أدعو الله سبحانه وتعالى أن يعود المعلم إلى الحالة التي وصفها شوقي فقال:
قم للمعلم وفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا
وأريد أن أرسل للمعلم بعض كلمات من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل كلمةٍ قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يرسم لنا طريق الله -الصراط المستقيم- كفيلة بأن تغير حياة الإنسان؛ ومما قاله صلى الله عليه وآله وسلم -وكل كلامه يدعو إلى حسن الخلق- قال: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَىٰ الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَىٰ الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَىٰ مَا سِوَاهُ) (صحيح مسلم) (إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ) (صحيح مسلم) فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجته أم المؤمنين، وأمر الأمة من ورائها- بالرفق.
والرفق يكون مع النفس، والرفق يكون مع الناس، والرفق مع الكون، وبكل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما بوّب العلماء العارفون "باب الرفق" بوّبوه مع حسن الخلق والحياء، وكأن هناك صلةً بين الرفق وبين الحياء، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رُوي عن عمران بن حُصين رضي الله تعالى عنهما- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ) (صحيح مسلم)، ورُوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على رجل من الأنصار يعظ أخاه -أو يعاتب أخاه في الحياء-، فقال له: (دَعْهُ فإنَّ الحياءَ منَ الإيمان) (البخاري ومسلم).
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلو بالحياء إلى أن يقول فيما رواه الحاكم وابن أبي شيبة عن ابن عمر: (إن الحياء والإيمان قُرنا جميعا, فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر) فصفة المؤمن: الحياء، وصفة الفاجر: الفجور وهو نوع من أنواع العنف، أما الحياء فهو نوع من أنواع الرقة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الحَيِيُّ لا يمكن أن يكون عنيفا ولا يمكن أن يكون قاسي القلب، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعْلِمُنا ويُعَلِّمُنا أن هذه الأخلاق بعضها يخدم بعضا، وبعضها يؤيد ويساند بعضا فيقول: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟) قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: (كل جوّاظ جعظري مستكبر) (أخرجه الإمام أحمد في مسنده) وانظر إلى اختيار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -وهو أفصح العرب- لهذه الكلمات الصعبة؛ ليوافق المَبْنَى المَعْنَى، وليوافق نَظَرُ مستمعٍ من هذه الألفاظ نظرةَ النفس منها.
(جواظ جعظري)..! كلمات صعبة وغير مفهومة لعموم الناس تستـدرك المسـألة: وما الجـواظ؟ وما الجعظـري؟ الجـواظ: الجمّـاع للمال، لا يريد أن ينفق شيئًا منه في سبيل الله، ولا يريد أن يخرج حتى حق الله فيه من الزكاة، وبذلك يكون عنيفًا مع مجتمعه وناسه؛ فليس العنف مقتصرًا في القوة، وليس العنف مقتصرًا على الهمجية، ولكن العنف قد يكون سلبيًّا بمنع حق الله سبحانه وتعالى، فالجواظ من يجمع ويمنع؛ يجمع من لطف الله ما شاء الله به عليه، ثم يمنعه أن يصل وأن يدور كما أمرنا الله من ماله أن يكون.
والجعظري: قاسي القلب الذي لا ينتهي إذا ما كلّمته بموعظة ينظر إليك باستهزاءٍ وعلو.. وإذا ما ذكّرته بالموت لا يَرق قلبه ولا تهدأ نفسه ولا يخشى من مقابلة الله سبحانه وتعالى ولا تدمع عيناه، وهذا نوع من أنواع العنف.
النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاهد في سبيل الله.. جاهد بشرف.. جاهد بلطف.. جاهد لغاية ولم يكن عنيفا؛ تصفه الصحابة الكرام بأنهم عندما كانوا يصافحون يده الشريفة كانوا يجدونها أملس من الحرير صلى الله عليه وآله وسلم (البخاري)، ولكنه كان فارسًا؛ يقولون عنه في حربه: "كنا إذا احمر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون من أحد أدنى من القوم منه" (الإمام أحمد في مسنده).. كان لا يغضب، ونصح أصحابه بألا يغضبوا وقال: (لاَ تَغْضَبْ وَلَكَ الـجَنَّة) (الطبراني في معجمه الكبير) ولكنه كان يغضب إذا ما مُست حدود الله سبحانه وتعالى، (وما انتقم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسهِ إلاّ أن تُنْتهَكَ حُرمةُ اللهِ فيَنَتقِمَ للّه بها) (البخاري)، وإذا ما رأى المعصية أمامه فإنه يغضب بشدة -لا بعنف- لأنه أمر لا يرجع إلى ذاته الشريفة إنما يرجع إلى تبليغ الرسالة وإلى إقامة حدود الله بين البشر. جاءه أعرابي فأمسكه من ثيابه وخنقه صلى الله عليه وآله وسلم حتى كاد الصحابة أن يهموا به يقتلونه- فما زاده الجهل عليه إلا حلما، وما زاده ذلك إلا أمانة.
إذن وراء هذا الرسول شيء ليس بمنظور لنا؛ ينبغي عندما نتخلق بأخلاق الدين أن نثق بما في يده سبحانه وتعالى أكثر من ثقتنا بما في أيدينا، وأن نترك هذه الغشاوة التي يعيش فيها عموم الإنسان بأن يثق بالمحسوس أكثر من ثقته بربه الذي خلقه..!
هذه أسرار علّمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. هذه الأسرار مفقودة لا يعرفها كثير من البشر، ومن كثرة إِلْفِنا لها استهنّا به، ومن كثرة تكرارها على أذهاننا وأسماعنا اعتقدنا أنها دون الحقائق العليا!! إلا أن هذه هي الحقيقة، فجرب أيها المعلم -لا تجرب مع الله- جرب نفسك مع الله.. لا تجرب الله فما كان الله ليُمتحَن- حاشاه وجل جلاله- إنما جرب نفسك مع الله، وانظر حتى يفتح عليك فتوح العارفين به سبحانه..