هل يجوز الخلاف في مسائل تنتمي لعلم العقائد، أم أن الخلاف قاصر على علم الفقه ؟
الجواب
أراد الله لهذه الأمة الوحدة، فحثها على ذلك، وزجرها عن الفرقة، قال تعالى : {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء :92]. وقال سبحانه وتعالى : {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون :52]. وقال عز وجل : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى :13]. وقال سبحانه :{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران :103]. وقال تعالى : {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران :105]. وقال سبحانه وتعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال :46].
وتحقق وحدة الأمة الإسلامية باجتماعها على أصول تمثل هويتها، وتميزها بين سائر أمم الأرض، وهوية الإسلام منها أمور تنتمي إلى علم العقائد كوجوب الإيمان بالله، وحبه سبحانه، وحب نبيه صلى الله عليه وسلم، ووجوب البراءة من الكفر والشرك، ومنها ما ينتمي إلى علم الفقه : كوجوب الصلاة، ووجوب الصيام، والزكاة، والحج، ومنها ما ينتمي للأخلاق كحرمة الكذب، وحرمة الغش، ويضبط هذه المسائل التي تمثل هوية الإسلام الإجماع.
أما الخلاف في المسائل غير القطعية، فظاهرة صحية، وأمر جاء به الدين، وهو موجود من لدن الصحابة رضوان الله عليهم، قال الإمام القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : «لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمل عمله»([1]).
قال ابن قدامة المقدسي : «وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام, مهد بهم قواعد الإسلام, وأوضح بهم مشكلات الأحكام, اتفاقهم حجة قاطعة, واختلافهم رحمة واسعة»([2]).
وقد صنف رجل كتابًا في الاختلاف. فقال له الإمام أحمد : «لا تسميه الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة»([3]).
وقد توهم بعضهم أنه لا يجوز الخلاف بين المسلمين في أي من مسائل العقيدة، وسبب هذا الوهم عبارة : «لا خلاف بين المسلمين في أصول الدين» وبين تسمية علم العقيدة أو علم التوحيد بأصول الدين، فإن العلماء عندما أطلقوا «أصول الدين» كلقب على علم التوحيد لم يقصدوا بذلك أن هذا العلم لا يشتمل إلا على مسائل الأصول التي لا يجوز فيها الخلاف، وإنما إشارة إلى أن هذا العلم يبحث قضايا الإيمان والاعتقاد وهي الدين، فببحثه لهذه القضية، واهتمامه بقضية التوحيد كأساس لدين الإسلام لُقِبَ هذا العلم بعلم «أصول الدين» ولكن وليست كل مسائل علم العقيدة تمثل أصولا، لذا فإن الحديث عن الخلاف مرتبط ارتباطا وثيقا بالحديث عن القطعية والظنية في النصوص التي تثبت بها الأحكام.
إذن فمدار الموضوع حول جواز الخلاف أو الخلاف السائغ بين المسلمين ليس هو عنوان العلم، وإنما هو مدى قطعية النص من حيث الثبوت والدلالة، أو مدى وجود نص في المسألة، ولذا قرر الفقهاء أنه «لا مسوغ للاجتهاد في مورد النص» ويقصدوا بالنص «كل خطاب علم ما أريد به من الحكم»([4])، وهو ما يشير إلى القطعية في الدلالة، فإن كان الحكم الشرعي ثابت بنص من الكتاب والسنة الصحيحة، فلا مسوغ للخلاف حينئذ.
فلا فرق إذن بين الخلاف في مسائل فرعية تنتمي لعلم الفقه، أو تنتمي لعلم العقائد، أو تنتمي لعلم الأخلاق طالما أن مسوغات الخلاف قد وجدت،
ورحم الله ابن تيمية حيث يقرر هذا المعنى ويجليه، فيقول : «فمن كان من المؤمنين مجتهداً فى طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام. وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول (أي العقيدة) وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع (أي الفقه) فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع.
وهو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطىء فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل قيل له: فتنازع الناس في محمد هل رأى ربه أم لا؟ وفى أن عثمان أفضل من علي أم على أفضل؟ وفى كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق»([5]).
ويقول في موضع آخر : «والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كما قد بسط في غير موضع، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرى لقوله: {لا تدركه الابصار} ولقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى:51]. نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]. بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح ...... إلى أن قال وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به .. وكالذي قال لأهله: ((إذا أنا متُّ فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)). وكثير من الناس لا يعلم ذلك إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط»([6]).
ويقول عن خلاف الصحابة في بعض مسائل الاعتقاد الفرعية: «وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة. وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا،ً ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه. وهل يقال له: مصيب أو مخطىء؟ فيه نزاع. ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم فى نفس الأمر، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ»([7]).
ولعل بهذا النقل قد تزول الشبهة لدى السائل، ويعلم أن علم العقيدة كعلم الفقه والأخلاق يشتمل على مسائل مجمع عليها وتمثل أصولا، ويشتمل على مسائل فرعية، والله تعالى أعلى وأعلم.
([1]) جامع بيان العلم وفضله، ج4 ص 80.
([2]) المغني، لابن قدامة، ج1 ص1.
([3]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ج30 ص 79.
([4]) البحر المحيط للزركشي 2/204.