والدكتور السنهوري حالة يجب دراستها جيدا من خلال رسالته الدكتوراه التي تقدم بها إلى السربون، والتي دعا فيها إلى البديل الفعلي للخلافة الإسلامية، ومن خلال مذكراته المنشورة، وكتابه الماتع (مصادر الحق) في ستة أجزاء، والذي ذهب فيه على سبيل الاجتهاد إلى التفرقة بين الربا والفائدة، باعتبار أن الربا هو ربا الجاهلية الأضعاف المضاعفة، وأن الفائدة وكأنها مقابل تدوير رأس المال، الذي هو أحد عناصر الإنتاج الأربعة (الأرض-التنظيم-العمل-رأس المال) وهو كلام قد نجده في أدبيات توماس الإكويني في التفرقة بين interest و usury
يقول الدكتور السنهوري في (إننا إذا اقتصرنا على تقليد هذه القوانين، على اعتبار أن هذه هي الغاية من تطور الفقه الإسلامي، لا نكون قد صنعنا شيئًا، ويكون الأولى أن نقتبس مباشرة من القوانين الغربية ... الواجب أن تدرس الشريعة الإسلامية دراسة علمية دقيقة وفقا لأصول صناعتها، ولا يجوز أن نخرج على هذه الأصول بدعوى أن التطور يقتضي هذا الخروج)
وقال : (والذي نبغيه من دراسة الفقه الإسلامي، وفقا لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانونا حديثا يصلح للعصر الذي نحن فيه... القانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق، بل ولجميع البلاد العربية، إنما هو القانون المدني العربي الذي نشتقه من الشريعة الإسلامية بعد تطورها). [القانون المدني العربي، مجلة القضاء (نقابة المحامين في العراق) العددان 1 ،2 سبتمبر، عام 1962].
ويتبين من هذا مشروعه الفكري الذي كان يأمله وحققه بهذه الطريقة حيث شارك في وضع التشريع العراقي، والتشريع الأردني، ولقد وضع المصريون دستور سنة 1923م، ولقد وضع بلجنة اشترك فيها علامة زمانه الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية، بعد أن ترك منصب الإفتاء في سنة 1920م، والشيخ محمد بخيت المطيعي علم من أعلام القرن العشرين في علمه واتساع أفقه واجتهاداته التي ملأت الآفاق، ويصف كثير من المحللين دستور 1923 بأنه أشد ليبرالية مما تلاه من الدساتير، وظل الدساتير المصرية تأخذ في الاقتراب من الشريعة على النهج الكامل في نفسية السنهوري باشا وتلامذته حتى الدستور الأخير الذي نص على أن مصر بلد إسلامي، وأن التشريع الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، مع بقاء ليبرالية الدولة وديمقراطيتها، واختلط على كثير من الناس أن هناك سلطة دينية في البلاد، والأمر غير ذلك، السلطة الدينية تتمثل في الأغلبية الكبيرة للمسلمين، وهم متدينيون بطبعهم وتاريخهم وواقعهم، مما يحدث إشكالية فريدة أمام النظام الليبرالي والديمقراطي في العالم، بل إن كثيرا من كهنة الديمقراطية لا يعرفون المعنى الدقيق لكلمة الثقافة السائدة التي نراها في المجتمع الألماني المعاصر، ويرونها مسألة ذات مفهوم هلامي أو غامض على الأقل.
ولكن التجربة المصرية تضع هذه المسألة على محك التجربة والفكر البشري، ومعنى هذا أن بتطبيق قواعد الليبرالية والديمقراطية وعدم التخلي عنها وصلنا إلى ذلك الدستور، ووصلنا أيضا إلى محكمة دستورية تراقب القانون طبقا للشريعة الإسلامية، وقام المنظرون ليفرقوا بين الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية، وأن شعب مصر بكل طوائفه وأديانه مندرج تحت هذه الحضارة ولا يريد أن يخرج عنها، ولذلك نرى الدعوة إلى العودة إلى اللغة القبطية لا تؤيد حتى من قبل أقباط مصر، ونرى الدعوى أيضا لما أثير من كتابة اللغة العربية بالحروف الأجنبية الإفرنجية في العشرينيات لا تلقى قبولا وتموت مع الدعاوي التي ظهرت وماتت، ونرى أيضا أن الدعوة إلى استعمال العامية مع مستر كوكس في أواخر القرن التاسع عشر، والذي تتبعتها الدكتور نفوسة زكريا في كتابها الماتع (عن تاريخ الدعوة إلى العامية في مصر) والمطبوع بدار المعارف بالإسكندرية حيث بينت فيه قيام هذه الدعوة وسقوطها.
وإذا كان السنهوري باشا وهو ينص على الفائدة في القانون المدني، ويحددها بنسبة بسيطة ولا يقر الربا، ويفرق هذا الفرق بين الفائدة والربا كما فصله في مصادر الحق، فإنه يحاول أن يجعل القانون المدني كله خاليا عن شائبة الانسلاخ عن الشريعة، وبالمثل فإن المناقشات التي حدثت في أواخر القرن التاسع عشر حول القانون الجنائي، وأنه يخلو من مسألة إقامة الحدود أثيرت فيها قضية مفهوم عصر الشبهة، وهو أننا نتمثل إلى الشريعة حينما نسكت عن قضية الحدود من غير إنكار لها، بل نقر أن الله سبحانه وتعالى جعل حدود بإزاء تلك الجرائم الحدية كالسرقة والزنا والقتل ونحوها، إلا أن هذه الجرائم تندرج تحت قاعدة عامة شرعية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم : (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) [رواه الترمذي]، ويؤخذ منه القاعدة المشهورة (ادرءوا الحدود بالشبهات) وأن عصرنا الذي نعيش فيه مع اتساعه وتغير ذمم الناس، وفقد شروط الشهادة الواردة في كتب الفقهاء جعله عصر شبهة، مما يناسبه السكوت عن الحدود في القوانين، وهذا يماثل ما فعله عمر بن الخطاب عندما أوقف الحدود في عام الرمادة، ولم يكن ذلك إنكارا له لأحقية الحد، ولا تعطيلا للشريعة، وإنما كان إشارة لتطبيق الشريعة بشروطها، ومن شروط الشريعة أن تتوافر حالة معينة إذا ما فقدت لا يطبع الحد، وهذا من عين الشريعة وليس من غيرها.
هذا الفكر سواء أكان صحيحا أم خطئا، وسواء أكان اجتهادا صائبا أم جانبه الصواب، وسواء أوافقنا عليه أم خالفناه، فإنه هو الذي حكم الآباء الواضعين للقانون الجنائي، وكانت هناك تجارب أخرى في خارج مصر تتمثل في ذكر تلك الحدود في القوانين مع إيقافها بما أسموه للظرف الدولي، وهو معنى قريب من وصف العصر بالشبهة، لكن وصف العصر بالشبهة في رأيي أدق.
وفي تجربة أخرى ذكرت الحدود في القوانين وأوقفها القضاة، وفي تجربة ثالثة ذكرت الحدود في القوانين ونفذت مع اكتنافها في تنفيذها من مشكلات، وعلى كل حال فإن كلامنا هذا يدعو الباحثين إلى قراءة التجربة المصرية، بقراءة مختلفة عما تقرأ عليه الآن.
لقد قرأت بأنها تجربة ليبرالية محضة، وقرأت بأنها ليبرالية فاشلة، وقرأت بأنها إسلامية متطرفة، وقرأت بأنها كافرة مرتدة، ويبدو أن من ذهب إلى كل ذلك قد جانبه الصواب، وقد أخطأ خطئا بليغا في حق نفسه، وفي حق مصر وتجربتها، وفي حق الشباب الذي ضلل في وسط هذا الخضم الهائل من التطرف على الجانبين. (يتبع)