انتهينا في آخر مرة تكلمنا فيها في هذه السلسلة عند الحديث عن العَرَض وأن أرسطو قال أن العرض له تسعة أنواع، إلا إن المسلمين رأوا أن التحقيق يصل بهذه التسعة إلى اثنين فقط مرتبطين بسبع صفات (أعراض) أو أكثر، وقد صاغوا تقسيمة أرسطو للأولاد والمتعلمين –ساعتها- في صورة أراجيز بسيطة، فقالوا:
زيد الطويلُ الأزرقُ بنً مالكِ ** في بيته بالأمس كان مُتكي
بيده عودُ قد لواه فالتوى ** فهذه عشر مسائل سُــــوا
زيد: الشخص وهو الجوهر أو الجسم المتحيّز، وهو على الجوهرية لا الجسمية، بينما الأعراض التسعة هي:
الطويل: |
الكمّ، ومنه المتصل (كالمتر...) و المنفصل (كعدد حبات القمح). |
الأزرق: |
الكيف، كاللون والصحة و الذكاء... وغيرها. |
ابن مالك: |
النسبة، المنسوب إلى مالك. |
في بيته: |
المكان. |
بالأمس: |
الزمان. |
متُكئ: |
الوضع: كراكع وساجد. |
بيده: |
الملِك، مثل "عندي" و"لي". |
لواه: |
الفعل. |
فالتوى: |
أثر الفعل. |
هذا ما قالوه عن أرسطو، غير أنهم قالوا إن هذا كله يمكن أن يسمى "النسبة". وهذه النسبة لا تقتصر على هذه التسع فقط، فقد تكون أكثر منها بكثير. الأمر الذي يبين لنا أن تعاملهم مع معارف الآخرين قام كعملية انتقائية، لا كتقليد أعمى.
وإذا استطعنا أن نحدد هذه العشرة (المتحيّز و العَرضَ بصفاته التسع)، أمكننا أن نحدد ونشخص الوقائع والأحوال تشخيصًا كاملًا في لحظتها الآنية بما يقارب الصورة الفوتوغرافية. لقد أفاض ذلك على المسلمين الكثير في توصيف ظواهر الواقع ورصدها، وهي المهمة الأساسية التي تشغل بال الباحث في العلوم الاجتماعية الإنسانية الحديثة بدرجة كبيرة.
إن هذا الاستعراض لجانب رئيس من كيفية إدراك الموروث الإسلامي للوجود من حوله وأثره على إدراك الوقائع الجزئية، يدفعنا لإعادة النظر في هذا الموروث وسبر أغواره. إن تعبيراته في مجال الرؤية الكلية -على اختصار عباراتها- قد تنْبِئ بأن الكثير من نظريات القرن العشرين ومكتشفاته قال بها المسلمون، لكن بألفاظ أخرى معبرة عن لغتهم التي نسعى لفهمها والاقتراب منها.
فمثلاً، لماذا يُعد الضوء –بالأساس- هو أسرع شيء في حركته؟ إجابة النظريات الحديثة -كما في نظرية "الفوتونات"- تدور حول أن الضوء لا يسير في خطوط مستقيمة إنما في تموّجات وفي تقطعات، وهذا يعني أن هذا الضوء يفنى ثم يأتي غيره في لحظات تقدر بالفيمتو-ثانية وأقل. وهذا نفس ما قررته الرؤية التراثية الإسلامية لكن بألفاظ مختلفة: أن كل الأعراض -ومنها الضوء- غير ثابتة، تفنى وتحيا في ما يقترب من اللازمن.
وكذلك استخلص المسلمون عقليًا من مجموع المصادر السابقة التي نوهنا بها، وبناء على العقيدة الإسلامية التي تقول: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : 29]، استخلصوا نظرية أساسية تسمى "نظرية الإيجاد والإمداد".
فهناك إيجاد (أي خلْق) (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم : 67]، وهناك إمداد، وهذا الإمداد (كُن فَيَكُونُ) [البقرة : 117], مستمر متواصل لا ينقطع، ولو أن الله سبحانه وتعالى قطع هذا الإمداد لأفنى المقطوع عنه، وليس معنى ذلك أن يموت، فالموت خلْق جديد (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) [الملك : 2]، بل يفنى أي يصير إلى عدم محض،. فالله سبحانه وتعالى لا يزال خالقًا، وقطعه الإمداد –ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى- هو كقطع التيار الكهربائي عن المصباح فتختفي الصور وينطفئ نور الشاشة.
فالإمداد هو الذي يحفظ الإيجاد ويعطيه الحيوية، وهو من الله وحده لا يشاركه فيه أحد، ومن هذا فهموا معنى (لا حول ولا قوة إلا بـالله) بمعنى انقطاع كل قدرة أو حول أو طاقة إلا بعون الله ومدده، وفهموا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تكلني إلى نفسي طرفة عين) [رواه النسائي] لأنه لو أوكلني إلى نفسي فسوف أفنى، فلا حول لي و لا قوة في أن أوجد نفسي أو أن أبقيها إلا بالله العلي العظيم، وإذا وصل معتقد الفرد إلى هذا، وصل إلى درجات التوكل والتفويض، والانصراف إلى الله بكلية القلب والفكر والهمة في العبادة والحياة. فأنا منه وإليه، ومن ذلك أيضًا نفهم المناجاة النبوية: (لبيك وسعديك, والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك) [رواه مسلم].
كانت هذه هي العقيدة السائدة حتى القرن التاسع عشر الميلادي، لكنها كانت حاضرة بالأساس في النخبة. فالأمة اليوم جهِلت وتحولت إلى أمة أميَّة تجهل دينها وقرآنها، تقريبًا منذ ما بعد القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ حيث انتهى عصر توليد العلوم وبدأ عصر الزخم العقيم. فعلى سبيل المثال يقيم (الفخر الرازي) حفلًا ضخمًا ليعرض فيه ألف دليل على وجود الله سبحانه وتعالى بينما كان تعليق إحدى العجائز على ذلك: أكان لديه ألف شكًّ في وجود الله؟ فهذا مما نقصده بالزخم العقيم.
ومن ناحية أخرى، فلابد من ملاحظة أن أسس بناء الحضارات شيء، وما تقوم عليه هذه الحضارات من فلسفة ورؤى شيء آخر. لكن هناك خلطًا شائعًا بين الفلسفة المؤسسة للحضارة وبين الواقع الماثل لها؛ الأمر الذي يثير العديد من الجدالات. فالتقدم الحضاري له قوانينه، والتميز الحضاري له قواعده.