طباعة

مصادر الإيمان بالغيب

التقيت الأستاذ أنيس منصور وسألني عن البرزخ، وقلت له: إن مصادر معرفتنا بالغيب الكتاب والسنة، وفوجئت به في عموده اليومي "مواقف" يتكلم عن ولاية الفقيه وأنه ينزعج وينفر من أن يكون هذا حالنا ولذلك يقول: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، وأنه لا تزال عندنا قوة دينية تتحفز وتنتظر وفي نهاية كلمته وفجأة حشرني بصورة مضحكة حيث يقول (هل أضرب لك أمثلة للأسئلة السخيفة والإجابات الأسخف، أدهشني والله فضيلة المفتي الدكتور علي جمعة وهو يتحدث عن مراحل انتقال الروح من البرزخ إلى مش عارف فين وكيف سألوها وقالت وسألوها، سيادة المفتي من أين لك هذا الكلام الذي لا في القرآن ولا في الحديث)، ولا أريد أن أنبه الأستاذ إلى أن "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة" التي يذكرها كانت تحتم عليه ألا يتدخل فيما لا يحسنه وألا ينفي ما لا يعرفه وكأنه من الحفاظ الكبار، والأمر ليس كذلك، والله أعلم بما هنالك، وعليه أن يترك الدين لأهله ولعلمائه، وأنه أكبر من هذا الحشر المضحك بين بداية المقال وآخره، وأن الأسئلة السخيفة والإجابات السخيفة قد نزهنا الله عنها، وربنا يؤجرنا في مصيبتنا فإنا لله وإنا إليه راجعون.

  • أما البرزخ وهو الحد الفاصل بين الحياة والموت الذي يمنع الأرواح من الرجوع إلى الدنيا، ففي قوله تعالى في سورة المؤمنين: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ # لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99- 100]، وإن كان هذا النص لا يروق عقائد غير المسلمين مثل الديانات الشرقية التي تدعي تناسخ الأرواح، وقد لا يروق أيضا الأستاذ أنيس منصور الذي كان نصيرًا لتحضير الأرواح وتحرك السلة، فهذا لا يعنيني ولا يعني أحدًا من المسلمين الذين يريدون أن يسمعوا كلام الله ورسوله، ويعرفون الغيب من خلال هذه المصادر التي يقدسونها، وأظن أن السخافة هي في قضية التناسخ وتحضير الأرواح وليس في تسلية المصاب بفقد الولد أو العزيز لديه بحقائق القرآن والسنة. وتبين الآية حقيقة وجود البرزخ وأن الروح لا تعود مرة أخرى فعلى الأستاذ الكبير ألا يندهش.
  • أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (3/164)، والترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" (1/671) حديث (924) -واللفظ له- عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أعمالكم تُعرَض على عشائركم وأقاربكم من الموتى، فإن كان خيرًا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تُمتهم حتى تهديهم كما هديتنا". ورواه أيضًا الإمام أبو داود الطيالسي حديث (1794) من حديث جابر بن عبد الله مرفوعاً، ورواه أيضًا الطبراني في "المعجم الكبير" (4/129) وفي "الأوسط" (1/53) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.

وأخرج النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ... فذكر الحديث، وفيه: "فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهُم أشد فرحًا من أحدكم بغائبه يقدَم عليه، فيسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمه الهاوية" (أخرجه النسائي في "المجتبى" (4/8) في كتاب (الجنائز) باب (ما يلقي به المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه) حديث (1833)، وابن حبان في "صحيحه" (7/284) حديث (3014)، والحاكم في "المستدرك" (1/352-353) حديث (1302)). ويؤخذ من هذه الأحاديث ما استغربه الأستاذ وأنكر وجوده لعدم معرفته به فأدخل بذلك السياسة في الدين وأراد للدين أن يدخل في السياسة على عكس ما قرر وكرر.

  • والروح عند المسلمين وعند كل أهل الأديان لا تفنى بخلاف الملاحدة والماديين، يقول الإمام القرطبي في التذكرة (ص 160 من طبعة مطبعة دار الفاروق): وكل من يقول: إن الروح تموت وتفنى فهو ملحد، وكذلك من يقول بالتناسخ: أنها إذا خرجت من هذا رُكِّبَتْ في شيء آخر: حمار أو كلب أو غير ذلك. وإنما هي محفوظة بحفظ الله: إما منعمة وإما معذبة. (إنتهى كلام القرطبي)
  • وتبع الأستاذ الكبير بعضُ الصغار في إنكارهم تسلية المصاب إلا أنهم أراحوا أنفسهم فأنكروا السنة بالجملة وأنكروا أكثر من عشرين علمًا ضبط بها المسلمون نقلهم وروايتهم لكلام نبيهم، وذلك فقط لأنهم لم يفهموا النصوص أو لأنهم لم يريدوا أن يفهموا، واعتبروا أن هذا الإنكار جزء من حرية الفكر باعتبار أن الحرية عندهم هي عين التَّفَلُّت وليست منهجا عقليا وعلميا، وعندما حدد "روجر بيكون" المنهج العلمي لاحظنا أنه يتكلم عن: تحديد المصادر التي يؤخذ منها العلم، وطريقة البحث التي تُتَّخَذ في هذا العلم، وشروط الباحث، وهي بعينها الأركان الثلاثة لأصول الفقه؛ حيث تُعَرِّف مدرسة الرازي أصولَ الفقه بأنه: معرفة دلائل الفقه إجمالا (المصادر) وكيفية الاستفادة منها (طرق البحث) وحال المستفيد (شروط الباحث)، وهكذا أسهم المسلمون بفكرهم وتوثيقهم للمعلومات ومنهجهم العلمي في بناء الحضارة الإنسانية إلى يومنا هذا، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، ويذكرني هؤلاء بالمثل العربي "ليس بِعُشِّكِ فادْرُجي" قال أبو عبيد: قال الأصمعي وغيره في هذا المثل: أي ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حق فدعه، وقد يضرب مثلاً للرجل ينزل المنزل لا يصلح له، أو كما قال عمرو بن الإطنابة:

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانَكِ تُحمَدي أو تستريحي

عدد الزيارات 8444 مرة
قيم الموضوع
(5 أصوات)