طباعة

مردود الكلمة

1- الكلمة العربية ـ أو في أي لغة كانت ـ لها معنى معجمي نراه في المعاجم، ولكن لها أيضا حقول دلالية، فلها حقيقة ولها مجاز، ولها مرة ثالثة مردود على السامع يختلف باختلاف شيوع هذه الكلمة في استعمال معين، ويختلف أيضا بما يسميه علماء اللغويات بالنبر، والنبر The stress هو الضغط أثناء التلفظ بالكلام على مقطع في الفقرة المقروءة، , أو على كلمة في الجملة أو على حرف في الكلمة، وحينئذ فإنك تفهم معنى من هذا النبر يزيد على معناه اللغوي فلو قلنا لأحدهم عبارة (أنت مشغول) فيمكن أداؤها بصورة سؤال، ويمكن أداؤها بصورة استنكار، ويمكن أداؤها بصورة ترحم، ويمكن أداؤها بصورة إقرار للواقع الذي نشاهده فيه، وهكذا يقوم النبر بإضافة معنى فوق دلالة اللفظ نفسه، يفهم السامع منه ما لا يفهمه من مجرد الكلمة، ويؤثر فيه ويستقر ذلك التأثير في وجدانه ويترسب مع ما يترسب من عوامل أخرى فيؤدي إلى التحكم في مواقفه من الأشخاص حباً أو بغضاً، لذلك فإن مردود الكلمة يتجاوز معناها إلى تأثيرات أخرى قد تكون حسنة أو قبيحة، ونرى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينبه على هذا المعنى فيقول : (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان  الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) [رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم في المستدرك].

2- فلو وصفنا كاتباً بأنه كاتب مضحك أو فكاهي أو ساخر أو مسخرة، وهي كلمات تتقارب معانيها جداً وتمثل حقلاً دلالياً واحداً أنه يسبب الضحك عند القارئ بقدر ما يسببه من دهشة في صياغته اللغوية، وفكاهي يسبب الترويح الذي ينتج من زيادة البسط ومن نفس المادة اللغوية سميت الفاكهة؛ لأنها تأتي ترويحا للأذواق مع ممارسة القوت الأساسي للإنسان في طعامه وتدبير بدنه، فالفاكهة ترويح، والفُكاهة ترويح، أما كلمة مسخرة ومعناها المعجمي ما يجلب السخرية، فلها مردود يجعل الكاتب المسخرة مضحكاً في نفسه وليس فيما يكتب فقط، ويبدو أن بعض ممن وصف بالكاتب الساخر أصبح مسخرة فعلاً؛ حيث بدأ في الخلط وعدم إدراك الواقع وعدم الانتماء إلى الوطن، ومعرفة الحالة الراهنة، فتراه يكتب فيحكم على المقدس ويدنسه ويتكلم ناقضاً هادماً، لا ناقداً مصلحاً، والفرق بين (النقض) و(النقد) فرق كبير، ولقد شاع في الآونة الأخيرة نموذج الكاتب المسخرة الذي يهرف بما لا يعرف وليس عنده أصول يقيس عليها ولا عنده مبادئ يلتزم بها ووجب علينا جميعا أن نأخذ على هؤلاء المساخر (ومساخر جمع مسخرة) فإن فلسفة حديث السفينة يجب أن تستقر في وجداننا.

3- ونص حديث السفينة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا . فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) [أحمد والبخاري].

4- ومن السخرية القبيحة أن نهدم الرمز أو نهدم المؤسسة أو نهدم النظام أو نهدم الثوابت أو نهدم المطلق، فالكذب قبيح رغم شيوعه في البشر، حتى إن آخر الأبحاث ترى أن أشد الناس التزاما بالصدق يقع في الكذب مرتين على الأقل يومياً، وما زال الناس في الشرق والغرب ينعون على الكذب، وسيظل الزنا والخنا والسب والقذف حراما، وستظل السرقة والاغتصاب حراما مهما شاع وذاع أو قبل من بعضهم، ولابد أن نُعلم أبناءنا أن هناك فارقاً بين تحريم المعاصي وأنها معاصي وقبائح وبين وقوعها في الحياة، والتي لم يخل منها عصر وستظل أبداً حراماً وستظل أبداً يقع فيها الناس، بل كثير من الناس، فهناك فرق يجب أن نؤكد عليه بين وصف الفعل بالقبح كشرب الخمر وعري الراقصات وتقلب المرأة بين أحضان الرجال، وهو ما حرمه كل دين وكل ملة، وبين أن يقع الناس في هذا أو يستحسنوا فعله والرابط بين المثال والواقع حالة الإنسان الذي يقع فيما زين له من الشهوات (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ  وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ) [آل عمران :14]، فالقاعدة إذن أن الفسق فسق وأنه لم يخل منه عصر.

5- وهذه القاعدة ينبغي للكاتب المسخرة أن يدركها، ولا أعني كاتباً بعينة، بل أعني نوعا من الكتاب المساخر فعليه ألا يعترض على رأي الدين في أجر الطبال والراقصة والغناء القبيح الذي يعبد فيه غير الله أو يسب القدر جهراً، فسيظل هذا العمل محرماً حتى لو وقع فيه الناس وليس الإبداع في التفلت، ولكن الإبداع معاناة حقيقية من أجل الأدب والفن، والشرع يأمر أن نرجع إلى الحقائق لا إلى الأوهام، وإلى الواقع لا إلى الخيال المريض قال تعالى وهو ينهانا عن الفتنة بكل أشكالها كلاماً وفعلاً وسلوكاً : ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوَهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [لقمان :20، 21]. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)  [لقمان :6] وقال : أ(َفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ)  [النجم :59، 61]، وسامدون أي تغنون بالباطل من القول. وقال تعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام :116].

        ويجب على الشباب أن يعلم أن هذه المعاصي لم يخل منها عصر ولا مصر وأن الأمر سيظل كذلك إلى يوم الدين.

        6- فعندما نحرم ما حرم الله لا يناقش هذا، بل الذي يناقش هو الموضوع وليس الحكم، إن الاعتراض على الأحكام الشرعية هو الذي ولد الخبل العقلي والنفسي عند الشباب المتطرف المتنطع في دين الله، فهلا ترك الأخوة المسخرة لعلماء الدين فرصة لبناء الأجيال .. يا رب استجب.  

عدد الزيارات 8460 مرة
قيم الموضوع
(1 تصويت)