع الذي أدركه, وحينئذ فلابد عليه من التأكد أن هذا الذي سيفتي به لا يكر على المقاصد الشرعية بالبطلان, ولا يخالف نصا مقطوعا به, ولا إجماعا متفقا عليه ولا قاعدة فقهية مستقرة.
ومن الأمثلة الواضحة لكيفية تطبيق تلك المراحل وتغيب عن أذهان غير المتخصصين, مسألة طلاق الغضبان, التي يفتي فيها البعض بغير علم لما سقناه, فيهلك نفسه ويدمر غيره بتشتيت شمل الأسرة وضياع أطرافها, فالغضب على ثلاثة أقسام: أولها: يصاحبه فقد الإدراك والإملاك, وفقد الإدراك أن يبلغ الغضب نهايته, بحيث ينغلق على صاحبه باب العلم والإرادة, فلا يعلم شيئا من أربعة أشياء حوله هي: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال, ويعرف هذا الفقد بالتحقيق معه, وفقد الإملاك هو أنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من أن يتفوه بكلمات الطلاق وغيرها, وهذا القسم لا خلاف بين العلماء في عدم وقوع طلاقه, لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طلاق في إغلاق (سنن ابن ماجة: 660/1). والإغلاق هو الغضب الشديد.
والقسم الثاني من الغضب هو من كان مدركا إلا أنه فقد الإملاك, فيخرج منه الكلام ولا يستطيع منعه, بحيث صار كالمجنون, وفي هذه الحالة لا يقع الطلاق أيضا على الراجح, إذ الأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعقوده, التي يعتبر فيها الاختيار والرضا, وهو فرع من الإغلاق, كما فسره به الأئمة.
والقسم الثالث: أن يكون للإنسان إدراك وإملاك, حيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه, ويعلم ما يقوله ويقصده, لهذا لا خلاف في وقوع طلاقه, خاصة إذا وقع منه ذلك عن قصد ونية, حتى ولو كان غاضبا, إذ أغلب حالات الطلاق لا تتم إلا في الغضب.
لذا كان تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الغضب شديدا, فقد روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني, قال: لا تغضب, فردد مرارا قال: لا تغضب (البخاري: 5567/5). وقال صلى الله عليه وسلم: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان (ابن ماجة 2/776). والطلاق حكم من الرجل يصدره على المرأة, فلا يصح أن يصدر منه وهو غضبان, وإذا صدر ينبغي ألا يقع, حماية للأسرة, وأسوتنا في ذلك أن الله تعالى لم يلق باللوم على سيدنا موسى عليه السلام حين ألقى الألواح بعد أن تملكه الغضب, قال تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ) [الأعراف:154]. فالغضب غول يغتال العقل ويغيبه, ويجعل الإنسان لا يعلم ما يقول, ومن هنا ندرك حكمة الشارع في عدم الاعتداد بطلاق الغضبان على ما ذكرنا.
ونستطيع أن نقرر بعد هذا البيان أن: الحكم على الشيء فرع عن تصوره, وتكييفه, وكيفية تنزيل النصوص عليه. ولا يكون ذلك إلا لمن داوم على الأخذ عن العلماء الموثوق بهم, والمشهود لهم, وثابر على الجلوس بين أيديهم, وشرب من كأسهم المترعة بالعلم والحكمة والرحمة, ومارس الفتيا أمامهم حتى أذنوا له بتعليم الناس وإفتائهم.
الفتوى منصب شريف لا يجوز أن يتولاه أو يتصدى له إلا من كان فاهما لنصوص الشريعة من القرآن والسنة كما فهمها الأئمة المجتهدون كأصحاب مذاهب أهل السنة الأربعة فضلا عن الإلمام بالواقع ومتغيراته.
وأحد هؤلاء الأئمة العظام وأولهم ميلادا هو الإمام أبو حنيفة النعمان وهو مجتهد عظيم من المجتهدين الكبار ولد سنة 80 هجرية ومات سنة 150هـ, وقد رجح بعض أهل العلم أنه رأى الصحابيين أنس بن مالك والطفيل بن عامر رضي الله عنهما إذ هما آخر الصحابة وفاة ولذلك عدوه من التابعين يعني من الطبقة التي رأت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد وصل الإمام أبو حنيفة شأوا عاليا في الفقه حتى قال عنه الإمام الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة ومعنى هذا أنه مدرسة كبيرة ولذلك أسموه بالإمام الأعظم وهو مدفون في بغداد الآن في منطقة تسمى بالأعظمية وهي نسبة إليه.
وقد أخذت مصر بمذهب الإمام أبي حنيفة منذ أن كانت مرتبطة بالدولة العثمانية التي كان مذهبها الرسمي هو المذهب الحنفي, ولما خرجت مصر عن الدولة العثمانية كان كل القضاة يحكمون في المحاكم بالمذهب الحنفي ولم توجد حاجة لتغيير المذهب الحنفي إلى سنة 1925م عندما وضعت مجموعة قوانين للأحوال الشخصية للطلاق والزواج والنسب والحضانة والرضاع والنفقة وغيرها. وقد صيغت هذه القوانين وفقا للشريعة الإسلامية وكان الأساس فيها مذهب الإمام أبي حنيفة وغيره من المذاهب الأخرى ثم تطورت هذه المجموعة القانونية عبر السنين إلى أن صدر القانون الأخير الذي جمع بين هذه القوانين كلها في سياق واحد وقد قرر في غضون هذا القانون أنه إذا وردت أو جدت مسألة ليس فيها نص واضح في القانون أن يكون المرجع فيها إلى الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة وما زالت المحاكم المصرية إلى الآن تحكم وترجح -إذا فقدت النص في القانون- مذهب الحنفية في الميراث وفي الوصية وفي ما يتعلق بالأحوال الشخصية كلها.
ومن المسائل التي أثار حولها بعض المتشددين الجدل وذلك في محاولة للطعن في الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان قول المأذون المعتمد من قبل الدولة عند عقد الزواج: على مذهب أبي حنيفة النعمان حيث قالوا: ألم يكن هناك زواج قبل أبي حنيفة؟ وهل أصبح أبو حنيفة النعمان أعلى مرتبة من الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبح يلقب بالإمام الأعظم دون غيره؟ وأصبحوا يرفضون ذكر هذه الجملة عند عقد الزواج.
وهذه الشبهة التي يروجها المتعصبون وغير المتخصصين في الفتوى -فضلا عن الفقه- مردود عليها بأن القانون المصري للأحوال الشخصية يستند كما قلنا إلى المذهب الحنفي فعندما يأتي المأذون ويقيم العقد وتقول المرأة لمن تريد الزواج منه زوجتك نفسي ويقول الرجل قبلت على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان إنما يفعلون هذا ويلتزمون به تحسبا لأي خلاف يقع بين الرجل والمرأة, إذ إنهما سوف يترافعان إلى القاضي يحكم بالقانون المأخوذ من المذاهب الإسلامية وعلى رأسها مذهب أبي حنيفة, بل سيرجع في بعض المسائل التي لم ينص عليها القانون إلى فقه أبي حنيفة واجتهادات السادة الأحناف فيها للحكم بالراجح منها في كل مسألة, هذا هو معنى قول القائل: زوجتك نفسي على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان هذا هو الشائع عند إتمام عقود الزواج, ولكن لنفرض أن شخصا لم يلتزم بهذه الجملة عند عقد النكاح فهل يبطل ذلك العقد أو يكون قد أصابه ما يشين؟ نقول: لا بطلان ولا ضرر في ذلك وليقل كما يلتزم البعض: زوجتك نفسي على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأبو حنيفة لم يخرج عن الكتاب والسنة, بل هو كغيره من الأئمة المجتهدين أشد الناس تمسكا بهما:
وكلهم من رسول الله ملتمس |
* |
غرفا من البحر أو رشفا من الديم |
وهناك علة أخرى لهذه المقولة يذكرها العلماء على سبيل الطرفة والملحة وهي أن مذهب أبي حنيفة النعمان في الزواج لا يشترط عدالة الشهود وفي هذا يقول الإمام الكاساني الحنفي: وأما عدالة الشاهد فليست بشرط لانعقاد النكاح عندنا فينعقد بحضور الفاسقين (بدائع الصنائع 2/255) وشرح ذلك السرخسي فقال: الأصل عندنا أن كل من يصلح أن يكون قابلا للعقد بنفسه ينعقد النكاح بشهادته, وكل من يصلح أن يكون وليا في نكاح يصلح أن يكون شاهدا في ذلك النكاح وعلى هذا الأصل قلنا: ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين (المبسوط: 5/31).
أما عدالة الشهود عند المذاهب الأخرى فشرط في صحة عقد النكاح فعند الشافعي شرط ولا ينعقد إلا بحضور من ظاهره العدالة واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل (السنن الكبرى للبيهقي 7/111).
ولذلك كان غرض الآخذين بمذهب أبي حنيفة هو الخروج من هذه المشكلة ورفع العنت والحرج عن الناس في أمر لا غنى لهم عنه وهو الزواج, واضعين في الاعتبار أن الأصل في المسلم العدالة دون التفتيش في أفعال المسلمين ونياتهم, خاصة في عصرنا الحاضر الذي كثر فيه أعداد المسلمين وتناءت الديار بينهم ولم يعودوا أسرا وقبائل كما كان الحال في العصور السابقة.
هذه إحدى العبارات التي تجري على الألسنة ولا يعرف كثير من الناس أصلها أو الحكمة منها وبالرغم من أن لها أصلا في الشرع والقانون فإن المتشددين ومدعي العلم كعادتهم يحاولون إثارة الفتن والتنازع والفرقة حولها وتغليب آرائهم ومعتقداتهم فيها ناسين ما تمثله تلك العبارة وغيرها من عمق تاريخي في النفس المصرية.