هل الكثرة مقياس للحق؟ وماذا يقول القرآن الكريم وتقول السنة المشرفة في هذا المعنى؟
1- المتتبع لمادة (ك ث ر) في القرآن الكريم يرى أن كلمة كثير تستعمل لنماء العدد وزيادته، ولذلك يمكن أن تتعدد الكثرة، فالتعبير بالكثرة لا يستلزم منه أن مقابلها هو الأقل، بل مجرد نماء العدد يمكننا من إطلاق اسم الكثرة عليه حتى لو كان مقابله كثيراً أيضاً، فيمكن أن نقول إن كثيراً من الناس على خير وإن كثيراً منهم على شر، وإن كثيراً آخرين ليسوا كذلك، قال تعالى في هذا المعنى: (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [المائدة:15] ، وقال تعالى: (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ) [الحج:18].
2- أما كلمة "أكثر" وهي أفعل تفضيل، فهي لا تقف عند الدلالة على نماء العدد فحسب بل تتعدى ذلك إلى بيان الأغلبية، والمتتبع للفظ "أكثر" في القرآن الكريم يجد أن انحياز الناس في أغلبيتهم إلى حالة أو رأي لا يدل على أحقيته عن الله، أما في شأن الحالة فمنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) [البقرة:243]، وقوله سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21]، وقوله تعالى: (إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) [هود:17]، أما من ناحية الرأي: فمنها قوله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116]، ومنه قوله عز وجل: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا) [الإسراء:89]، ومنه قوله سبحانه: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ) [الصافات:71]، ومن قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [الزخرف:78].
3- ومن هذه الآيات الكريمة يتبين أن العلم والإيمان والشكر هو مقياس الحق وليست الكثرة العددية، أما العلم، وهو أول هذه العناصر، فيقول فيه الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر:28] ويقول: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [ الحج:54]، ويقول: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت:43]، ويقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنهْ أَبِى هُرَيْرَةَ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» (أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما)، وعن أنس بن مالك-رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»، (رواه الإمام ابن ماجه في سننه)، وَقَالَ النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (صحيح البخاري).
4- والعنصر الثاني هو الإيمان، ويقول فيه ربنا سبحانه وتعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة:103]، ويقول سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ) [البقرة:285]، ويقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:71-72]، ويقول فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة -رضي اللّه عنه- : «الإيمان بضع وستّون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» (صحيح البخاري)، وعن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان اللّه ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، ومن أحبّ عبدا لا يحبّه إلّا للّه، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه كما يكره أن يلقى في النّار» (البخاري).
5- أما العنصر الثالث فهو الشكر ويقول فيه ربنا سبحانه وتعالى: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الزمر:7]، ويقول سبحانه: (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40]، ويقول: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء:147] ويقول: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، وفيه يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» (أخرجه الإمام أحمد في مسنده).
6- فإذا تحققت هذه العناصر الثلاثة، الإيمان والعلم والشكر، كانت للكثرة معنى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قَالَ «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ» ( سنن ابن ماجه)، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار» (ابن ماجه)، فلنبني كثرتنا على هذه العناصر الثلاثة بإيمان مستقر في القلوب، ومنهج علمي واضح في الأذهان، ونفوس شاكرة لله على نعمه، راضية ومطمئنة إلى قضائه وحكمته، اللهم اجعلنا من السواد الأعظم هادين مهتدين، غير ضالّين و لا مضلّـين.
منذ بدأت طلب العلم من أربعين سنة أو أكثر، شغلني كثيراً منهج التفكير، وكنا نبحث عن هذا المنهج، باعتبار أنه مفتاح العلوم وكنوزها، وأنه هو الذي سيحدد ملامح الفكر المستقيم، وبعد بحث استمر سنين اتضح معه أن المنهج الأزهري لفهم الدين، بل الدنيا، هو المنهج الأعدل والأكثر إنصافاً، وفي مقابلة المنهج الأزهري الذي سنفصله تفصيلاً -إن شاء الله تعالى- عرض علينا منهج آخر لم نقبله لا في فهم الدنيا ولا في فهم الدين، شعرنا معه بأنه سطحي ليس عميقاً، وبأنه جزئي ليس شاملاً، رأينا ملامحه في كتاب للشيخ سليمان بن سحمان عنوانه «أحسن البضاعة في كون الساعة ليست بسحر بل صناعة»، طبع في مطبعة المنار في مصر، يرد فيه الشيخ «بن سحمان» على رجل يسمى ابن الريس قال بحرمة الساعات، باعتبار أنها من باب السحر، والمسألة برمتها لا تهم أحداً أصلاً، لكن المنهج الذي اتُخذ في الرد على ابن الريس كان منهجاً عجيباً، حيث يقول: إن من أدلة كون الساعة ليست بسحر أن الرازي قد نص في كتبه أنها من باب الصناعة. والسؤال: هل إذا لم ينص الرازي على ذلك في كتبه أو لم أجد هذا النص لانتصر ابن الريس ورأيه، وعلينا أن نقتنع بأن الساعة سحر؟! لقد رفضنا هذا المنهج، لأنه يتعلق بفهم الشريعة برمتها في كل أحكامها، وبهذا يأتي لنا بدين لا نعرفه وليس هو الذي أُنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس هو الإسلام الذي خاطب الله به العالمين، بل هو ما تخيله أو فهمه من دين الله، ويريد أن يفرضه على الناس أجمعين، وبذلك يشوّه دين الله، ويكون حائلاً بين الخلق والخالق فيصد بذلك عن سبيل الله بغير علم.. وهذا مكمن الخطر.
ومع تأكيدنا لاحترامنا كل من اشتغل بالعلم الشرعي الشريف، سواء أصاب المنهج الصحيح أو أخطأه، فليس مقصوداً ما سنذكره من حقائق سوى أن نذكر كلمة الحق، ورحم الله من سبقنا إليه، لقد رأينا هذا المنهج يؤدي بأدواته إلى إنكار دوران الأرض، وأن الأرض ثابتة والشمس حولها تدور، ولما سألناهم: هل الأرض كرة؟ فكانت الإجابة طبعاً دون شك، لأن ابن تيمية- رحمه الله- قد نص في الرسالة العرشية على الإجماع على أنها كرة (فإذا كان ابن تيمية لم ينص على ذلك، فماذا كان الوضع؟ هل نتبع تأكيد ابن حزم على كرويتها في كتابه الفصل أم تأكيد القرطبي على عدم كرويتها في التفسير عند قوله تعالى: «ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا» [الكهف:٥١]!)، ثم ينتقل بنا هذا المنهج إلى تكذيب وصول الإنسان إلى القمر، فيؤلف محمد اليحيى «كتاب النور في كون الأرض ثابتة والشمس حولها تدور».
ويؤلف الشيخ حمود التويجري كتابين كبيرين: الأول بعنوان (الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة (المطبوع سنة ١٣٨٨هـ الموافق ١٩٦٨م) والثاني بعنوان (ذيل الصواعق لمحو الأباطيل والمخارق)، المطبوع سنة ١٣٩٠هـ الموافق ١٩٧٠م، ويقصد بأهل الهيئة أهل علم الفلك، فيحرم هذا العلم ويصف أهله بالزندقة، ويحرم معه علم الجيودسيا وعلم الجيولوجيا، ويقدم لهذا الكتاب المرحوم عبد الله بن محمد بن حميد، ويرضى بما فيه، وهذا الكتاب نصرة للشيخ عبد العزيز بن باز، حيث ألف كتاباً في سكون الأرض وجريان الشمس حولها وسماه «الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب»، وأصبحنا بذلك أمام خطورة فعلية في فهم النص الشرعي الشريف، حيث إنهم لم يذهبوا إلى هذا كرأي يتبنونه، بل لقوله تعالى: «وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ» [يس:٣٨].
وكذلك حرّموا الصور الفوتوغرافية في رسائل لا عد لها ولا حصر، حتى عدوا الخروج في التليفزيون نوعاً من الفسق والمروج، ومثله حرمة الأكل بالملاعق ونحوها من غير ضرر بالأيدي، وكذلك الجلوس للطعام على الكراسي ونحوها، وكذلك ترتيب الأواني على المائدة بالطريقة الإفرنجية (صفحة ١٥٦) من كتاب «الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين» (المطبوع سنة ١٣٨٤هـ)، ويُحرم كذلك التصفيق (صفحة ١٨٠)، ولبس الساعات في الأيدي (صفحة ٢٣٥)، وغير ذلك كثير.
وهنا يجب أن تكون لنا وقفة مع هذا المنهج الذي سيؤدي بنا إلى هذا الفهم الذي أدى فعلاً إلى تشويه صورة الإسلام في العالمين وصورة المسلمين في كل مكان.
فإذا يممنا وجهنا قِبَل الأزهر، نجد الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية من سنة ١٩١٥ إلى سنة ١٩٢٠، يؤلف كتاباً بعنوان «توفيق الرحمن للتوفيق بين ما قاله علماء الهيئة وبين ما جاء في الأحاديث الصحيحة وآيات القرآن»، فيوافق بذلك العقل والنقل والحس والواقع، ونجده يؤلف كتاب الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي، وكتاب أحكام قراءة الفونوغراف.
فالفرق بين المنهج الأزهري القائم على علوم شتى مركبة من اللغة والأصول والفقه وغيرها، لفهم الكتاب والسنة وفهم مقاصد الشريعة، ومصلحة الناس، ومآلات الحكم بينهم، وإنزال الشريعة على الواقع المعيش- يختلف تماماً على هذا المنهج البسيط، الذي يذهب في كل اتجاه، بناء على ما يتبادر إلى ذهن صاحبه أولاً عند قراءة آية بلا تدبر أو اطلاع على حديث دون تأمل، مع اتفاق هذا التيار على الافتخار بعزلتهم عن الواقع وتمسكهم بأفهامهم، مهما ترتب عليها من ضرر، فاخترنا المنهج الأزهري العلمي الواضح، الذي يسعى إلى عبادة الله على بصيرة، وإلى عمارة الأكوان على علم، وإلى تزكية النفس على هدى من هدي خير العباد، وإلى الله المشتكى وعند الله تجتمع الخصوم. فقد أردنا الصلاح لأمتنا وأرادوا الصلاح لأنفسهم، فأضروا بأنفسهم وأضروا بأمتهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103].
وأخرج أبو داود في كتاب «الفتن والملاحم»، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله أجاركم من ثلاث خِلال ألا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وألا تجتمعوا على ضلالة».
1- بعد مقالة الأسبوع الماضي بعنوان «أفيضوا مجالسكم بينكم» وهي الكلمة البليغة التي نصحنا بها سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تلقيت الكثير من طلبات المخلصين يسألون: كيف نفيض المجالس وكيف نجلس معاً؟ ومنذ أكثر من ستة أعوام شغل علماء المسلمين هذا الأمر، واستخلصنا حينئذ ثلاثة أسئلة نجتمع حولها لتكون أساساً لهذا الاجتماع، فكانت: من هو المسلم؟ ومن له الحق في أن يتصدى للإفتاء؟ وهل يجوز التكفير لذلك المسلم؟
2- واستجابة لمبادرة عرضها ملك الأردن، عبد الله الثاني، في عام ٢٠٠٥م، اجتمع نحو ١٥٥ عالماً من ٤٤ دولة في عمان في الفترة ما بين ٤ – ٦ يوليو الموافق ٢٧ – ٢٩ جمادى الأولى سنة ١٤٢٦هـ، وكان هؤلاء العلماء يمثلون المذاهب الثمانية: «الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي من أهل السنة والجماعة، والمذهب الجعفري، والزيدي من الشيعة، والمذهب الإباضي والظاهري»، ولقد شرفت بحضور ذلك المؤتمر وأرسل فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر المرحوم الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي إجابته إلى المؤتمرين، فكانت لها الصدارة في الفتوى، وصدَّر بها الأمير غازي بن محمد، الرئيس الأعلى لمؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي، ومنظم المؤتمر، كتابه تحت عنوان «احترام المذاهب»، والذي صدر في عمان بالأردن سنة ٢٠٠٦م، جمع فيه فتاوى أولئك العلماء، وأجمعوا على أن كل من يتبع أحد هذه المذاهب فهو مسلم، لا يجوز تكفيره، ويحرم دمه وعرضه وماله. ووفقاً لما جاء في فتوى شيخ الأزهر وغيرها، لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوف الحقيقي، ولا أصحاب الفكر السلفي الصحيح، كما لا يجوز تكفير أي فئة أخرى من المسلمين تؤمن بالله وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- وأركان الإيمان، وتحترم أركان الإسلام ولا تنكر المعلوم عن الدين بالضرورة.
3- وجرت إعادة التأكيد على هذا المضمون في المنتدى التحضيري للعلماء والمفكرين بالدورة الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي الاستثنائي الذي عقد في مكة المكرمة، في سبتمبر ٢٠٠٥م، وشرفت بحضوره، وحضره أكثر من ١٧٠ عالماً، ثم تمت المصادقة عليه مرة أخرى بالإجماع في جامعة آل البيت في الأردن في نوفمبر ٢٠٠٥م، في مؤتمر «المذاهب الإسلامية والتحديات المعاصرة».
وأخيراً، تم تبنيه في الدورة الاستثنائية الخامسة بقمة منظمة المؤتمر الإسلامي في ديسمبر ٢٠٠٥م، التي حضرها ٥٤ دولة ما بين ملك ورئيس أو مندوب عن الرئيس.
4- ومنذ أكثر من ثلاث سنوات بدأنا مبادرة سميت «كلمة سواء»، بين مسلمي العالم ومسيحيي العالم، وقع عليها أكثر من ٢٠٠ عالم مسلم، مبناها حب الله وحب الجار، وهما المشترك بين المؤمنين من كل الأديان.
5- فهذا هو الأساس الفكري المتفق عليه، والذي يمكن في إطاره أن نفيض مجالسنا دون تكفير أو تفسيق، وبقلوب تقدم حب الله وحب الجار، وآذان تستمع وتبحث عن المشترك، تتعارف حتى تتآلف، ولنعمل فيما اتفقنا عليه ونتجاوز ما اختلفنا فيه.
6- ومبنى هذا القاعدة التي قررها الإمام السيوطي في كتابه «الأشباه والنظائر الفقهية»: (إنما ينكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه)، فالمتفق عليه هو الذي أجمع عليه المسلمون ولا خلاف فيما بينهم حوله كحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة والزكاة وحل البيع والزواج، والمتفق عليه يعتبر هو حقيقة الإسلام، أما المختلف فيه فهو ظني، تختلف فيه أنظار المجتهدين، فإذا اخترت مذهباً من المذاهب وقلدت إماماً من الأئمة، فلا أنكر على أخي الذي قلد إماماً آخر أو مذهباً مختلفاً، وكذلك من إطار ما نذكره كلام نفيس قرره الإمام الباجوري في حاشيته الفقهية حيث قال: (من ابتلى بشيء من ذلك -يعنى المختلف فيه- فليقلد من أجاز)، وهي كلمة بليغة حكيمة عليمة تجعل من اختلاف الأئمة مرونة ورحمة وسعة، وتجعل من هذا الاختلاف نسقاً منفتحاً وفكراً حراً.
ويؤكد الإمام الشعراني في كتابه المانع «الميزان الكبرى»، أن اختلاف الأئمة دائر بين الرخصة والعزيمة، وهو ما ذهب إليه الإمام العثماني في كتابه «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة»، ومن هذا الإطار أيضاً ما تقرر في علم أصول الفقه أن هناك قطعياً وهناك ظنياً في كل من الثبوت والدلالة، فالقرآن والسنة المتواترة من باب قطعي الثبوت، وسنة الآحاد من باب ظني الثبوت، وهناك نصوص في كل من الكتاب والسنة لا تحتمل إلا مراداً واحداً، فهي من باب قطعي الدلالة، وهناك ما يحتمل معاني كثيرة، وهو أغلب النصوص فهو من باب ظني الدلالة حتى قالوا: «القرآن حمال أوجه»، وهناك أيضاً ما تقرر في قواعد الفقه أن «الخروج من الخلاف مستحب وليس واجباً»، وشرطه عندهم: «ألا يكر على مذهبه بالبطلان»، حيث إنه من باب الورع وليس من باب الترجيح والاختيار الفقهي.
7- ونحن هنا من منبر «المصري اليوم» ندعو جميع الفصائل والمختلفين في وجهات النظر أو في مناهج التناول إلى الجلوس سوياً، بشرط تقديم الوعي قبل السعي، وأن تكون هذه الجلسات في بداياتها خاصة، حيث إن كثيراً من نقاط الخلاف لا تعني عموم الناس، وعند الوصول إلى المشتركات، يخرجون على الناس ببرنامج واضح واتفاق قريب، فيكون -كما قال سيدنا عمر- «أدوم لإلفتكم، وأهيب لكم في الناس»، وأنا على استعداد لعمل هذه اللقاءات في دار الإفتاء المصرية، لتقوم بواجب الوقت في توحيد الكلمة وصالح البلاد والعباد.. والله من وراء القصد.
الصدق خلق إسلامي جميل اتفق العقلاء على مدحه وذم نقيضه وهو الكذب وكفى بالصدق مدحاً أن يدعيه من ليس أهله وكفى بالكذب ذماً أن يتبرأ منه من هو أهله.
وقد أرشدنا ربنا إلى التمسك بهذا الخلق الطيب في كتابه الكريم وفي سنة رسوله العظيم صلوات الله عليه وسلامه في نصوص أكثر من أن تعد فقد أمر ربنا في كتابه الكريم في أكثر من آية بالصدق ومدح الصادقين ووعدهم بالخير الكبير في الدنيا والآخرة فمن هذه الآيات قوله سبحانه: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة:119]، وقوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس:2].ولم يقتصر الأمر على طلب الصدق من المسلم فحسب بل أمر الله تعالى أن يكون المسلم دائماً مع الصادقين فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
وليس الصدق هو قولك الحق وحسب بل من الصدق أيضاً أن تصدق بالله وكلامه وقد أمر بذلك النوع من الصدق في قوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران:95].
كما أخبر ربنا سبحانه وتعالى أن كلامه الصدق والعدل وأنه لا مبدل لحكمه ولا معقب لكلامه لأنه أعلى أشكال الصدق والعدل فقال عز من قائل: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:115].
وأخبر ربنا سبحانه وتعالى أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم كان من شأنه أن يتبين حقيقة الصادق والكاذب فقال الله له: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) [التوبة:43].وقد أمر الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يسأله الصدق في المدخل والمخرج وفي شأنه كله فقال سبحانه وتعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء:80].
وأخبر الله تعالى أن الصدق منة يمتن الله بها على عباده الصالحين وأنبيائه الكرام عليهم السلام فقال: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم:50].
وبين الله سبحانه وتعالى أن الفتن والابتلاءات لا تكون إلا لتمحيص الناس ومعرفة الصادقين والكاذبين فقد قال جل وعلا: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:3]، وقال سبحانه: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) [الأحزاب:8].
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث التي تدعو إلى الصدق وتأمر به فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتلا يكتب عند الله كذاباً وعليكم بالصدق فإن الصدق بر والبر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً» (متفق عليه).
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم» (صحيح ابن حيان).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يطوي المؤمن على الخلال كلها غير الخيانة والكذب» (مصنف ابن أبي شيبة).
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من يدخل الجنة التاجر الصدوق» (المصنف لابن أبي شيبة).
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة» (المستدرك على الصحيحين).
إذا تقرر ما سبق علمنا أن الصدق نجاة وقوة لأن الصادق لا يخشى من الإفصاح عما حدث بالفعل لأنه متوكل على الله والكذاب يخشى الناس ويخشى نقص شأنه أمام الناس فهو بعيد عن الله.
وإنما يكذب الكذاب لاجتلاب النفع واستدفاع الضر فيرى أن الكذب أسلم وأغنم فيرخص لنفسه فيه اغتراراً بالخدع واستشفافاً للطمع وربما كان الكذب أبعد لما يؤمل وأقرب لما يخاف لأن القبيح لا يكون حسناً والشر لا يصير خيراً وليس يجني من الشوك العنب ولا من الكرم الحنظل.
نحن نعيش في زمان عجيب كثرت فيه الإغراءات وإن تخلينا عن أخلاقنا الحميدة وعن الصدق فسوف نذوب في هذا العالم المتلاطم ولذلك ينبغي للمسلم أن يتذكر دائماً ما طلبه الله منه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من التزام الصدق والنزاهة حتى يفوز بسعادة الدارين جعلنا الله من الصادقين في نياتهم وأقوالهم وأفعالهم.
من أكبر مظاهر رحمة الله بعباده أن جعل الأسباب الموصلة لسعادة القلب مطلوبة منهم فالرضا لله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبدينه، وبسنن الله في كونه هو سبيل السعادة الحقيقية، بل هو السعادة الحقيقية قال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا وسراج العابدين، والرضا من الأخلاق التي حث الله ورسوله المسلمين عليها، بل هو دليل الإيمان بالله وبرسوله، وبدينه، وقدره.
والرضا قسمان: الأول: الرضا بالله، والثاني: رضا الله، فالأول رضا مطلوب من العبد وبه تتحقق السعادة الدنيوية، والثاني رضا يرجوه العبد من ربه، وبه تتحقق السعادة في الدنيا والآخرة، والثاني مترتب على الأول في الظاهر، وفي الحقيقة الأول هو أثر للثاني فقد قال سبحانه وتعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100]، فقدم سبحانه رضاه عنهم أولًا، ثم ذكر رضاهم عنه، ثم ذكر ما أعد لهم من جزاء.
ولأن القسم الأول –وهو الرضا بالله- مطلوب من العبد فسيكون هو بيت القصيد في الكلام عنه، فلابد أن نعلم أن الرضا بالله وبما قضى واجب متفق على وجوبه والسخط على الله وقضائه حرام، متفق على حرمته بل قد يخرج المرء من دائرة الإسلام ولذلك فإن أمر الرضا جليل ومطلوب من المسلم في الشرع الحنيف فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) [التوبة: 58، 59].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (رواه الترمذي)، وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا» (رواه مسلم).
والرضا الحقيقي عز للمؤمن وغنى له عما سوى الله ويظهر أثر ذلك في القناعة فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به وأحبب من شئت فإنك مفارقه وأعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس» (رواه الطبراني في الأوسط).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه» (رواه مسلم).
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع» (رواه الترمذي).
وإذا كان الرضا مطلوباً من العبد فإنه يجب أن يسعى لتحصيله ومن الأشياء التي قد تتعارض مع مقصود الرضا المصائب ولكي تهون على المرء المصيبة فعليه بالنظر إلى جلال من صدرت منه وحكمته وملكه قال ابن الجوزي في قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) أعلم أن من علم أن ما قضي لابد أن يصيبه قل حزنه وفرحه قال إبراهيم الحربي: اتفق العقلاء من كل أمة أن من لم يمش مع القدر لم يتهن بعيش وليعلم قوله عليه السلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وقوله عليه السلام: «الدنيا دار بلاء فمن ابتلي فليصبر ومن عوفي فليشكر» وقوله: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل».
وينبغي علينا أن نعلم أن تحصيل رضا الله يكون برضا العبد عن الله ويكون كذلك باسترضاء من طلب رضاهم كرضا رسوله صلى الله عليه وسلم ورضا أوليائه ورضا الوالدين وقد ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين» (رواه البيهقي في الشعب).
ولا يخفى ما في الرضا من آثار إيجابية على وحدة المجتمع وقوة العلاقات الإنسانية إذ به يقل الحسد وتكثر القناعة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضى عنا وأن يرزقنا الرضا به وبرسوله وبدينه وبقضائه في كل وقت وحين وجميع المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أمرنا الله تعالى بالصبر عند نزول البلاء فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200] فرتب الفلاح على الامتثال للأمر بالصبر والمصابرة وأخيرا بأن الصبر خير لنا فقال سبحانه: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النساء:25] ويأمرنا سبحانه عند لقاء العدو بالصبر إذ يقول حكاية عن عبادة المؤمنين: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف:126] وجعل الله الصابرين في معيته سبحانه فيقول: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46].
وعن مطلق الخيرية في الصبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (رواه مسلم) وروي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يذهب الله بحبيبتي عبد فيصبر ويحتسب إلا أدخله الله الجنة» (رواه ابن حبان) وفي هذا بيان لجزاء الصبر عند المرض والبلاء كفقد الإنسان بصره.
وعن أنواع الصبر وتقسيماته يقول الماوردي الشافعي: واعلم أن الصبر على ستة أقسام فأول أقسامه وأولاها: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به والانتهاء عما نهى الله عنه» لأن به تخلص الطاعة وبها يصح الدين وتؤدى الفروض ويستحق الثواب كما قال في محكم الكتاب: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب) [الزمر:10]، والقسم الثاني: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها أو حادثة قد كده الهم بها فإن الصبر عليها يعقبه الراحة منها ويكسبه المثوية عنها وبذلك يكون قد صبر طائعاً وإلا احتمل هما لازما وصبر كارها آثما وهو ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يقول الله تعالى: «من لم يرض بقضائي ويصبر على بلائي فليختر ربا سواي» (الطبراني في الكبير).
والقسم الثالث: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة وأعوز نيله من مسرة مأمولة فإن الصبر عنها يعقب السلو منها والأسف بعد اليأس خرق روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فغفر وظلم فاستغفر فأولئك لهم الأمن وهم مهتدون» (شعب الإيمان للبيهقي) وقال بعض الحكماء: اجعل ما طبته من الدنيا فلم تنله مثل ما لا يخطر ببالك فلم تقله والقسم الرابع: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها أو يحذر حوله من نكبة يخشاها فلا يتعجل هم ما لم يأت فإن أكثر الهموم كاذبة وإن الأغلب من الخوف مدفوع قال الحسن البصري رحمة الله: لا تحملن على يومك هم غدك فحسب كل يوم همه.
والقسم الخامس: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها وينتظر من نعمة يأملها فإنه إن أدهشه التوقع لها وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب واستفزه تسويل المطامع فكان أبعد لرجائه وأعظم لبلائه وإذا كان مع الرغبة وقورا وعند الطلب صبورا انجلت عنه عماية الدهش وانجابت عنه حيرة الوله فأبصر رشده وعرف قصده لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصبر ضياء» (صحيح مسلم) يعني والله أْعلم أنه يكشف ظلم الحيرة ويوضح حقائق الأمور.
والقسم السادس: الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء وتستدفع مكائد الأعداء فإن من قل صبره عزب رأيه واشتد جزعه فصار صريع همومه وفريسة غمومه ولذلك أمر الله تعالى بالصبر في الشدائد فقال سبحانه: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17].
مما سبق تتجلى لنا حقيقة الصبر وأقسامه وفضل الله وهو ما يستوجب أن يشمر المسلم عن ساعد الجد ويتخلق هذا الخلق العظيم ويصبر نفسه حتى يكون مع الله في كل وقت والله الموفق الهادي إلى أحسن الأخلاق لا يهدي إلى أحسنها إلا هو سبحانه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إن الشكر من أخلاق الإسلام التي مدحها الله ورسوله في الكتاب والسنة وهو من الأخلاق التي تدل على الإنصاف والنزاهة في ظاهر المرء وباطنه كما يترتب عليه كثير من الخير في الدنيا والثواب الكبير في الآخرة مع علو الدرجات وغفران الذنوب.
وفي الحديث: «أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة» (رواه البخاري) ولذا كان من أوصافه تعالى: «الشكور» كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن:17].
والشكر يكون في الحقيقة لله سبحانه وتعالى ويكون أيضا لخلق الله ولكنه على سبيل الوسيلة كما ورد في الحديث «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» (أحمد وأبو داود والترمذي).
فشكر الله تعالى على نعمه واجب شرعا من حيث الجملة فلا يجوز تركه بالكلية وقد استدل الحليمي لذلك بالآيات التي فيها الأمر نحو قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] وقوله سبحانه: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف:69].
وقال الرازي عند قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3] المراد من الشاكر الذي يكون مقرا معترفا بوجوب الشكر عليه ومن الكفور الذي لا يقر بذلك إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه ينكر وجوب شكره «التفسير الكبير».
وللشكر منزلة عظيمة فهو أرقى من الصبر والرضا كما ذكر صاحب «غذاء الألباب»: أن الصبر واجب بلا خلاف وأرقى منه الرضا وأرقى منهما الشكر بأن ترى نفس الفقر مثلا نعمة من الله أنعم بها عليك وأن له عليك شكرها.
والإكثار من الشكر مستحب خاصة عند تجدد النعمة كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يخر لله ساجدا شاكرا له عند سماع خبر فيه نصر أو خير وللشكر مواضع يندب فيها كالطعام والشراب والملبس.وحث الشرع الحنيف في الكتاب العزيز وفي سنة رسوله العظيم على شكر الناس لما في هذا الخلق من آثار جليلة في وحدة المجتمع المسلم وحسن المعاملة التي هي ثمرة التقوى والإيمان فقد قال سبحانه وتعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14] وفي هذه الآية إشارة إلى شكر كل من له فضل على المسلم وقدم له معروفا فإن الوالدين استحقا الشكر لأنهما تفضلا على الابن بأعظم المعروف وهو حمايته وحفظ حياته حتى عقل ولذلك قرن الله شكرهما بشكره سبحانه وتعالى أما ما ورد في السنة فهو كثير نذكر منه مثلا ما رواه أحمد من حديث الأشعث بن قيس مرفوعا مثل حديث أبي هريرة ورواه أيضا بلفظ آخر «إن اشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس»
وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا «من أتي إليه معروف فليكافئ به فإن لم يستطع فليذكره فمن ذكره فقد شكره» (رواه أحمد).
وفي حديث آخر الأمر بالمكافأة «فإن لم يستطع فليدع له» (رواه أبو داود وغيره).
وعن أسامة مرفوعا «من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء» (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب).
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال: من أبلى بلاء فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره» (رواه أبو داود).
وعن النعمان مرفوعا «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل والتحدث بنعمة الله عز وجل شكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب» (رواه أحمد).
وعن أنس قال: «إن المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهبت الأنصار بالأجر كله قال لا ما دعوتم الله عز وجل لهم وأثنيتم عليهم» (رواه أبو داود والترمذي).
ففي هذه النصوص الشرعية الدليل الواضح على أن الإسلام اعتنى بحسن المعاملة ودعا إليها بالقول والفعل وهذا ليضرب المسلمون في مجتمعاتهم التي تبنى على هذا الخلق العظيم أروع المثل في التأسي بهم ويكون لهذا الأثر الكبير في بلوغ دعوة الله إلى العالمين.
وفي الختام فهذا عرض موجز لما في شرع الله من حث على هذا الخلق العظيم والذي به تزيد المحبة بين الناس ويصل المجتمع إلى النضوج البشري المنشود نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشاكرين ويشكر لنا أعمالنا إنه الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
المروءة من أخلاق الإسلام الفاضلة ومن شيم الصالحين الظاهرة فهي حالة مستقرة في النفس تحمل صاحبها علي الالتزام بالفضائل دائما ولذلك فهي جماع الأمر كله وهي الدافع للإقدام على كل خير والابتعاد عن كل شر.
والإنسان لا يحكم عليه بالعدالة وتقبل شهادته إلا بمراعاة المروءة فإن العدالة في اللغة: صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة وفي الاصطلاح اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على صغيرة من نوع واحد أو أنواع.
ولقد أمر الله بالمروءة في كتابه العزيز في أكثر من آية ولكن أمر بها باعتبار معناها وليس باعتبار لفظها فمن أهم معاني المروءة الاستقامة على محاسن الأخلاق ومراقبة الله -سبحانه وتعالى- وبهذا المعنى ورد الأمر بالاستقامة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه المؤمنين في أكثر من آية قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112]، وقال سبحانه: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى:15].
كما مدح ربنا -سبحانه وتعالى- المؤمنين الذين التزموا المروءة في الأخلاق والآداب وحافظوا على رشدهم في سيرهم إلى الله وأخبر تعالى أنه يرسل إليهم الملائكة مبشرين بحسن العاقبة فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30]، وقال عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف:16] وقال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:16].
والمروءة بلفظها ومعناها وردت في أحاديث النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كثيرا فعن عمر بن الخطاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «حسب المرء دينه وكرمه تقواه ومروءته عقله» (سنن الدارقطني ومصنف ابن أبي شيبة) وكذلك بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أهم آثار المروءة عند المسلم فعندما تذاكروا المروءة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أما مروءتنا فأن نغفر لمن ظلمنا ونعطي من حرمنا ونصل من قطعنا ونعطي من حرمنا».
وكذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن الاتصاف بالمروءة من أسباب عصمة المسلم في عرضه فقال -صلى الله عليه وسلم-: «من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته» (مسند الشهاب).
وكذلك اهتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسلف من بعضهم بيان المروءة والحث عليها فقد سئل عبد الله بن عمر عن المروءة فقال: «العفاف وإصلاح المال».
وسأل معاوية الحسن بن علي عن المروءة والكرم والنجدة فقال: «أما المروءة فحظ الرجل نفسه وإحرازه دينه وحسن قيامه بصنعته وترك المنازعة وإفشاء السلام وأما الكرم فالتبرع بالمعروف وإعطاؤك قبل السؤال وإطعام في المحل وأما النجدة فالذب عن الجار والصبر في المواطن والإقدام علي الكريهة».
وتختلف المروءة باختلاف الأشخاص والأزمان والأماكن فقد يستقبح فعل شيء ما من شخص دون آخر وفي قطر دون آخر وفي حال دون آخر.
وإن أجل مظاهر المروءة النجدة وإغاثة الملهوف وقد اتفق المسلمون على أن المسلم يغيث من استغاثة وإذا استغاث غير المسلم فإنه يغاث لأنه آدمي ولأنه يجب الدفع عن الغير إذا كان آدميا ولحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن الله يحب إغاثة الملهوف» ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي».
وقد أذهلت أخلاق المسلمين كل العالم حيث إنهم التزموا المروءة والنجدة حتى وإن كان غير المسلم محاربا لهم فقد اتفقوا على أن غير المسلم إن كان حربيا واستغاث فإنه يجاب إلى طلبه لعله يسمع كلام الله أو يرجع عما في نفسه من شر ويأسره المعروف لقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة:6] أي فأجره وأمنه على نفسه وأمواله فإن اهتدى وآمن عن علم واقتناع فذاك وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ويكون حرا في عقيدته.
هذا ما دعا إليه الإسلام من صفات حميدة تحفظ نفس الإنسان وعقله وكرامته نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يكملنا بمكارم الأخلاق ويعلي لنا في مروءتنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
اهتم الإسلام بالوالدين اهتماماً بالغاً وجعل طاعتهما والبر بهما من أفضل القربات ونهى عن عقوقهما وشدد في ذلك غاية التشديد ومن معاني البر في اللغة: الخير والفضل والصدق والطاعة والصلاح ولا يخفى على كل عاقل ما للوالدين من مقام وشأن يعجز الإنسان عن دركه ومهما جهد القلم في إحصاء فضلهما فإنه يبقى قاصراً منحسراً عن تصوير جلالهما وحقهما على الأبناء وكيف لا يكون ذلك وهما سبب وجودهم وعماد حياتهم وركن البقاء لهم؟
لقد بذل الوالدان كل ما أمكنهما علي المستويين المادي والمعنوي لرعاية أبنائهما وتربيتهم وتحملا في سبيل ذلك أشد المتاعب والصعاب والإرهاق النفسي والجسدي وهذا البذل لا يمكن لشخص أن يعطيه بالمستوى الذى يعطيه الوالدان.
ولهذا اعتبر الإسلام عطاءهما عملاً جليلاً مقدساً استوجبا عليه الشكر وعرفان الجميل وأوجب لهما حقوقاً على الأبناء لم يوجبها لأحد غيرهما حتى إن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده فقال عز من قائل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء:23].
لهذا ولغيره الكثير جعل الله برهما وطاعتهما من أفضل القربات بعد توحيده سبحانه وتعالى وجعل عقوقهما والإساءة إليهما من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله.
يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث ولا تقبل واحدة بغير قرينتها (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [التغابن:12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43]، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [لقمان:14] فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ولأجل ذلك تكررت الوصايا في كتاب الله تعالى والإلزام ببرهما والإحسان إليهما والتحذير من عقوقهما أو الإساءة إليهما بأي أسلوب كان قال الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء:36] وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت:8] وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14].
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء التأكيد على وجوب بر الوالدين والترغيب فيه والترهيب من عقوقهما.
ومن ذلك: ما صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: «رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» (رواه الطبراني في الكبير).
ويكون بر الوالدين بالإحسان إليهما بالقول اللين الدال على الرفق بهما والمحبة لهما وتجنب غليظ القول الموجب لنفرتهما وبمناداتهما بأحب الألفاظ إليهما كيا أمي ويا أبي وليقل لهما المرء ما ينفعهما في أمر دينهما ودنياهما ويعلمهما ما يحتاجان إليه من أمور دينهما وليعاشرهما بالمعروف: أي بكل ما عرف من الشرع جوازه فيعطيهما في فعل جميع ما يأمرانه به من واجب أو مندوب أو مباح وفي ترك ما لا ضرر عليه في تركه ولا يحاذيهما في المشي فضلاً عن التقدم عليهما إلا لضرورة نحو ظلام وإذا دخل عليهما لا يجلس إلا بإذنهما وإذا قعد لا يقوم إلا بإذنهما ولا يستقبح منهما نحو البول عند كبرهما أو مرضهما لما في ذلك من أذيتهما.
ونحن عندما نكرر الوصية بطلب معرفة قدر الوالدين والإحسان إليهما والإقرار بحقهما في البر والصلة إنما نفعل ذلك ليعود بالخير على المجتمع المسلم كله إذ لا تتحقق سعادة فرد أو أمة دون احترام صغارها لكبارها ممن أسدوا إلينا معروفاً وبذلوا لنا عطاء وفاضوا علينا من بحور المودة والرحمة والحب ويأتي في مقدمة هؤلاء الرحماء الوالدان بكل ما لهما أو عليهما نسأل الله العظيم أن يهدينا الطريق المستقيم وأن يتوب علينا وعلى المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ذكرنا أن العلماء قسموا مفهوم الحب في الإسلام إلى ثلاثة أصناف من حيث المحب: حب من الله وحب الله وحب في الله والنوع الأول يتمحور حول حب الله تعالى لمن شاء من خلقه وحبه لهم هو إرادة الإحسان والإكرام وإنزال الرحمة بهم.
أما النوع الثاني: وهو حب لله أو حب الله فإن لله تعالى صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال وهو يحب لأنه متصف بكل جميل ومنزه عن كل قبيح وهو سبحانه يحب لذاته ويقصد لذاته وحب الله هو مقام عظيم من مقامات القرب وعبادة المحبة هي عبادة أولياء الله الصادقين المخلصين وكل من عرف ربه أحبه فهو الكريم سبحانه وهو الذي أسبغ على خلقه نعمه.
وقد أخبر سبحانه أن الذين آمنوا يحبون الله حبا شديدا فقال عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة:165] كما أبى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يقدموا محبة غيره أيا كانت على محبته وجعل من يفعل ذلك من الفاسقين الخارجين عن دائرة حبه ورضاه فقال جل وعز: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].
وحب الله أساس الإيمان بحيث لو خلا قلب المؤمن من حب الله لم يكن مؤمنا باتفاق المسلمين وإنما يتفاوت الخلق في درجة حبهم لله وقد طلب سبحانه وتعالى من الذين يزعمون أنهم يحبون الله الدليل العملي على ذلك الحب فقال جل شأنه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
أما النوع الثالث من الحب فهو الحب في الله وهذا النوع هو أساس وحدة المجتمع المسلم إذ ما أمر الله به من إحسان في المعاملة للوالدين والأقربين والجار والصحبة وكل من يخالطهم الإنسان ما كان له أن يتم باعتباره أوامر مخالفة للعاطفة فكان الحب في الله هو أساس الإحسان في هذه المعاملات كلها وقد أخبرنا ربنا سبحانه وتعالي عن هذا المظهر البديع في موقف الأنصار في تكوين أول نواة للمجتمع المسلم علي الأرض حيث قال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9] وهذا الحب الصادر من الأنصار للمهاجرين الذين وصل حد الإيثار على النفس قد امتدحه الله على أنه النموذج الأعلى للعلاقة بين المسلم وأخيه.
والحب في الله هو أعلى مظاهر الإيمان بالله ومن أوثق عرى الإسلام ولهذا أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث عن فضل هذا المظهر الجليل والخلق العظيم وهو حب المرء في الله لأنه من أهل طاعته نذكر من هذه التوجيهات النبوية ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا الله وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (رواه البخاري).
ومن هذه التوجيهات أيضا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (رواه مسلم) ومنها ما رواه أبو هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية قال: هل لك عليه من نعمة تربها أي تملكها أو تقوم بإصلاحها؟ قال: إني أحببته في الله عز وجل قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (رواه مسلم).
وهناك الكثير من التوجيهات النبوية الشريفة تنبه إلى منزلة الحب في الله ولا يخفى أثر ما إذا فشا الحب في الله بين أفراد المجتمع فلك أن تتخيل مجتمعا متحابا في الله لا يظلم فيه أحد أخاه ولا يبيع على بيعته ولا يخطب علي خطبته ولا يوغر صدره فيجد المسلم في هذا الحين إن كل أوامر الله يسيرة عليه إذا ما أحب المسلمون في الله وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
وكذلك لا يخفى ما في الحب في الله من أثر عظيم في نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم كله فإن الدين الاسلامي كي ينتشر لابد أن يكون المجتمع الإسلامي نموذجا مشرفا بحيث إذا رآه الآخرون أحبوا أن يدخلوا في هذا الدين وليس هناك أفضل ولا أجمل من أن يرى الآخرون المسلمين متحابين في الله حتى يحبهم الله عز وجل ويمكن لهم وييسر لهم أمرهم.
نسأل الله أن يجعلنا وجميع المسلمين متحابين في جلاله ونسأله أن يثيبنا على هذا بأن يجعلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله والله الهادي إلى سبيل الرشاد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.