طباعة

من أدوات بناء الحضارة: التوثيق

تتميز العقلية المنهجية في الإسلام بحرصها الشديد على التوثيق، واعتباره من المفاتيح المهمة في إدارة عجلة التنمية وإحدى الأدوات الأساسية في بناء الحضارة، والمقصود بالتوثيق هو تحديد مصادر المعرفة، والتفرقة الدقيقة بين مجالاتها المختلفة، فهناك المجال الحسي كالكيمياء والطبيعة، وهو يختلف عن المجال العقلي كالرياضيات، وهو بدوره يختلف عن المجال النقلي، كشأن اللغة والشريعة، وقد تتداخل هذه المجالات، كما هو الشأن في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولكل مجال منهج بحثه، وترتيب أدلته.

وينطوي التوثيق أيضاً على تحديد طرق البحث وشروط الباحث، وترتيب الأدلة، والرؤية الكلية، وعدم إهمال الجزئيات، وتأصيل المسائل، وتفصيلها، ووضع المصطلحات بإزاء المفاهيم، والاعتماد على الحقائق دون الانطباعات والرغبات والأوهام.

وقد علَّمنا الإسلام التوثيق في النقل، فأكد الكتاب الكريم ذلك، وأرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- أتباعه إليه، ورباهم عليه، ثم أخذ المسلمون قضية التوثيق كجزء مهم من منهجهم العلمي في التعامل مع النصوص، والتعامل مع الواقع، والتعامل مع الحياة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:٦] وفي قراءة حمزة والكسائي وخلف -المتواترة - (فتثبتوا)، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» [رواه البخاري ومسلم]، ويقول (صلى الله عليه وسلم): «إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» [البخاري ومسلم].

وإذا فُقِدَ التوثيق، تَكَوَّن العقل الخرافي الذي ينكر أول ما ينكر حجية المصادر، وينتج هذا غالبا من الجهل، وفي بعض الأحيان من الهوى، ومعرفة أن الالتزام بالمصادر سوف يكون ثقيلا على نفس المنكر، كما أن العقل الخرافي ينكر، ثانيا، طرق البحث، ومن هنا يختلط عنده العلم بالممارسة، فيعترف في ظاهر القول بالعلم ويدعو إليه، ولكنه بمفهوم آخر يقصره على المجال الحسي، ويجعل ما فوق الحس شيئا مختلفا وليس علما - مرة يسميه الإيمان، ومرة يسميه العقل الخرافي، وهذا نتيجة خطأ في تعريف العلم، وفي إدراك مجالاته وطرق بحثه.

ويتصف العقل الخرافي، ثالثا، بإنكار التخصص، وإذا اعترف به بلسانه، فلا يعترف به في عقيدته وحاله. ورابعا: يهرب العقل الخرافي من الأدلة، ومن البحث عنها وفيها، لأن ذلك يحتاج إلى علم هو يفتقده، وإلى جهد ووقت ليسا متاحين له، ويعتمد على الشبهات والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) [الإسراء:٣٦].

كما أن العقل الخرافي، خامسا، هو عقل مجتزئ، يفصل المسائل عن أصولها، ويفصلها أيضا عن علاقتها بغيرها، ويفصلها عن مآلها، ويفصلها عن دليلها، وهذا العقل الذي اجتزأ المسألة كثيرا ما نواجهه بمثال ذلك الذي قرأ قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) ولم يتم الآية: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)، وقرأ أيضا، قول الله سبحانه: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) ولم يكمل: (وَأَنْتُمْ سُكَارَى)، وذلك العقل موجود في كل زمان ومكان، حيث قال مندوبهم:

ما قال ربك ويل للأُولَى سَكِروا.. ولكن قال ويل للمصلين

ومن خصائص العقل الخرافي، سادسا، التداعي، بتصور لزوم ما لا يلزم، وهو ما يغبش عليه فهم المسائل، ودراستها. وسابعا: التعميم وهو ما يسمى الشغب، وفيه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكَُهم» (أخرجه مسلم). والصفة الثامنة للعقلية الخرافية: الخلط بين المصطلحات، والتلبيس في المفاهيم، وصاحب هذه العقلية يشعر بلذة عظيمة عندما يمارس ذلك، وتغبش عليه هذه الطريقة الحقائق البسيطة الواضحة: (لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران:٧١].

وهو، تاسعا، يعتمد على الأوهام، وعلى الانطباعات، وعلى الرغبات، ويعتمد على ما درج عليه ونشأ فيه، ولذلك يرى نفسه أنه هو الحق المطلق، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:٢٣]. وقال سبحانه: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:٢٢].

وتحت وطأة الاستخفاف بالتوثيق والمنهج العلمي، ضل كثير من فئات البشر، فخرج علينا من يدعو بصريح العبارة إلى نبذ العملية العلمية ومنهجها التوثيقي الرصين، وقد يدعو إلى إعمال العقل دون الرجوع إلى مكوِّنات العلم الأخرى كالنقل الصحيح الصريح، ويظن بذلك أنه أرشد الناس إلى الصراط المستقيم، واللافت أننا نرى بعض الناس يعجب بهذا الخرف لكنه لا يستمر في إعجابه مدة طويلة، بل إنه يغير رأيه سريعا، ولا يمثل له هذا الخرف شعورا للأعماق، بل هي فكرة تأتي وتروح، يقول ربنا -سبحانه وتعالى- فيها: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) [الرعد:١٧]، فهذا هو الفرق بين طريق الإيهام إذا أريد به هدم العلم، وبين طريق التوثيق العلمي إذا أريد به التمتع بالعلم لعبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس.

ونحن ندعو الشباب إلى التوثيق القائم على العقلية العلمية، ونحذرهم من العقلية الخرافية وتداعياتها، وننبههم إلى أن هذا النمط القديم الجديد إنما يبرز كل حين فيحدث جلبة وضوضاء من أجل أن يلفت لنفسه الأنظار، غافلا أن الحكماء والعلماء والعقلاء يدركون أن عقلية الخرافة سوف تؤدي -حتما وبلا تردد- إلى السطحية التي ينهار معها البناء الفكري، وتنهار بها الحضارة، فالبناء الحضاري لا يقوم إلا على أسس عميقة قوية يُنشئها التوثيق، وهو أداة إذا فقدناها، فقدنا عمق هويتنا وجذور حضارتنا.

عدد الزيارات 9176 مرة
قيم الموضوع
(1 تصويت)