ذكرنا سابقا أن الشق الثاني للموروث –والذي يقابل النتاج الفكري– هو الواقع, وهو يتكون من خمسة عوالم: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الرموز، وعالم الأفكار، وعالم الأحداث، فما معنى أن النص الذي هو محور الحضارة له دور في التعامل مع عوالم الواقع؟ إن ذلك يعني أنني عندما أتعامل مع الواقع أضع على عيني نظارة النص.
ففي علم الفلك مثلًا لكي أفهم جيدًا, فإنني أحتاج إلى رصد لعُمر طويل، فكانوا يرصدون في جداول كبيرة وكثيرة، كلها أرقام ومعادلات كجداول اللوغاريتمات بالضبط كما يفعل الفلكيون المعاصرون.. لكن ماذا استفاد أهل التراث في ذلك؟ حين نراجع عمل هؤلاء الأجداد نجدهم قد أخرجوا علماء ذوي فهم عميق جدًا لمواقيت الصلاة واتجاه القبلة
ومواقيت الصيام والحج... إلخ. إن الفلكي المسلم القديم يحب -ولا شك- هذا الفن بغض النظر عن الدين، لكنه كمسلم التفت أيضًا إلى معرفة هذه العلوم لدينه وخدمته.
وفي عالم الأشياء الجمالية أيضًا نجد أن الزخرفة الإسلامية تحرَّجت عن رسم الكائنات الحية، فبدأت بالرسومات الهندسية ثم النباتية فالخطيَّة، ثم خلطت بين كل هذا؛ ليظهر الأرابيسك الإسلامي وفلسفة فنية خاصة.. إذن هناك تقدم وتطور، هناك حضارة حية منتجة. يتأمل الباحث في ذلك فيجد ثلاثة أمور محرِّكة لهذا الإنتاج: معرفة بالله خوفًا من الله حبًا لله. هذا ما بدا في الخط القرآني في عصور الالتزام والاستقامة.
إن الباحث إذا تأمل في الإنتاج الحضاري للزخرفة الإسلامية فإنه سيجد ثلاثة أمور محرِّكة لهذا الإنتاج: معرفة بالله خوفًا من الله حبًا لله. هذا ما بدا في الخط القرآني في عصور الالتزام والاستقامة.
ولكن بعد القرن السابع لوحظ أن الخط القرآني (الذي تُكتب به المصاحف) بدأ يسوء؛ دليلًا على أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى بدأت تضعف؛ وبدأ النُّسّاخ ينسون أسباب نشأة هذه الخطوط، وتضاءل تفاعلهم مع القرآن على عكس ما جرى مع ابن مقلة الوزير كما سنرى. وحتى القرن السابع كانت الزخرفة في المصحف قليلة، وهذا نابع عن الخوف (أو التحرُّج).. لكن بعد ذلك بدأت الزخرفة تتزايد مما دل على نقصان الخوف.. وفي القرون الأخيرة بهتت الخطوط والزخارف مما دل أخيرًا على ضياع الحبِّ نفسه. وإذا ما خرج اليوم كتاب فيه هذه الشروط الثلاثة، نجده من رجل ورِع تقيٍّ عاش داخل المسألة.
هذا في عالم الأشياء، فماذا عن عالم الأفكار؟
في عالم الأفكار يظهر مثلًا ابن مقلة المشار إليه.. كان ابن مقلة وزيرًا أقبلَ على قراءة الكتاب الحكيم وانفعل به وتفاعل معه، إلا أنه كان أيضًا فنانًا وعالمًا.. ثلاث صفات جمعها في كونه فنانًا واسع الخيال، وعالمًا بالرياضيات، علاوة على كونه مسلمًا مرتبطًا بالقرآن. ومن علمه بالرياضيات توصل إلى استعمال رائع لما نسميه بالنسبة الطبيعية (ط=22/7) بينما سمَّاه هو بـ" النسبة الإلهية". رأى ابن مقلة أن القرآن نزل على نسبة إلهية فاضلة في نَظْمه وقراءته ومعانيه، فأحسّ أنه لابد أن يُكتب أيضًا بخطٍّ يعود إلى نسبة إلهية فاضلة حتى يوافق الشكلْ فيه المضمونَ، فابتكر أسلوبًا للكتابة من خلال استثمار هذه النسبة الإلهية، ومنها ابتكر قواعد رياضية دقيقة لكتابة الخط القرآني.
هذا الإبداع كان من منطلق خدمة النص.. ونحن الآن نريد أن نقف عند هذا.. أن ندرك أن النص كان محركًا للآداب والعلوم ومنشئًا لها..
وفي عالم الأحداث: هناك التاريخ وعوامل حركته. أريد - وأنا أعالج تاريخ المسلمين- أن أرى في التراث متى حدث التقدم والارتقاء؟ ومتى حدث التراجع والتهاوي؟ وما عوامل ذلك؟ فحتى القرن الرابع كان المسلمون يولِّدون علومًا، ثم تضاءل دورهم إلى أن توقف في القرن السابع وراحت الحضارة تمضي إلى السفول، الأمر الذي يمكن أن نأخذ منه فكرة أعمار الدول والحضارات (كما أشار إليها ابن خلدون)... فكرة عوامل انهيار الحضارة وربطها بعدم توليد العلوم.
إذن الموروث إما مصادر أصلية أو نتاج بشري، والواقع هو العوالم الخمسة، وما نريده في البداية هو الفهم - الفهم الصحيح- وليس النقد أو التجريد أو التطبيق؛ سعيًا للعمل في حقل العلوم الاجتماعية وأعيننا على التراث. وعلى ذكر "الفهم الصحيح", فمع الدعوة للتأمل وتحريك الذهن في مختلف المسائل، ننبه إلى أن هناك سقفًا للفهم الصحيح ينبغي ألا يتم تجاوزه، وهو يشتمل على خمسة حدود لابد من المعرفة بها والالتزام بها في مطالعة التراث:
ونؤكد أن أهم ما يعنينا استخلاصه في هذا التراث هو "المناهج" وطرائق التفكير: كيف كانوا يْعملون عقولهم في واقعهم؟ ولا يهمنا بالضرورة "الموضوعات" أو الجزئيات التفصيلية التي كانوا يفكرون فيها. (يتبع)