ما ترك الله لنا طريقًا يبلغنا رضاه وجنته إلا وأرشدنا إليه، وحثنا عليه رسوله الكريم صلوات الله عليه وسلامه، وما ترك لنا طريقًا يؤدي بنا إلى النار إلا وحذرنا منه وأحدث لنا منه ذكرا، وتركنا رسول الله على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فلما زاغ الناس عن المحجة البيضاء شاع الفساد وفشت الفتن من حولنا تلك الفتن التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون –أي يطلبون في خداع- الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله عز وجل أبي يغترون؟ أم علي يجترثون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» (رواه الترمذي) وفي ذلك تصديق لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال:25].
ذلك الحليم الذي يفكر فلا يعرف قبيل الفتن من دبيرها يحاول أن يعلم أين هو منها فإذ به وكأنه في ظلمات بعضها فوق بعض كموج البحر قال تعالى: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].
فهي فتن يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا ونحن في هذه الحالة نريد أن نعتصم بحبل الله ونتعلق بسفينة النجاة التي توصلنا إلى الله بإذنه تعالى.
لابد أن نحاول معرفة أسباب ما يجري من حولنا فإن العصر اتسم بالإنجاز الذي قد سبق الأخلاق والقيم وسبق النشاط الفكر والتفكر والتدبر، وقدمت المصلحة على الشريعة وتقدمت اللذات على عبادة الله فكان الناس في العصر على ثلاثة أنحاء: فاجر قوي، وعاجز تقي، ومؤمن كامل وفي.
أما الفاجر القوي فيتبنى مبدأ تقديم الإنجاز على القيم والأخلاق وهو نموذج يخافه الجميع لقوته رغم ظهور فضائحه وسوء أخلاقه وهو لا يرى في ذلك ضررًا خاصة طالما أنه ما زال ينجز وينجح في عمله ونحن نخشى على أولادنا من هذا النموذج الذي يعلمهم أن معيار النجاح في الحياة القوة والإنجاز حتى وإن خالطه الفجور.
وفي المقابل نرى تربية الله ورسوله لنا على غير هذا الشأن، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يربينا أن نكون أقوياء، وأن نأخذ بيد العاجز منا ونصل به إلى القوة فالعجز مذموم خاصة إن كان في عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس، غير أن المؤمن العاجز خير من الفاجر القوي عند الله، وينبغي أن يكون كذلك عند الناس فالمؤمن يمتلك القيم والأخلاق والإصلاح هو البناء الذي تقوم به الحضارة الإنسانية الحقيقية.
ومبدأ الإنجاز الذي نذمه هو أن يكون وحده المعيار مع مخالفة الأخلاق والقيم والثوابت أما الإنجاز مع الالتزام بكل ذلك هو مطلوب ومأمور به في شرعنا، لم يكن نموذج الفاجر القوي بدعًا في اعتماد مبدأ الإنجاز المذموم، فتاريخ البشرية يشهد بوجود هذا النموذج منذ قديم الزمن، وخير دليل على ذلك قوم عاد، وهي إحدى الأمم البائدة حيث تودد لهم نبيهم هود عليه السلام كما حكى عنه القرآن ذلك فقال: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ) [الشعراء:124-127]، وأدرك هود أن قومه فتنوا بمنجازاتهم فأراد أن يذكر أنها نعم الله وأن الله سوف يزيدها إذا أنتم آمنتم به، فقال لهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء:128-133].
فتمسكوا بشرعية النظام الذي هم عليه، وتمسكوا بما قد ورثوه وقرروه، ولو كان مخالفًا لمراد الله ورسوله، وقالوا حسمًا للقضية (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ) [الشعراء:136-137].
ويبدو أننا قد دخلنا في دائرة التشبه بعاد، حيث عبثنا وجعلنا الإنجاز قرين القوة، وجعلنا العجز قرين التقوى، والله لا يحب أن يتقدم الفاجر القوي على العاجز التقي، ولا يحب من التقي أن يستمر على عجزه.
فينبغي على المسلم أن يقدم المقدم، ويؤخر المؤخر، فيقدم المسلم الكيف على الكم، والتقوى على الإنجاز، ويقدم الجار قبل الدار، فهو دائمًا يقدم الإنسان على البنيان، رزقنا الله الرشد والصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.