قال الشيخ المحقق الإمام أبو الفضل تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري
1- من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند نزول الزلل.
رسم المجتهدون العظام طريقاً واضحاً لتأصيل التشريع الإسلامي تأصيلاً حضارياً يعكس النسق المفتوح لدين الإسلام ويؤكد عالميته وشموليته لكل الأزمان والأماكن ليكون بحق دين الله الخاتم للعالمين، وكانت الخطوة الأولى لهذا الطريق هي تحديد الحجة وهي بإجماع جمهور العلماء القرآن والسنة معاً فلا يكفي أحدهما دون الآخر، ثم يأتي بعد ذلك السؤال الثاني وهو كيفية توثيق هذه الحجة، فإذا كان الكتاب والسنة المصدرين للتشريع الإسلامي، فكيف وصلا إلينا؟
أما الكتاب فقد وصل إلينا بالتواتر لم يختل فيه حرف واحد، بل قد حُفِظ حتى على مستوى الأداء الصوتي للحروف ومخارجها، وكذلك الكلمات وطريقة نطقها، ونشأت عدة علوم للحفاظ على هذا الكتاب الكريم كما هو، منها: علوم النحو والصرف، والقراءات، والتفسير، بل علوم اللغة كلها، حتى إن المعاجم العربية إنما وُضعت للحفاظ على هذه البيئة التي منها ذلك الكتاب العظيم.
ولم يحدث في العالم أن حفظ الأطفال كتاباً مقدساً أو غير مقدس كما فعل ذلك أطفال المسلمين في الكتاتيب والمنارات، ولم يحدث أبداً أن حفظ غير الناطقين بلغة ما نصاً مقدساً بطول القرآن، وهم لا يعرفون لغته، ولا يفهمونها، ولا يزال أحدهم مع صغر سنه وعجمة لسانه يقوم بقومه بالقرآن في الصلاة، ولا يخطئ منه حرفاً.. إنها معجزة ربانية واضحة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أما عن السنة فقد بذل المسلمون جهداً مبدعاً وغير مكرر في توثيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشأوا علوماً كثيرة، ولم يحدث مثل ذلك أبداً لأي نبي أو مفكر أو عالم أو شاعر أو أديب في تاريخ البشرية، فهو أمر فريد اختص به كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحسن بنا أن نفصل كيفية التوثيق في عهد الصحابة والتابعين دلالة على ما حدث بعد ذلك في العصور التالية وإلى يومنا هذا، حتى يعلم الناس بعض الذي حدث، ودقته، وكيف اتبع المسلمون المنهج العلمي بما لا مزيد بعده من الدقة.
كان للصحابة، رضوان الله عليهم، عناية شديدة في رواية الحديث ونقله، فقد وضعوا بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه، صلى الله عليه وسلم، وإن لم تدوَّن في عصرهم، ومن تلك الضوابط: الاحتياط في قبول الأحاديث بالتحري، وكان أول من احتاط في قبول الأخبار أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: «جاءت الجدة إلى أبى بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه» (رواه أحمد في مسنده والنسائي في سننه)، فكانت رؤية أبى بكر، رضي الله عنه، هي التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية مطلقاً.
ثاني تلك الضوابط: التوقف في قبول خبر الواحد والتثبت من نقله، وبذلك الضابط تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فعن أبى سعيد الخدري قال: «كنت جالساً في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلىَّ أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثاً فلم يرد علي، فرجعتُ. فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي، فرجعت وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك. فقال أُبَيُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: قلت أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به» [رواه مسلم في صحيحه].
فرأى عمر رضي الله عنه أن عليه أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صحابي آخر، وهذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حثٌّ على تكثير طرق الحديث لكي يترقى من درجة الظن إلى درجة قريبة من العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهَم وذلك نادر على ثقتين.
ومن ضوابط النقل عند الصحابة سمة تسمى «اللقيا والسماع» وقد اشتهر «البخاري» بأنه هو الذي اشترط هذا الشرط في صحيحه مما جعل صحيحه أعلى كتب السنة توثيقاً وضبطاً.
إلا أن الصحابة سبقوا «البخاري» في الاهتمام بهذا الشرط، ففي رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى عبد الله بن أنيس في مصر لطلب حديث واحد دليل على ذلك، حيث كان بإمكانه أن يرسل له رسالة أو يحصل على الحديث بأي شكل بغير لقاء، إلا أنهم اعتنوا باللقاء والسماع حتى يثبت النقل بطريقة أوثق.
ومن الضوابط كذلك: عرض السنة على القرآن الكريم، وعرض السنة على السنة، وعرض السنة على القياس، ومن ذلك ما روى عن أبى سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الوضوء مما مست النار ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ - وهي القطعة من اللبن المجفف المتحجر - قال: فقال ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟» (رواه الترمذي).
فكل هذه الضوابط وغيرها مما اعتنى به الصحابة في نقل السنة النبوية المشرفة إنما يشير إلى مدى اهتمام الصحابة، رضي الله عنهم، برواية الحديث والعناية به وصيانته وتوثيقه.
الإسلام دين حضارة ونسق مفتوح، ارتضاه الله تعالى ليكون دين العالمين، فأرسل سيدنا موسى عليه السلام بالعهد القديم، وأرسل سيدنا عيسى عليه السلام بالعهد الجديد، وأرسل حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالعهد الأخير، والتشريع الإسلامي هو الإطار العام والهيكل الخارجي الذي يحتوي هذا الدين ويحميه من الضياع أو الانحراف، وهو أيضاً الذي يجعله نسقاً مفتوحاً حضارياً قابلا للتطبيق في مختلف الأزمان والأماكن، والمقصود بالتأصيل الحضاري للتشريع الإسلامي هو شرح خصائص هذا العلم حتى يستقر في الأذهان، وكثير من الناس يحتاجون إلى ذلك في الوقت الراهن، خاصة أن هناك دقائق في ذلك العلم تحتاج دائما إلى شرح وإيضاح لمقتضيات العصر المتغيرة المتطورة.
وعندما فكر المجتهدون العظام في كيفية تأصيل التشريع الإسلامي كان ذلك في صورة أسئلة متتالية كانت الإجابة عليها - حتى مع اختلاف في بعضها - تعبر عن مصادر هذا التشريع، وعن كيفية التعامل معها، وكيفية استنباط الأحكام الشرعية منها، وكيفية تطبيقها في الواقع المعيش، وهذه الأسئلة تتمثل في الآتي:
السؤال الأول: ما الحجة التي يعتمد عليها المسلم في تشريعه؟
والسؤال الثاني: كيف يتم توثيق هذه الحجة؟
والسؤال الثالث: كيف نفهم ما ورد إلينا موثقا، بالطريقة التي تطمئن إليها قلوبنا؟
والسؤال الرابع: ما مساحة القطعي والظني في هذه الحجة، وبالتالي ما الذي يمكن أن نختلف فيه بناء على أنه ظني، وما لا يمكن أن نختلف فيه بناء على أنه قطعي؟
والسؤال الخامس: ما موقفنا من المحدثات التي لم ترد بها حجة مباشرة، وهل يمكن أن نستخرج آلية للتعامل مع هذه المحدثات، وما تلك الآلية؟
والسؤال السادس: ما السقف الذي يجب أن نقف عنده في التزامنا بالتفكير، بحيث لا يترتب عليه شتات أو ضرر لأنفسنا أو للآخرين؟
والسؤال السابع: كيف نرجح عند التعارض والتعادل الظاهر في ذهن المجتهد بين الحجج المختلفة، فما الذي نقدم، وما الذي نؤخر، وما معيار ذلك؟
والسؤال الثامن: ما شروط ذلك المجتهد الباحث الذي نتكلم عنه؟
والسؤال التاسع: كيف ندرك الواقع المعيش حولنا؟
والسؤال العاشر: كيف نصل بين المطلق والنسبي في حياتنا؟
إن هذه الأسئلة العشرة يمكن أن نقول بشأنها إنها رحلة في ذهن المجتهد يسعى من خلالها إلى رسم صورة كاملة للتشريع الإسلامي كنظام حضاري مفتوح.
أما السؤال الأول وهو المتمثل في ما الحجة؟ فقد توصل جميع المجتهدين عبر القرون إلى أن الحجة تتمثل في القرآن الكريم باعتباره الوحي المعصوم المحفوظ الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، وذلك لقوله تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة:٢] ولقوله تعالى: (لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:٤٢]. ولقوله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:٩].
والحجة كذلك في السنة النبوية المشرفة باعتبارها التطبيق المعصوم الدقيق الواضح العملي الذي علمنا مناهج الوصل بين المطلق «الوحي» والنسبي «الواقع»، لأنها صادرة من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الموصوف من ربه بأنه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى) [النجم:٣]، والموصوف من ربه بأنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:١٠٧]، والموصوف من ربه بأنه أسوة حسنة، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:٢١]، والموصوف من ربه بأن له الطاعة والاتباع، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:٣٣]، وقال سبحانه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:٣١].
ويتبين لنا في إجابة هذا السؤال أن من أراد أن ينكر السنة، فإن تفكيره يكون شاذا خارجا عن تفكير كل المجتهدين عبر كل العصور وحتى عصرنا الحاضر، وسوف يلاقي من المشكلات الفقهية والعقدية ما لا يستطيع حله على الإطلاق، وسيضطر إلى تغيير هوية الإسلام، ويخادع نفسه والآخرين بأنه مازال ينتمي إلى هذا الدين، ولقد أنكر السنة شذاذ من الناس لا علاقة لهم بالعلم ولا بأهله، فلا يصدق عليهم أبدا أنهم من الجماعة العلمية، بل هي مجموعة من الأهواء التي تتلاطم في أفكار مضطربة في أذهان هؤلاء المدعين.
فالكتاب والسنة إذن هما الحجة، لكننا نجد محاولات في الشرق والغرب من غير المتخصصين في الشريعة الإسلامية وعلومها تضيق عليهم أنفسهم وأفكارهم، فيقترحون أن ينكروا السنة النبوية أو يحاولوا ذلك، بصور مختلفة، وبأساليب مبتسرة، يكشف عوارها ويزيح لثام وهنها وبطلانها المتخصصون؛ والعجب أن هؤلاء الواهمين قد يكونون مسلمين مخلصين إلا أنهم قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت في فهم العصر وفي فهم الإسلام، وفي محاولة الوصل والتطبيق بينهما... فاللهم اهدنا إلى ما تحب وترضى ونوّر بصيرتنا بنور الحق إنك كريم سميع الدعاء.
نعيش في عصر غريب عجيب، فقد الناس فيه المعيار والمقياس الذي يقاس به الحق ويقاس به الباطل، والذي ينكر به المنكر، ويُرد به الخطأ، وخيمت علينا حالة من التيه والتغبيش، فنسينا أن مردنا هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسينا أن في هذا الكتاب حكم ما بيننا، نسينا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف كتاب الله، حيث قال: «إنها ستكون فتنة، قال: قلت فما المخرج؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى (أو قال العلم) من غيره أضله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي تناهى الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن:1-2]، من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم» (رواه البيهقي في الشعب).
ونحن نرى فى القرآن دساتير كثيرة تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بوضع المبادئ والأسس لهذه المناحي من مناحي الحياة، لكنها لا تدخل في التفاصيل الجزئية لمرونتها، وهي التي في هذا المقام يمكن أن نسميها (نسبية جزئية) أي أنها ليست نسبية مطلقة تصل إلى حد اختلاف التضاد، بل هي نسبية جزئية، تشتمل على اختلاف التنوع الذي نقدر معه على تحصيل تلك المرونة.
ولذا أمر الله رسوله بأن يحكم بين الناس بكتابه فقال - تعالى-: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة:49].
بل عدَّ ربنا الانحراف عن منهجه والاحتكام لمبادئ ما أنزل الله بها من سلطان جهلاً وجاهليةً، فقال تعالى: (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
فربنا يحذرنا من أن نأخذ ديننا من غيرنا، وأن الفتوى التي تصدر من العلماء لا بد أن تكون لها بينة، وأن تراعي فيها المبادئ القرآنية والسنن الإلهية والنموذج المعرفي للمسلمين، فلا ينبغي للعالم المجتهد أن يتأثر بمناهج الغير ومبادئهم، وإن كان لا بد فعليه أن يطَّلع على تلك المبادئ ويعرفها ويراعيها، ولكن لا يتأثر بها ويجعلها منطلقاً له أو إطاراً مرجعياً.
إن المسألة تحتاج إلى يقين راسخ، لئلا يختل اليقين فيتحول إلى ظن، فيختل الإيمان بالله وبموعوده، والله جعل الجنة لمن صدَّق بموعوده، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «أربعون خصلة أعلاهن مَنِيحَةُ العَنْزِ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة» (صحيح البخاري).
ومنيحة العنز: هي أن تعطي جارك عنزتك يحلبها يوماً أو يومين ثم يردها بحالها إليك فلا تتكلف شيئاً، فما بالك بأدنى تلك الخصال إن كانت هذه أعلاها، إذاً فهو عمل قليل مع صدق في التوجه ويقين بالوعد والموعود، وبه يدخل المسلم جنة ربه بسلام، هكذا أخبرنا الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم. وقد أسس القرآن الكريم هذا المعنى في كثير من آياته على وجه الإجمال والتفصيل، وكانت القاعدة في ذلك كله قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77]، ولذلك فإن ابتعاد المسلمين عن منهج ربهم بهجرهم القرآن يؤكد ضياع المقياس من أيديهم، فذهبوا شذر مذر، وتفرقوا وهذا هو السبب الأول لعموم الفوضى.
أما السبب الثاني، فيعود إلى غياب النخبة والحكماء الذين يضبطون الأمور، وهم الذين يتخصصون في شتى المجالات فيخلصون لله في تخصصاتهم ويتعاملون مع شؤونهم بمهنية عالية وحياد علمي، فمفهوم النخبة مستقر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومستقر كذلك عند العقلاء، لكنه يتعرض من بعض تيارات ما بعد الحداثة في العصر الحاضر لكثير من الرفض، ومحاولات ضخمة لتحطيمه واقتلاعه من فكر الناس وواقعهم.
وأما السبب الثالث، فهو تطبيق الرؤية السلبية والمرفوضة للحرية التي ترى أن الحرية هي التحرر من القيود والضوابط جميعها، بحيث يستطيع أن يفعل الإنسان كل ما يريد، وهو الأمر الذى يحوِّل الاجتماع البشري إلى حالة من الشتات والضياع، لا يمكن تصورها فضلاً عن قبولها.
وفي المقابل، فإن الرؤية الإيجابية والمفهوم الصحيح للحرية يرى أن الحرية تعني استقلال الإرادة والحرية في التعبير بما يتلاءم مع الاجتماع البشرى، والالتزام بالضوابط التي يتفق عليها جماعة البشر، كالضوابط الدينية والأخلاقية والعرفية التي يتصالح عليها المجتمع، والحرية بهذا المنظور توجه على أنها الوجه الآخر من المسؤولية، فقبل أن يعلم الإنسان أنه يتمتع بالحرية يعلم أنه مسؤول عن تلك الحرية وتلك الاختيارات والأقوال والأفعال أمام المجتمع البشري الذي يعيش فيه.
فبهجر القرآن والقضاء على النخبة وتطبيق المفهوم السلبي للحرية عمّت الفوضى، وتشتت الناس، وفسد الأمر، ولن ينصلح مرة أخرى إلا بالعودة إلى كتاب القرآن والمحافظة على النخب في كل المجالات، وتطبيق المفهوم الإيجابي للحرية.
نسأل الله -تعالى- أن يصلحنا ويصلح بنا، ويجعلنا سبباً للصلح والإصلاح في الأرض، حتى نزكي أنفسنا، فنعمِّر دنيانا، ونكسب أُخْرانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
العفاف في السلوك هو الخطوة الأولى واللازمة لتحقيق العفاف الباطن، وهو مجموعة الأخلاق التي يصبح بها الإنسان إنساناً، فإن فُقد ذلك العفاف أصبح الحديث عن المنظومة الأخلاقية والدعوة إليها مجرد كلام إنشائي غير متصل بالواقع وغير متحقق في حضارتنا، وإذا أصبح الإنسان إنساناً أصبح بناء الحضارة أمرا هينا وهدفا قريبا. والعفاف الباطن يتكون من مجموعة من الأخلاق، وهى كما يلي:
1- الرحمة، والتي نراها مكررة في كلمة الابتداء «بسم الله الرحمن الرحيم»، وفي الحديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر»، وفي رواية: «ببسم الله» وفي رواية: «بالحمد لله» (انظر: الجامع الكبير للسيوطي)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الأولية، الذي جعله المحدثون أول حديث يعلمونه تلاميذهم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» (صحيح البخاري)، ويقول صلى الله عليه سلم: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ» (صحيح البخاري).
2- الحلم والأناة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لِلأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» (صحيح مسلم)، ولقد رأينا أُناسا كثيرين من خلق الله فقدوا هاتين الصفتين، وسبب ذلك أنهم فقدوا العفاف الظاهر، مع أن المسلمين بنوا علومهم على التدقيق والتحقيق والتثبت وهي صفات تنبثق عن الحلم والأناة اللذين يجعلان الإنسان يرى الحقيقة على ما هي عليه، ولا يتسرع في تهمة الآخرين ولا في تأويل تصرفاتهم وأفعالهم بصورة ظالمة تخالف الواقع والحقيقة، ولا بصورة متحيزة، ولقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن التحيز في آيات كثيرة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:٨]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [النساء:١٣٥]، وهذا يقتضي الصدق أولاً مع الله ومع النفس، ويقتضي ثانياً معرفة حقيقة الدنيا وأنها إلى زوال، وأنها مزرعة للآخرة، والآخرة هي الحياة الحقيقة الدائمة، ولذلك نرى أن العفاف الباطني متعلق أيضاً بالعقيدة التي إذا ما فقدت فإن الدنيا بأثرها والأخلاق بجملتها قد لا تعني شيئا عند الإنسان.
3- التواضع، وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ» (صحيح مسلم)، وأمرنا ربنا سبحانه وتعالى في آيات كثيرة بهذا التواضع وأنه يجب أن يكون لله، ونهانا عن الكبر حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» (سنن أبى داوود)، ويقول ربنا سبحانه وتعالى في نصيحة لقمان لابنه التي ربط فيها بين العفاف الباطن والظاهر: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ) [لقمان:١٧-١٨]، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى فرق بين المعاني الدقيقة، فجعل القوة في طلب الحق ليس من قبيل الكبر بل من قبيل عمارة الدنيا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:٥٤].
وقال تعالى وهو يشرح هذا المعنى كله في وصف الصحابة رضي الله عنهم: (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:٢٩]، فنراه سبحانه يستعمل لفظ العزة ويستعمل لفظ الشدة وهو الذي نهى نهياً تاماً عن الكبر والتكبر، حيث قال تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:٦٠]، وقال: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:٧٢]، وقال: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ) [غافر:٥٦].
4- الشهامة والنجدة والنصرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نرى في واقع الناس أن الذي فقد العفاف الظاهر ليست عنده هذه المعاني ولا يلتفت إليها ولا يضعها في مكانها الصحيح؛ بل يراها نوعا من أنواع السذاجة ويجادل فيها بغير علم، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج :٣]، وفي هذه المعاني يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (سنن ابن ماجة).
إن هذا كله هو أساس عملية بناء الحضارة، وهو يعد من الجهاد الأكبر الذي عندما يُفْقَد يضمحل الجهاد الأصغر ويضيع، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (أخرجه البيهقي في الزهد)، وربنا يقول: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:٧٨]، وبَشَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ ترك الجهاد في سبيله بالذلة فقال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (سنن أبي داوود) وعلة ذلك أننا لا نستطيع الجهاد الأصغر إلا إذا رجعنا إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس ومجمعه العفاف الباطني، وإذا فقدنا الجهاد الأكبر فقدنا معه الجهاد الأصغر فنظل في حيرة لا نعرف لها نهاية.
دعت جميع الأديان، خاصة الإسلام، إلى العفاف، واتفق عليه العقلاء من البشر فلم يكن أبداً عبر العصور والدهور المختلفة حتى عصرنا الحاضر محلاً للاجتهاد، بل كان محلا للاتفاق، سواء أقام الشخص به في نفسه أم لم يقم، فإن الجميع يعلمون أن العفاف بكل جوانبه من أساسيات هو أصل في بناء المجتمع البشري، ومن أسباب تقدمه ورقيه.
1- تهتم حضارة الإسلام بمفهوم العفاف، ففي القرآن نجد الأمر بِغَضِّ البصر عن العورات والمحرمات، قال تعالى: (قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور:٣٠]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانا يجد حلاوته في قلبه» (رواه الحاكم في المستدرك).
وقال بعض الظرفاء:
إلهي ليس للعشاق ذنب | * | لأنك أنت تبلو العاشقين |
فتخلق كل ذي وجه جميل | * | به تسبى قلوب الناظرين |
وتأمرنا بِغَضِّ الطرف عنهم | * | كأنك ما خلقت لنا عيونا |
فكيف نغض يا مولانا طرفاً | * | إذا كان الجمال نراه دينا |
وقال آخر:
خلقت الجمال لنا فتنة | * | وقلت لنا: يا عباد اتقون |
وأنت جميل تحب الجمال | * | فكيف عبادك لا يعشقون |
فرد عليهم الشيخ التقي الأمين السوداني فقال:
خلقت الجمال لنا نعمة | * | وقلت لنا يا عبادِ اتقون |
وإن الجمال تُقىً والتُّقى | * | جمال ولكن لمن يفقهون |
فذوق الجمال يصفي النفوس | * | ويحبو العيونَ سمو العيون |
وإن التقى هاهنا في القلوب | * | ومازال أهل التقى يعشقون |
ومن خامر الطهر أخلاقه | * | تأبّى الصَّغَار وعاف المجون |
وربي جميل يحب الجمال | * | جمال التقى يا جميل العيون |
وهذا الجدل يظهر الفجوة الواسعة بين النموذج الحضاري الإسلامي القائم على العفاف وبين غيره من النماذج المعرفية الأخرى التي تفتقد العفاف ولا تضعه في مقدمة أولوياتها.
2- واهتم الإسلام كذلك بحفظ الفرج، ومن هنا جاء مفهوم العورات التي أمر صلى الله عليه وسلم بسترها، كما جاء في حديث بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك»، قال: قلت: يا رسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعضا قال: «إن استطعت ألا يرى أحد عورتك فافعل»، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا! فقال: «فالله أحق أن يُستحيا من الناس». (رواه النسائي في سننه الكبرى).
3- ومن علامات العفاف في الإسلام أنه أمر بعدم الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبية إلا بطريقة آمنة، والمقصود بالخلوة هنا المكان الخاص وليس المكان العام، ومعيار الخصوصية والعمومية هو وجوب الاستئذان الذي يترتب عليه جواز النظر من عدمه، فالمكان الذي يجب علينا أن نستأذن للنظر إلى ما فيه ولا يجوز أن ندخله إلا بعد الاستئذان فهو مكان خاص، والمكان الذي لا يحتاج إلى استئذان كالطريق ووسائل النقل العامة والمساجد والمحلات العامة هو مكان عام، ولا يسمى انفراد الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل فيه خلوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» (رواه الترمذي في سننه).
4- واهتم الإسلام أيضاً بالعفاف في الكلام فأمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين نبه معاذاً فقال: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» (رواه الترمذي في سننه). وربنا يقول في سورة النساء: (لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) [النساء:١٤٨]، ولكنه حث على العفو بعدها فقال: (إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًا قَدِيرًا) [النساء:١٤٩].
5- ونهى صلى الله عليه وسلم -من باب العفاف- عن التسول والرشوة والسرقة كما نهى -من باب العفاف- عن السب واللعن والفحش والبذاءة، فقال: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبيَّ اللَّهِ دَاوُودَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» (رواه البخاري)، وقال: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي» (رواه أبو داوود في سننه)، وقال: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها» (رواه أحمد في مسنده)، وقال: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلاَ بِلَعَّانٍ وَلاَ بِالْفَاحِشِ الْبَذِيءِ» (مسند الإمام أحمد).
هذا كله من علامات العفاف في الظاهر، أما العفاف في الباطن والمفاهيم فله حديث آخر قد يكون أهم وأعمق من عفاف الظاهر الذي هو في غاية الأهمية في نفسه، وأرى أن فَقْدَنَا العفاف الظاهر والباطن يسبب كثيراً من اختلاف المعايير والرؤى ويحدث الفجوات، مما يكون له تأثير سلبي على خططنا المختلفة لبناء حضارتنا والسعي لتقدم بلادنا، بل إنني لا أبالغ إذا قلت إن عدم العفاف يسد باب استجابة الدعاء من ناحية، ويوقع الضغينة بين الناس من ناحية أخرى، ويغبش على القلب الذي هو مهبط الرحمات الربانية من أن يرى الحق حقاً والباطل باطلاً، ونتيجة ذلك كله تنتشر الفتن في المجتمع وتعم الفوضى وتختلط الأوراق.
إن العفاف من الأدوات التي تجلب للمجتمع الكثير من الخير وتحجب عنه الكثير من الشر والفساد، فاللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وأنت على كل شيء قدير.
من أهم أسباب شيوع سوء الأخلاق في المجتمعات والحضارات الإنسانية سوء الطعام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء» (رواه الطبراني في الأوسط) وهو حديث مكون من مقطعين، الأول -وهو لب كلامنا الآن- «أطب مطعمك»، وهو أمر يطلب فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يطيب الإنسان مطعمه، وهو أحد الإرشادات النبوية الجامعة التي تندرج ضمن القواعد الأساسية لبناء الحضارة وتحقيق رخاء المجتمع، ويمكن للإنسان أن يطيب مطعمه على ثلاثة مستويات: مصدر الطعام، ونوعه، وسلوك تناوله.
وعن المستوى الأول، يجب أن يكون مصدر الطعام حلالاً، ومعنى هذا أن يكون مصدر الدخل حلالاً ليس فيه شيء من الرشوة أو السرقة أو الاختلاس أو الاغتصاب أو التدليس أو الغش، ويكون أيضاً بعيداً عما حرم الله من المطعومات كالخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح، قال تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: ١٤٥].
بل إن قصة آدم عليه السلام في القرآن بينت نكد أكل الطعام المخالف وجعلته سبباً للطرد من الجنة قال تعالى: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الأعراف:٢٢-٢٤]. وقال الحسن البصري، رضي الله تعالى عنه: «كانت بلية أبيكم آدم أكله، وهي بليتكم إلى يوم القيامة»، فإن كان الطعام من مال حلال، وهو مما أحل الله من المطعومات دخل الطاعم حد استجابة الدعاء، ومن ثم أصبح قادراً على رؤية الأمور من منظور سليم وتقييمها ببصيرة جلية واتخاذ القرارات المناسبة لإصلاح المجتمع وإعمار الكون.
أما المستوى الثاني، فهو أن يكون الطعام نفسه طيباً في مذاقه، وفي إعداده، والذي يطلب هذا النوع من الطعام هو رقيق القلب، رهيف الحس، لا يدفعه الجوع لملء البطن دون تلذذ بالتذوق والاستحسان، وهي صفة نراها في قوله تعالى عن أهل الكهف بعد بقائهم ٣٠٩ سنين في سبات ونوم: (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف:١٩]، فلم يدفعهم الجوع إلى طلب أي أكل ولو كان حلالاً في ذاته، وفي مصدره، بل طلبوا أن يكون مرتبطا بأنه الأزكى، ثم تشير الآية إلى كمية الطعام وأنها برزق منه، ولم يقولوا فليأتكم به، وهنا نرى العلاقة مع الطعام نتيجة تزكية النفس، ونرى في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تزكية النفس من طيب المطعم حيث ذكر: «الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب له» (رواه مسلم).
وأما المستوى الثالث فيختص بآداب تناولنا الطعام لما لها من أثر في حياتنا اليومية بجميع جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذه الضوابط المأخوذة من القرآن والسنة تشكل عناصر مهمة في البناء الحضاري للمجتمع الإسلامي بل والبشري، ومنها:
1- قوله تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:٣١]، فالكم مهم ينظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه المقدام بن معدي كرب، حيث قال: «ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم ثلاث أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه» (رواه النسائي والبيهقي في الشعب والحاكم في المستدرك واللفظ له)، ويدرك السلف الصالح هذا المعنى فيقول ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث: «لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات -أي المصحات- ودكاكين الصيادلة». ويقول المروزي للإمام أحمد بن حنبل: «هل يجد الرجل في قلبه رقة وهو شبع؟ قال: ما أرى ذلك»، وقال إبراهيم بن أدهم: «من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة عن الجائع، قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب».
2- بل جعل الله سبحانه وتعالى الإطعام طريقاً لتكفير الذنوب واشترط أن يكون من أحسن الطعام وأعلاه، قال تعالى في كفارة اليمين: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة:٨٩]، وأوسط معناها أعلى، كما في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:١٤٣]، بل لابد أن يكون حلالاً له مذاق وهو من أحسن ما يطعم الإنسان به أهله.
3- وسن لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آداب الطعام، وأجملها في التؤدة والتمهل في الأكل، وعدم العجلة والإسراع فيه، فقال لابن عباس رضي الله عنه: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» (أخرجه البخاري ومسلم) وقال صلى الله عليه وسلم: «من أكل طعاماً، فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم).
علينا إذن أن نرجع إلى الطعام الحلال ونتخير الطعام الطيب ونضبط سلوكنا في تناوله، فنصبح بذلك قادرين على القضاء على الشر في أنفسنا، وعلى الفساد في مجتمعاتنا، وعلى الاختلال في العالم وهذه دعوة قد يراها بعضهم بعيدة عن قضية بناء الحضارة إلا أنها جزء لا يتجزأ منها، فالطعام الطيب جزء من نفسية المسلم الطيب القادرة على بناء حضارة عادلة تستمر وتبقى على نقائها عبر الأجيال.
من القواعد المهمة التي تؤسس بناء الحضارة الإسلامية أن الأحكام الشرعية لدين الإسلام تؤثر في الروح وفي القلب، فليس هناك انفصال بين دائرة الاعتقاد ودائرة الامتثال، فالاعتقاد هو الأساس، وهو ما وقر في القلب، لكن لابد أن يصدقه العمل وهو الامتثال، وبناء الإنسان الذي يعكس فعله ما وقر في قلبه هو أولى خطوات الإصلاح الحضاري، والمثال العملي لهذا التوافق يظهر جلياً في امتثال المؤمن لما حرمه الله تعالى، فهذا الامتثال الذي قد يظنه البعض حداً للحرية الشخصية هو في واقعه تربية لنفسية المسلم ليكون النموذج الذي استخلفه الله عز وجل في الأرض ليعبد ربه ويعمر كونه ويزكي نفسه.
فقد حرم الله تعالى الدم، فقال سبحانه: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:١٧٣]، وقال عز وجل: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة:٣]، وقال: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل:١١٥].
وحرم كذلك أكل لحم البشر حقيقةً ومجازًا في قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:١٢]، فحرّم علينا الغيبة والنميمة.
وحرَّم أيضاً أكل الميتة، وأكل ما لم يذكر عليه اسم الله، وأن ذلك كله يؤكد توحيد الإله وتعاليه عن البشر، قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإِخلاص:١-٤]، وقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:١١]، وقال تعالى: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الأنعام:١٠٣].
وحرم الله علينا أيضا في أحكامه الشرعية أذية الحيوان، فقال صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (رواه البخاري ومسلم)، وعلمنا أن الكون من حولنا ليس محض جماد فقال تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:٤٤]. وقال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد:١٥].
والسؤال الذي يثير الفكر ويدعو إلى التأمل هو: ما الرابطة بين الاعتقاد والامتثال لتحريم الدم والميتة وغيرها من المحرمات وبين عمارة الدنيا وبناء الحضارة، وبين استباحة الدم والميتة وبين خراب الدنيا وضياع الحضارة؟
فتحريم الدم المسفوح، على سبيل المثال، ليس من أجل أنه يسبب ضررًا من ناحية الطب بقدر ما أنه يسبب ضررًا من ناحية الأخلاق، والتجرؤ على شكل الدم، وعلى رفع الحاجز النفسي بين الإنسان وسفك دماء البشر، ويحاول بعضهم -وقد يكون صادقا، وقد يكون غير دقيق- أن يربط بين التحريم والضرر الجسدي، وأن يبحث في حكمة التحريم بالمسائل الطبية، إلا أن التحريم لا يقتصر على هذا الجانب، بل إنه يبني نفسًا، ويُعَمِّق شعورًا لدى الإنسان يساعده في نشاطه الاجتماعي، وفي عمارته للدنيا.
ومن ثم فالأحكام الشرعية هي نظام إلهي يُنشئ ويؤسس نفسية حضارية للمسلم يجعلها هي أبجديته التي يتعامل بها في حياته في جميع مناحيها السياسية، والاقتصادية، والحضارية، والفكرية، والاجتماعية، وغيرها، وظهر هذا في تاريخ المسلمين في كل بلادهم شرقا وغربا، ولذلك لم نر المسلمين عبر تاريخهم يبيدون الشعوب، أو يستعمرون الناس استعمار هيمنة واستغلال، أو يدخلون البلاد لرفع الطغيان وصد العدوان فيحوِّلونها إلى حمام دم يهون معه الطغيان، ويُستصغَر بإزائه العدوان.
لذلك - وبناء على هذه النفسية الحضارية - لا يقبل المسلم حلولاً لأزماته الكمية بتحليل الحرام، فقد يقترح بعضهم إذا ما وقع مجتمع ما في أزمة لحوم، أن يربي ذلك المجتمع الخنزير وأن يأكله، فالخنزير كثير التناسل، ونفقته قليلة، ويمكن أن يحل المشكلة بطريقة كمية، ولكن (سلطان الكم) ليس هو كل شيء في هذه الحياة، ولقد كتب في هذا المعنى رينيه جينو (عبد الواحد يحيى، رحمه الله تعالى) في كتابه الماتع (سلطان الكم وعلامات الزمان) وهو في نسخته الإنجليزية (The Reign of Quantity & the Signs of the Times) وفيه يبين أن من سمات عصرنا سيطرة الكم على معيار التقويم، فأصبح الكم هو المسيطر على السوق وعلى الاستهلاك، ونشأ من ذلك مفهوم العقد في العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية. وحضارة الإسلام لا تفهم هذا ولا تقبل هذا المعيار الكمي، لكنها تُبنى وتؤسس على الاعتقاد والامتثال لأمر الله تعالى، فالحكم له وحده، والأمر منه وإليه وحده.
ظاهرة العنف من المشكلات العصيبة التي يجب على المجتمعات البشرية مواجهتها والقضاء عليها في مهدها قبل بناء حضاراتهم، ولقد كثرت نصوص الكتاب والسنة في ترسيخ فضيلة التسامح والعفو للقضاء على العنف في دعوة حثيثة للمؤمنين للتخلق بها، ومن أمثلة تلك النصوص أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح؛ حيث قال: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [سورة الحجر:٨٥]، وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المؤمنين فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [سورة آل عمران:١٥٩]. وبيّن ربنا أن العفو وسيلة لتحصيل عفو الله ورحمته عن الإنسان فقال سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة النور:٢٢] وأثنى الله على العفو ومن يتخلق به فقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران:١٣٤]. وقال: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [سورة الشورى: ٤٣].
وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعفو والتسامح وجعلهما عنوانا لحضارة الإسلام، فلا حضارة بلا عفو ولا تقدم بلا تسامح.
وأشكال العفو والتسامح كثيرة، فأمرنا صلى الله عليه وسلم بصلة الأرحام، وعلى رأسها نجده يوجه الزوج فيقول: «خيركم خيركم لنسائه وبناته» (رواه البيهقي في الشعب) ووصفته السيدة عائشة رضي الله عنها: «أنه كان في مهنة أهله» (رواه البخاري) أي أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم بمساعدة الزوجة في مهامها، تعليمًا لأمته كيف يتعاملون داخل الأسرة، ويقول أنس بن مالك: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أفًا قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟) (رواه البخاري ومسلم) وأمر الزوجة بأن تجعل علاقتها مع زوجها علاقة ربانية، تطلب بها ثواب الله قبل كل شيء، وترجو منه سبحانه وتعالى أن يأجرها في الدنيا والآخرة على ما قد تصبر عليه، قال تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء:٣٤].
ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم الآباء كذلك فيقول: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا» (رواه الترمذي والحاكم في المستدرك)، ويوجه الأبناء إلى بر الوالدين الذي هو مكافئ التوحيد، فيقول فيما أُوحِى إليه: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء:٣٦]، ويأمر الجميع بحسن الجوار، فيقول: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه» (رواه البخاري) ويأمر بصلة الرحم مع فعل أوجه الخير، فقال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (أخرجه الحاكم في المستدرك)، وهو ما أُجمل في قول الله تعالى: (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:٧٧].
وحتى نقيم تلك النصوص الشرعية يجب أن نعمق في وجداننا قيمة العفو والتسامح، فهما وسيلة ناجحة في تحقيق الرفق والود والتعاون، التي بها نقضي على ظاهرة العنف الأسرى وهي ظاهرة شاعت في عصرنا، والمقصود بها ذلك العنف الذي يكتنف سلوك الزوج مع زوجته، وسلوك الزوجة مع زوجها، وسلوك كل من الوالدين مع الأبناء، وسلوك الأبناء مع كل من الوالدين، ومع إخوتهم فيما بينهم، ثم سلوك أفراد الأسرة مع الجيران، ومع الأقارب، وفي الحياة العامة، فهذه صور اكتنف العنف جلها أو اكتنفها كلها.
وعن الحكم الشرعي لهذه الظاهرة فهي تعد مخالفة -بكل المقاييس- للدين الإسلامي، سواء أكانت على المستوى الفردي، أم المستوى الجماعي، فقد أمرنا بالرفق في الأمر كله فيما بيننا، ففي الحديث الشريف «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (رواه البخاري ومسلم) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يكون الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (رواه مسلم) وقال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» (أحمد والبيهقي في الشعب).
هذه هي المنظومة الشرعية التي تقي من العنف الأسري على مستواه الفردي أو شيوعه الجماعي ومن ثم تساعد على بناء الحضارة وترسيخ جذورها على مبادئ التسامح والعفو.
إن عدم الاهتمام بتربية النشء على هذه المعاني، مع ما يضاف إليه من توتر الحياة المتمثل في الضجيج والضوضاء وسرعة حراك البرنامج اليومي للإنسان، ومجموع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الذي انعكس سلبًا على أعصابه، كل ذلك كان من الأسباب التي أدت إلى تفكك الأسرة، وإلى سوء الخلق، وإلى العنف الأسري، وإلى انهيار الحضارة حتى قبل بنائها.
ومن الأهمية بمكان أن يشمل برنامج بناء الحضارة ضرورة علاج هذه الظاهرة، بدءًا بعملية التربية، والتربية عملية مرتبة لها أبعادها، ولها أركانها، لا تقتصر فقط على التعليم ولا على التدريب، ولا تقتصر فقط على المدرسة، بل لابد من اشتراك الإعلام، وتكوين ثقافة سائدة للمجتمع تقيه هذه الظاهرة السلبية، وتدفع به إلى الأمن والاستقرار وإلى بناء الحضارة، عسى الله أن ينهي هذه الظاهرة من مجتمعنا، وجميع المجتمعات الإسلامية، ومن الأرض كلها إنه رءوف بعباده.