د. علي جمعة خلال درس بعد صلاة الجمعة من مسجد فاضل: كلاب النار هدموا قبر الإمام النووي
ـــــــــــــــــــــــــ
خلال درس ألقاه فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة عقب صلاة الجمعة اليوم تحدث فضيلته عن مناقب الإمام النووي الذي قام بعض الخوارج بهدم قبره، وذكر فضيلته أن الإمام النووي من كثرة اشتغاله بالعلم كان ينام وهو جالس، وظل هكذا مدة سنتين، ولم يمس جنبه الأرض قط طول هذه المدة، حتى صار إمام الأئمة وبدر التتمة وقطب الزمان زاهدا في الدنيا، وكان لا يأكل من فاكهة دمشق لأنه سمع أن فيها شبهة، فأحسن مطعمه، وكانت أمه تأتيه بالطعام كل أربعين يوما، وقد ألقى الله عليه القبول في كل شيء، وعاش 45 عاما، ومات قبل أن يتزوج، وكان يصوم الدهر.
ثم تحدث فضيلته أنه كان كلما ذهب إلى الشام زار قبره، فكان يجد شجرة تخرج من قبره، وذكر فضيلته أنه وجد في الكتب أن خروج الشجرة من القبر علامة على أن صاحبه من كبار الصالحين، وهناك من الأئمة اثنان أو ثلاثة خرج من قبرهم شجرة.. فهدم المتشددون السور الذي كان يحيط بقبره ليحميه من السباع، وهدموا شاهد القبر، وبقيت الشجرة قائمة.
يذكر أن الإمام النووي هو الإمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام النووي الشافعي الدمشقي المشهور بـ"النووي" (المحرم 631 - 676هـ / 1233 - 1277م)، وهو أحد أشهر فقهاء السنة ومحدّثيهم، وعليه اعتمد الشافعية في ضبط مذهبهم بالإضافة إلى الإمام الرافعي.
ولد الإمام النووي في قرية نوى في حوران بسوريا من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن الكريم وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك، وصادف أن مر بتلك القرية ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيان يكرهونه على اللعب، وهو يهرب منهم ويبكي، ويقرأ القرآن، فذهب الشيخ إلى والده ونصحه أن يفرغه لطلب العلم، فاستجاب له.
وفي سنة 649هـ قدم الإمام النووي مع أبيه إلى دمشق لاستكمال طلب العلم في دار الحديث الأشرفية، وسكن المدرسة الرواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي من جهة الشرق، فحفظ المطولات وقرأ المجلدات، ونبغ في العلم، حتى غدا معيدا لدرس شيخه الكمال إسحاق بن أحمد المغربي. حج مع أبيه عام 651هـ، ثم رجع إلى دمشق واستكمل حياته في طلب العلم.
محاور اللقاء:
مقدمة في تعريف السلفية وسمات منهج المتشددين الذين تسموا بالسلفيين
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فمصطلح السلفية يطلق في اللغة على معنى نِسْبِي، يُمْكِن أن تتعاوره الأزمنة المتوالية كلها، فإن كل زمن من الأزمان سَلَف بالنسبة إلى الأزمنة الآتية في أعقابه، وخَلَف بالنسبة إلى الأزمنة التي سبقته ومرَّت من قبله.
وقد اكتسب لفظ (السَّلَفِ) معنى اصطلاحي مُسْتَقِر في الثقافة الإسلامية ويعنى به القرون الثلاثة الأولى من عُمْرِ هذه الأمة الإسلامية، ومصدر هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»([1]).
ومصطلح (السلفية) أُسِيءَ فهمه، وأُسِيءَ استغلاله، وأُسِيءَ استخدامه من بعض المنتسبين إليه، وخاصةً في العصر الحاضر؛ حيث يدعي بعض من ينتسب إلى هذه المصطلح أنَّه هو الوارث الوحيد للسَّلَف، ومن ثَمَّ لا سَلَفِي سواه، وعند التحقيق فيما يتضمنه هذا المفهوم نجده قاصرًا على مسائل وقضايا جُزْئِيَّة خلافية، أو يجعله لا ينطبق إلا على أفراد قلائل من أفراد الأمة، أما علماؤها الكثيرون وأما دعاتها الصادقون العاملون للإسلام في كل أقطار الأرض فهم في زعمهم مبتدعون مهما رسخ قدمهم في هذا الدين؛ لأنهم يختلفوا معهم في هذه المسائل الجزئية.
تطور مصطلح السلفية في التاريخ المعاصر:
ظهر مصطلح السَّلفية في مصر إبان الاحتلال البريطاني لها، وأيام ظهور حركة الإصلاح الديني التي قادها وحمل لواءها كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فلقد اقترن ظهور هذه الحركة بارتفاع هذا الشِّعَار، ويعود السبب في ذلك إلى واقع مصر آنذاك.
فقد كانت مصر بها أنواع شتى من البِدَع والخُرَافات التي أخذت تكثر وتتنامى في أرجائها تلك الخرافات التي لا تَمُتُّ إلى التصوف الصحيح بِصِلَة، فكان الناس أمام هذا الواقع على فريقين: الأول يرى الانضمام إلى ركب الحضارة الغربية والتخلُّص من بقايا القيود والضوابط، بل حتى الأفكار الإسلامية.
والثاني: يرى إصلاح أمر المسلمين، بإعادتهم إلى الإسلام الصحيح النقي عن سائر الخرافات والبدع والأوهام، وربط الإسلام بعجلة الحياة الحديثة، والبحث عن سبل التعايش بينه وبين الحضارة الوافدة، وكان الشيخ الأفغاني والشيخ محمد عبده يمثلان طليعة الفريق الثاني، وقد اتخذوا هذا الشِّعَار وهو (السلفية) وكان المراد منه في هذا الوقت هو الدعوة إلى نَبْذِ كل هذه الرَّوَاسِب التي عَكَّرت على الإسلام طُهْره وصفاءه من بِدَع وخرافات، بحيث يعود المسلمون في فهم الإسلام واصطباغهم به إلى عهد السلف رضوان الله عليهم اقتداء وسيرًا على منوالهم.
وكان الغرض من اختيار هذا المصطلح (السلفية) هو تهييج كراهية الناس للصورة التي انتهى إليها حال المسلمين؛ بمقارنة فكرية يعقدونها بين واقع الإسلام والمسلمين في عصره الأول الْمُشْرق وواقعه معهم في العصر القاتم المظلم، ثم أن يجعلوا من ارتباط الإسلام بعصر السلف مناط كل سعادة وتقدم وخير.
وفي هذه الأثناء كان المذهب الوهابي -المنسوب إلى محمد بن عبد الوهاب- مُنْتَشِرًا في نجد وبعض أطراف الجزيرة العربية، وقد كان بين هذا المذهب ودعوة الإصلاح الديني في مصر قاسم مشترك يتمثل في محاربة البدع والخرافات، فلهذا راجت كلمة السلف والسلفية بين أقطاب المذهب الوهابي، ثم بعد فترة أُطْلِقَ على الوهابية اسم السَّلَفِيَّة بدلا من الوهابية؛ وكان السبب الإيحاء بأن أفكار هذا المذهب لا تقف عند محمد بن عبد الوهاب فقط، بل ترقى إلى السَّلْف، ولكي يثبتوا للناس أنهم في تبنيهم لهذا المذهب أُمَنَاء على عقيدة السلف وأفكارهم ومنهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه.
وهكذا تحولت كلمة (السلفية) من شعار أطلق على حركة إصلاحية للترويج لها والدفاع عنها، إلى لقب لُقِّب به مَذْهَب يرى أصحابه أنهم دون غيرهم من المسلمين على حق، وأنهم دون غيرهم من المسلمين الأمناء على عقيدة السلف والمُعَبِّرُون عن منهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه.
حقيقة اتباع السلف عند العلماء:
إن اتباع السلف لا يكون بالانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئية التي اتخذوها؛ لأن السَّلَف أنفسهم لم يفعلوا ذلك، وإنما الاتباع الصحيح لهم يكون بالرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص، وتأويلها، وأصول الاجتهاد، والنظر في المبادئ والأحكام. والرجوع إلى هذه المبادئ والأحكام واجب المسلمين كلهم في سائر العصور، فلا يختص بالرجوع إليها والانضباط بها سلف دون خلف.
ولا يمتاز السلف عن الخلف في ذلك إلا بأن لهم فضل الالتفات إلى هذه القواعد والشعور بمدى الحاجة إليها ثم العكوف على استخراجها وتدوينها.
فالسلفية الحقيقية تعني التزام أهلها بمنهج السلف في تعاملهم مع نصوص القرآن والسنة، هذا المنهج الذي كان مُتَجَسِّدا ومُتَجَلِّيا في سلوك السلف الصالح رضوان الله عليهم. فكل مَن التزم بهذا المنهج فقد دخل في دائرة الوحدة التي عُنْوِنَ لها بأهل السنة والجماعة وإن عاش في القرون الأخيرة من عمر الدنيا، وكل مَنْ لم يلتزم به فقد خرج عن دائرة تلك الوحدة الجامعة، وإن عاش في أول قرن من عمر الإسلام.
وما اتباع السلف إلا الصبغة العامة لسائر المسلمين، وما معناه إلا الاستضاءة بسلوكهم وعلومهم في فَهْمِ هذا المنهج والتمرُّس على تطبيقه بشكل سليم. وكما صح للسلف الصالح أن يختلفوا تحت مظلة ذلك المنهج المتبع، فلا ريب أنه يصح لمن جاء بعدهم متبعًا لهم ومقتديًا بهم أن يختلفوا تحت تلك المظلة ذاتها كما اختلفوا. وكما أن الاختلاف لم يمزق وحدتهم الإسلامية شطرين: ملتزم وزائغ، فإن اختلاف من بعدهم أيضا لم يؤثر على وحدتهم الإسلامية، ولم يجعل منهم شطرين: سلفيًّا وبدعيًّا.
والسَّلف - رضوان الله عليهم - لم يتَّخِذُوا من معنى كلمة (السَّلَف) بحد ذاتها مظهرًا لأي شخصية متميزة أو أي وجود فكري أو اجتماعي خاص بهم يميزهم عمن سواهم من المسلمين، ولم يضعوا شيئًا من يقينهم الاعتقادي أو التزاماتهم السلوكية والأخلاقية في إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة وشخصية فكريَّة مستقلة، بل كان بينهم وبين مَنْ نسميهم اليوم بالخَلَف مُنْتَهى التفاعل وتبادل الفهم والأخذ والعطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذي تم الاتفاق عليه والاحتكام إليه.
ولم يكن يخطر في بال السابقين منهم ولا اللاحقين بهم أن حاجزًا سيختلف ليرتفع ما بينهما بصُنْعِ طائفة من المسلمين فيما بَعْد، وليقسم سلسلة الأجيال الإسلامية إلى فريقين يصبغ كلا منهما بلون مستقل من الأفكار والتصورات والاتجاهات.
كما أن السلف لم يجتمعوا على مذهب في قضايا الفروع، وإنما ما نقل من خلافات في الفروع هي في الأساس اختلافات بين السلف أنفسهم، فالسلف اختلفوا في قضايا كثيرة فرعيَّة تنتمي إلى الأحكام العمليَّة، وإلى مسائل الاعتقاد الفرعية.
فقول أحدهم هذا مذهب السلف فيه خداع؛ لأنه فيه توهمان: الأول : أن السلف كان لهم هذا المذهب الفقهي الذي اتفقوا عليه وهذا محض وَهْم.
الثاني : أن مذاهب السلف ليست هي ما نقله أئمة المذاهب الفقهية عن شيوخهم من التابعين، وإنما هي أقوال يدعيها كل مدع، والصحيح أن المذاهب الفقهية كانت نقلا لمذهب السلف، ووسيلة لنقل الآراء الفقهية، فكما أن القراءة المتواترة في القرآن الكريم طريق نقل كتاب الله، والسند في الحديث النبوي هي طريق نقل الحديث النبوي، فإن المذاهب الفقهية هي طريق نقل الآراء الفقهية والمذاهب الفقهية من لدن الصحابة.
سمات المتشددين الذين تسموا كذبا بالسلفيين في العصر الحديث :
نرى آراء أغلب من تسموا بالسلفيين واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة، وهذه هي الأمور الخمسة التي يجب على الدارسين عند تحليلهم للظاهرة أن يقفوا عندها. كما أنهم يتبنون فكرًا صداميًّا، وهذا الفكر الصِّدَامي يفترض أمورًا ثلاثة وهي:
أولا : أن العالم كله يكره المسلمين، وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم، وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفي العلن مرات، وأن هناك استنفار للقضاء علينا مللنا من الوقوف أمامه دون فعل مناسب.
ثانيا : وجوب الصدام مع ذلك العالم حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإسلامي هنا وهناك، ووجود الصدام يأخذ صورتين الأولى : قتل الكفار الملاعين، والثانية : قتل المرتدين الفاسقين، أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين.
وأما المرتدون الفاسدون فهم من شهد الشهادتين وحكم بغير ما أنزل الله وخالف فكرهم، وهذه الصياغات كما نرى فيها شيء كثير من التلبيس والتدليس والجهالة ولكنها سوف تجذب كثيرًا من الشباب.
ثالثا : أن فكرهم يراد له أن يكون من نمط الفكر الساري، وهذا معناه أنه لا يعمل من خلال منظمة أو مؤسسة يمكن تتبع خيوطها بقدر ما يعمل باعتباره فكرًا طليقًا من كل قيد يقتنع به المتلقي له في أي مكان ثم يقوم بما يستطيعه من غير أوامر أو ارتباط بمركز أو قائد.
وعليه فإن الفوضى سوف تشيع بصورة أقوى وتنتشر بصورة أعمق، وهذه النظرية لها ارتباط عضوي بنظرية الفوضى الخلاقة، وهو المصطلح الذي شاع في الاستعمالات السياسية والأدبية في الآونة الأخيرة وإن كان الكثيرون لا يدركون أصوله ومعانيه وآثاره والنموذج المعرفي المنتمي إليه.
لقد أصبح توجه هؤلاء المتشددين عائقًا حقيقًا لتقدم المسلمين ولتجديد خطابهم الديني وللتنمية الشاملة التي يحتاجها العالم الإسلامي عامَّة، ومصر على صفة الخصوص، وهذا التوجُّه السلفي أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلا للمشرب المتشدد الذي يدعو إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة، وأن يعيش وحده في خياله الذي غالبًا ما يكون مريضًا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو مع من يحيط به من الناس.
ويتميز هذا الفكر المتشدد بعدة خصائص تؤدي إلى ما ذكرنا وترسم ذلك الموقف الذي يجب على الجميع الآن –خاصة- أن يقاوموه وأن يعملوا بكل وسيلة على إخراج أولئك من عزلتهم؛ لأنهم لم يعودوا ضارين لأنفسهم فقط، لكن ضررهم قد تعدَّى إلى من حولهم وإلى شباب الأمة ومستقبلها، وإلى المجتمع بأسره.
هذا الفكر يريد أن يسحب مسائل الماضي في حاضرنا، ولذلك تراه قد حوَّل هذه المسائل إلى قضايا وإلى حدود فاصلة بينه وبين من حوله، وهذه القضايا يتعلق أغلبها بالعادات والتقاليد والأزياء والملابس والهيئات من طريقة الأكل والشرب إلى قضاء الحاجة واستعمال العطور.
وتؤثر هذه الخصيصة التي تستجلب مسائل الماضي وتسحبها وتجرها إلى الحاضر من ناحية، وتحول مجرد المسألة التي كانت في نطاق الماضي لا تعدو مسألة إلى قضية ندافع عنها وننافح من أجلها، وتكون في عقليته معيارًا للتقويم وللقبول والرد، فمن فعلها فهو معه، ومن لم يفعلها فهو ضده، يشمئز منه وينفر ويعاديه، ويعيش في هذا الوهم، فيشتد انعزاله ممن حوله.
أقول إن ذلك كله يؤدي إلى انتقاله من هذا الدور إلى دور يرى فيه وجوب الانتحار وتفجير نفسه في الناس بالمتفجرات الحقيقية وبالقنابل، ويرى أنه ليس لحياته معنى؛ لأنه يسبح ضد التيار، ويرى أنه لابد عليه أن يزيد من نسله وأن يملأ الأرض صياحًا بأطفاله محاولا بذلك أن يسد ثغرة اختلال الكم، حيث إنه يشعر بأنه وحيد وبأنه قِلَّة، وبأن الكثرة الخبيثة من حوله سوف تقضي عليه وتكتم على أنفاسه، فيحاول أن يَفِرَّ من ذلك بزيادة النسل، بل ويشيع بين أتباعه وأصحابه هذا المفهوم الذي يحدث معه الانفجار السكاني والتخلف التنموي.
ومن خصائص هذا الفكر الانعزالي التَّشَدُّد، فهو يرى أن الحياة خطيئة، وأنه يجب علينا أن نتطهر منها، وأن التطهر منها يكون بالبعد عن مفرداتها، سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هي المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة، فتراه يتمتع ويتفاخر بالخروج عن الحياة، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بصورة تامة.
ولذلك نراه في تناقض شديد، فيفعل أشياء، ويمتنع عن أشياء هي من جنس واحد متبعًا في ذلك هواه، مما يُكَوِّن عنده عقلية الانطباع والهوى، وهي عقلية تُخَالِف العقلية العلمية، وتُخَالف المنطق المعروف الذي به قوام الاجتماع البشري، ومن هنا يكون متعبًا في تلقيه التفكير المستقيم، ومن هنا أيضا نراه متمردًا منعزلا لا يَثِقُ في العلماء، ولا يثق إلا في طائفة قليلة تُجَارِيه في هواه، وهذا يمنعه من تلقي أي رسالة معرفيَّة اجتماعية.
ويتميز هذا الصنف من الناس بامتلاك عقلية المؤامرة، ولذلك يرى كل ما حوله وكأنه يحيك ضده مؤامرات ويحاول أن يبيده من على الأرض، مما يجعله متحفزًا دائمًا بأن يكون ضدًّا ومعاندًا لمن حوله.
ويتميز أيضًا بالكبر والعجب الذي يحتقر معه كل رأي سواه، فإن الظني قد تحوَّل عنده إلى قطعي، ومحل النظر تحوَّل عنده إلى ضروري لا نقاش فيه، مما تختل معه قائمة الأولويات وترتيبها، وتقدم سفاسف الأمور على عظائمها، والمصلحة الخاصة على العامة، والموهومة على المحققة، وهذا كله يؤثر سلبًا على المجتمع ككل.
من هذه الصفات أنهم يقفون ضدَّ أي إصلاح في المجتمعات الإسلامية بدعوى أن كل جديد بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، ويبتعدون دائمًا عن جوهر الموضوع إلى النظر في مجرد الشكليات، ويُعْمِلون الهوى في فهم النصوص، ويضيِّقون على المسلمين حياتهم بتوسيع دائرة الحرام، ويخرجون عن النظام المعهود من إجلال المشايخ، إلى نظام غريب عجيب يجتهدون فيه من عند أنفسهم في الفقهيات، ويقلِّدون في العقائد، ويعظِّمُون غير العلماء، ويحطُّون من شأن العلماء، ويتصدَّرُون بما لا يزيد عن مائة مسألة لتفسيق الناس وتكفيرهم، والدعوة إلى منابذتهم ومُحَارَبتهم.
لقد آن الأوان وحان الوقت لأن يكون مقاومة هذا الفكر المنحرف مطلبًا قوميًّا، والطريق إلى ذلك هو العودة إلى منهاج الأزهر الذي حمل لواء أهل السنة والجماعة عبر القرون، وأهل السنة بالنسبة لباقي التيارات والمذاهب الإسلامية عدل وسط، يعترفون بكل الصحابة وليس شأنهم كشأن الشيعة الذين ينكرون الصحابة إلا عليًّا وبعضا قليلا حوله.
فأهل السنة في المذاهب كأهل الإسلام في الأديان، والمنهج الأزهري يدرس الأشعرية وهي عقيدة أغلب المسلمين في مجال الاعتقاد، ويدرس المذهبية السنية بمذاهبها الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) مع عدم إنكاره للاجتهاد الفردي أو الجماعي، ومع عدم إنكاره للأخذ بباقي المذاهب الثمانية المعمول بها (كالإباضية والظاهرية والإمامية والزيدية) أو حتى الأخذ من وسيع الفقه الإسلامي من خارج هذه الثمانية في المذاهب المنقولة في كتب الفقه وهي تربو عن ثمانين مذهبًا أو حتى الأخذ من الكتاب والسنة بما يلائم حاجات العصر ومصالح المصر وبما يلائم الانطلاق في هذا العالم الذي حولنا.
فالمنهج الأزهري الوسطي يتوخى تحقيق المقاصد العليا، من حفظ النفس، والعقل، والدين، وكرامة الإنسان، وملكه، وهي التي تمثل النظام العام، وتُمثل حقوق الإنسان، وتمثل في ذات الوقت أهداف الشريعة العليا، وملامح الحضارة الإسلامية والإنسانية، ويدرس في جانب الأخلاق مذاهب التصوف الذي يتعلم فيه الإنسان أن يخلي قلبه من القبيح بما فيه الكبر والعناد، وأن يحلي قلبه بالصحيح بما فيه الرجوع إلى المرجعية الصحيحة، وإلى العلم النافع، وإلى القيادة الرشيدة، وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر منَّا.
ونؤكد أننا عندما نطلق عليهم هذا الاسم «السلفيين» لا نقصد صحة انتسابهم لمنهج السلف الصالح كما مر؛ وإنما لأنه صار علما عليهم، كما استقر اسم «القدرية» على منكري القدر. وحديثا استقر اسم «القرآنيون» على فرقة مبتدعة ثمرة منهجها مخالفة القرآن والسنة. فهم كذلك يخالفون منهج السلف الصالح وطريقهم القويم، وإن تسموا بالسلفيين.
ولذا حرصنا على تسميتهم بالمتشددين في هذا البحث، تنزيها لاسم السلف عن بدعهم، وغيرة على دين الله، وإن عرفوا بهذا الاسم وأصبح علامة عليهم كما بينت.
([1]) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا استبد، حديث 2509 واللفظ له، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم الذين يلونهم ثم الدين يلونهم، حديث 2533
إن من سعة رحمة الله تعالى بخلقه عنايته بهم بعد استخلافهم في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليهم بالهدى كلما نسوا وضلوا مع أخذهم بالحلم والإمهال لمسيئهم، وقد شملت رحمته عز وجل جميع خلقه مؤمنهم وكافرهم, ولكنه سبحانه أولى أولياءه رعاية خاصة؛ وأحاطهم بعنايته وصانهم من كل سوء, يقول صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل عبادا يحييهم في عافية, ويميتهم في عافية, ويبعثهم في عافية, ويدخلهم الجنة في عافية» (المعجم الأوسط 3/266).
وممن أحاطهم الله سبحانه بعنايته وجعلهم في رعايته وخلدهم بذكره لهم في القرآن الكريم أصحاب الكهف; وهم فتية من صالح قومهم, ثبتوا على دين الحق لما شاع الكفر والشرك في قومهم وانتشر الباطل والبغي في ديارهم (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف:13], هم فتية تبين لهم الهدي في مجتمع ضل عن الله تعالى, ولا حياة لهم في هذا المجتمع إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها, فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله, وأن يختاروا معيشة الكهف على زينة الحياة الدنيا.
هكذا يعرضهم القرآن الكريم كنموذج للإيمان في النفوس المؤمنة; كيف تطمئن به وتؤثره علي زينة الأرض ومتاعها: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف:16], وتحكي القصة كيف يحفظ الله هذه النفوس المؤمنة ويقيها الفتنة ويشملها بالرحمة; فالكهف ضيق خشن وبعيد عن العمران والناس, ولكن حمى الله أوسع وأرحم, ورعاية الله للمؤمنين أرحب وأعظم.
فها هم شباب مؤمنون أووا إلى الكهف; فضرب الله على آذانهم فناموا سنين طويلة, ثم يأذن الله ببعثهم بعد هذه السنين: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) [الكهف:19] وهم لا يدرون كم لبثوا, فكل ما يعلمونه أنهم أدركهم النوم فناموا ثم استيقظوا, ثم رأوا أنه لا طائل من هذا السؤال وليس من المهم معرفة الجواب, ففوضوا الأمر لله وانصرفوا إلى شأنهم وقالوا: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) [الكهف:19].
وهكذا يدرك هؤلاء الفتية بعد استيقاظهم ونزولهم المدينة أنه في فترة نومهم قد تغيرت الأحوال وطويت الدهور وزالت دول وقامت أخري, وفي الوقت ذاته يعلم الناس الذين استيقظوا في عهدهم أن قدرة الله تعالي لا يحدها حد وأن رعايته لأوليائه لا نهاية لها وأن وعد الله حق: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا) [الكهف:21].
ولما ظهر أمرهم وبانت معجزتهم تنازع الناس في عددهم فجاء التوجيه: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:22]، وإنما كان ذلك صيانة للطاقة العقلية أن تتبدد في غير ما يفيد, ولئلا يقفو المسلم ما ليس له به علم; إذ هذه أحداث طواها الزمن فهي من الغيب الموكول علمه إلي علام الغيوب.
ولم يقتصر نهيه سبحانه عن الحديث في أمر غيبي ماض لا يفيد; بل نهى كذلك عن الجدل في غيب المستقبل وما يقع فيه من الجزم بأن المقدمات التي يدبرها الإنسان ستؤدي إلى نتائجها المعتادة; فقال تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) [الكهف:23-24]; فكل شيء مرهون بإرادة الله, وعقل الإنسان مهما علا قاصر عن إدراك ما قدره الله تعالى.
وليس معنى هذا ألا يدبر الإنسان في أمر المستقبل وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله; بل معناه أن يلحظ الغيب والمشيئة التي تدبره, وأن يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم ويستشعر أن يد الله فوق يده; ولا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره; فإن وفقه الله إلى مراده فيها,وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس; فالأمر لله أولا وآخرا.
إن قصة أصحاب الكهف قصة صراع بين الحق والباطل,وصورة مواجهة بين الإيمان والمادة, وقصة تهدينا إلي التعلق بالأسباب مع الاعتماد على الله وحده؛ وتعلمنا أيضا أن اللجوء إلى الله تعالى سمة المؤمن; فهو سبحانه عونه ونصيره (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) [الكهف:10]; فإن الفتية لما لجؤوا إليه داعين وأسلموا قيادهم له سبحانه واعتمدوا عليه آواهم الله وحفظهم في الكهف وأغدق عليهم مما طلبوا من الرحمة والهدى والرشاد: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف:16]، وكذلك كل من لجأ إلى ربه واعتمد عليه ثبته الله وحفظه وأيده بنصر من عنده.
اشتمل القرآن الكريم علي كثير من أخبار الأمم الماضية والنبوات السابقة والحوادث الواقعة وتتبع آثار كل قوم ونقل لنا صورة ناطقة لما كانوا عليه، يقول السيوطي ذاكرا العلوم التي احتوي عليها القرآن: وعلم القصص هو الاطلاع علي أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ليعلم المطلع علي ذلك سعادة من أطاع الله وشقاوة من عصاه, (الإتقان في علوم القرآن 3/364).
وقصص القرآن أصدق القصص وأحسنها وأنفعها لقوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87], وقوله عز وجل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) [يوسف:3], وذلك لمطابقتها للواقع ووصولها لأعلى درجات البلاغة وفصاحة الألفاظ ولقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال.
وقد تعددت أنواع القصص القرآني بين قصص الأنبياء التي تذكر دعوتهم إلى قومهم ومراحلها ومعجزاتهم وعاقبة المؤمنين بهم والمكذبين; كقصة سيدنا نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم. عليهم جميعا السلام وقصص تتعلق بحوادث وأشخاص لم تثبت نبوتهم; كقصة سيدنا طالوت وجالوت وابني آدم وأهل الكهف وغيرهم. وقصص أخرى تذكر الأحداث التي وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كغزوة بدر وأحد وحنين وتبوك والأحزاب ونحو ذلك.
وتتسم القصة القرآنية بخصائص عدة; أهمها أنها تشد القارئ وتوقظ انتباهه وتجعله دائم التأمل في معانيها وموضوعها, كما تتعامل مع النفس البشرية بواقعيتها فهي ليست غريبة عن الطبيعة البشرية ولا محلقة في المثالية; لأنها إنما جاءت علاجا لواقع البشر فلذلك تذكر جانب الضعف والخطأ في طبيعة الإنسان العادي وتذكر الجانب المثالي المتسامي الذي يمثله الرسل والأنبياء والصالحون.
وكذلك نري الصور البيانية القرآنية تبدو أوضح ما تكون في القصص القرآني، وإن كان كل البيان القرآني رائعا واضحا, فإن القرآن في وصف الحوار والأجواء الفكرية والاعتقادية يصورها تصويرا واضحا, فإذا وصف حالا لرجل تجده يصور قلبه وخواطره, وإذا صور واقعة أو حدثا تجده يصف آثاره ويحدد أبعاده.
ومن ناحية أخرى فإن القصة القرآنية وسيلة إلى تحقيق أغراض القرآن الدينية؛ فهي إحدى الوسائل لإبلاغ الدعوة الإسلامية وتثبيتها, ومن أغراضها الاعتبار بأحوال الأمم السابقة, وكذلك إثبات الوحي والرسالة وتحقيق القناعة بأن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علمه الله سبحانه, والقرآن ينص على هذا الغرض فيقول تبارك وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف:2-3], ويقول: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) [هود:49].
ومن أغراض القصة القرآنية بيان أن الله ينصر رسله والذين آمنوا ويرحمهم وينجيهم من المآزق والكروب, من عهد آدم إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة والله الواحد رب الجميع, يقول تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92]; وفي هذا شد لأزر المؤمنين يقول عز وجل: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120].
وإننا لنلاحظ فروقا عدة بين القصة الدينية والقصة الفنية, وأهم هذه الفروق أن القصة القرآنية دائما ما تؤكد غايتها من خلال التعليقات التي تتكرر فيها, سواء التي تسبق سرد أحداث القصة أو تلحقها أو التي تأتي في أثناءها لتفسر أسباب تلك الأحداث بما يبررها حتى يكون لها وقعها في النفوس; فالقصة القرآنية تحرص على إبراز المغزى في حين لا يجوز ذلك في القصة الفنية, وذلك لأن القصة القرآنية قصة إيمان وهدفها تربية العقيدة في الوجدان الإنساني، والقرآن الكريم عام لجميع الخلق وبعض الناس قد لا يحسن استنتاج العبرة من القصة, فكان لابد من إرشاده إلى الغرض الذي تجسده بأسلوب يغلب عليه التسهيل أحيانا ليفهمه كل إنسان.
أما عن أهم ظواهر القصص القرآني, فهي التكرار الصوري للقصة أكثر من مرة، وإنما سمي هذا تكرارا صوريا لأن ظاهره التكرار, والحقيقة أنه ليس فيه أي تكرار, فالقصة الواحدة إذا كررت في القرآن فإن ذلك يكون لفائدة اشتمل عليها كل موضع خلت منها المواضع الأخرى.
إن القصص القرآني عرض بأساليب معينة ووزع على السور توزيعا خاصا بين إيجاز وإطناب, وكل منها منسجم مع أهداف السورة الأساسية ولا ينفصل أسلوب القصة عن أجواء السورة وأغراضها.
والحاصل أن المتدبر لقصص القرآن الكريم يجد في كل قصة من الأهداف والعبر والإشارات واللطائف ما لا ينفد من المعاني والأهداف الدينية والتربوية الشريفة, وصدق الله العظيم إذ يقول: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
ليس عيبا أن يخطئ المرء، ولكن العيب أن يستمرئ الخطأ ويستبيح المعصية، فإذا أبصر المرء عيبه وتاب إلى الله منه قبل الله توبته ومحا خطيئته، كما قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82] ولهذه الأهمية القصوى للتوبة وتأكيدا على فضل الله الواسع في قبول التائبين إليه، أوردت لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعضا من القصص في هذا الجانب؛ منها قصة الكفل، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته؟ اذهبي فهي لك، وقال: والله لا أعصي الله بعدها أبدا، فمات من ليلته، فأصبح مكتوبا على بابه: إن الله قد غفر للكفل، (رواه الترمذي وحسنه 4/657 والحاكم في المستدرك 4/283 وصححه الذهبي).
فهذا رجل أسرف على نفسه في الخطايا ولم يكن يتورع عن ذنب عمله، ثم أدركته رحمة الله وهو في سبيل ارتكاب فاحشة يجل خطرها وهي الزنا، فلما تاب.. تاب الله عليه، ومن عليه بالفضل وأعطاه كرامة تشهد بصلاحه وتقواه، حيث مات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه: إن الله قد غفر للكفل.
وتعلمنا القصة أن الواجب على المسلم إن وقع في ذنب أن يبادر إلى التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضادها؛ فأما التوبة فهي عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا ورجوعا إلى الله والطمع في رحمته.
وكلما كان الندم أشد كان تكفير الذنوب به أرجى، وعلامة صحة الندم، رقة القلب والشفقة على الخلق، والتماس الأعذار للناس، خاصة الضعفاء منهم وأصحاب الحاجة.
وبهذا الندم يصدق العزم في التوجه إلى ترك هذا الذنب، فإن لم تساعده النفس في العزم على ترك الذنب لغلبة الشهوة فقد عجز عن أحد الواجبين المترتبين على الندم، فلا ينبغي أن يترك الواجب الثاني وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة فيمحوها، والحسنات المكفرة للسيئات إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح، فأما بالقلب فليكفرها بالتضرع إلى الله تعالي في سؤال المغفرة والعفو، وأما باللسان فبالاعتراف بظلم النفس مع الاستغفار فيقول: رب ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي ذنوبي (سنن البيهقي 2/33) وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار المأثورة. وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات.
ومن أهم ما يجب تداركه في التوبة الحقوق المتعلقة بالعباد، فمن تناول مثلا مالا بغصب أو خيانة أو غش في معاملة فيجب أن يفتش عمن ظلمه ليستحله أو ليؤدي حقه له أو لورثته، وليحاسب نفسه على القليل قبل أن يحاسب يوم القيامة، فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه، فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات بقدر كثرة مظالمه، فهذا طريق كل تائب في رد المظالم الثابتة في ذمته.
وأما أمواله الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكا معينا، وما لا يعرف له مالكا فعليه أن يتصدق به، فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار.
وأما الإساءة إلى الناس باللسان والوقوع فيهم بالغيبة فيجب عليه أن يعتذر إلى كل من تعرض له بلسانه أو آذى قلبه بفعل من أفعاله، فمن وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته، ومن مات أو غاب أو تعذر استحلاله فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات؛ لقول الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114].
وبذلك تعلم أن للتوبة ثلاثة شروط: أن تندم على الذنب، وأن تقلع عنه، وأن تعزم على ألا تعود إليه ثانية، وإن كان متعلقا بحقوق العباد رددت الحق إليهم.
وإذا استجمعت التوبة شرائطها فهي مقبولة بإذن الله، فإن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة، كما لا طاقة لظلام الليل مع بياض النهار، قال تعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) [غافر:3]، وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى:25]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار، ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (صحيح مسلم 4/2113)، وقال صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (سنن ابن ماجه 2/1419).
ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل، وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة. فاللهم بصرنا بذنوبنا لنرجع إليك، واجعل لنا من كل ذنب طريقا للفوز بما لديك.
أوردت السنة النبوية الشريفة عدة أحاديث تكلم فيها أطفال وهم لا يزالون رضعا في المهد, وكان تكلم هؤلاء الأطفال دليل براءة للرسل أو لأولياء الله الصالحين تارة, وتعليما وتثبيتا للناس على الحق تارة أخرى, ومن أمثال ذلك شاهد يوسف وابن ماشطة فرعون والطفل الرضيع في قصة أصحاب الأخدود, وقد جمع أحد الأحاديث قصة ثلاثة ممن تكلموا في المهد, فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تكلم في المهد ثلاثة: عيسى, وكان في بني إسرائيل رجل يقال له: جريج, كان يصلي, جاءته أمه فدعته, فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. وكان جريج في صومعته, فتعرضت له امرأة وكلمته, فأبى, فأتت راعيا فأمكنته من نفسها, فولدت غلاما, فقالت: من جريج. فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه, فتوضأ وصلى, ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي. قالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلا من طين.
وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل, فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله, فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله, ثم أقبل على ثديها يمصه. قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه. ثم مر بأمة, فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه, فترك ثديها, فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة, وهذه الأمة يقولون: سرقت, زنيت, ولم تفعل (صحيح البخاري 3/1268).
ويشير الحديث إلى الإيمان بخوارق العادات من المعجزات والكرامات التي جعلها الله تعالى دلالة على صدق رسله وصلاح أوليائه ونجاة لهم من ظلم الناس, ولكن بجانب ذلك نرى في الحديث معاني أخرى وخيوطا رابطة ودقائق خفية من وراء القصص المذكورة فيه, منها على سبيل المثال الدلالة على دور الأم وعظم حقها, وضرورة طلب رضاها وبرها, والتأكيد على أن هذا الواجب من أعظم الواجبات التي يبتغي بها المرء وجه الله تعالى.
فذكر عيسى عليه السلام يشير إلى دور السيدة مريم أمه في نشأته ورعايته وما كان من تحدثه في المهد دفاعا عنها, قال تعالى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم:29-32], وفي إجابة دعاء أم جريج عليه مع كونه شغل عنها بصلاته ما يفيد أن إجابة طلبها وبرها مقدم على نوافل العبادات خاصة إن علم الإنسان تأذي والدته بعدم إجابة طلبها.
وفي دعاء المرأة في القصة الثالثة لولدها أن يعطيه الله تعالى ما ظنته خيرا له ويصرف عنه ما ظنته شرا له إشارة إلى شدة حرص الأم على ولدها ورعايتها له وطلبها لصلاحه في الدنيا.
ويدلنا رد طفلها عليها بعكس ما دعت به على أن نفوس أهل الدنيا تقف مع ظواهر الأمور ويطلبون عادة الخير في الدنيا, أما أهل الحق فإنهم يرون ما لا يراه الناس فيطلبون صلاح الآخرة; ومثل ذلك قوله تعالى في شأن قارون وقومه: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:79-80]; ومعرفة المؤمن بهذا الأمر تجعله ذا قلب راض بما يأتيه به الله, وإن بدا على صورة غير التي يحب, وصدق الله إذ يقول: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
ومما يستفاد أيضا من القصة أهمية اللجوء إلى الله تعالى عند الشدائد, وهذا اللجوء لا يكون بمجرد القول أو القصد; بل يضاف إلى ذلك العبادة, إذ هي الطريق إلى استحضار معيته تعالى واستجلاب نصرته, وصدق الله إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153], وفي الحديث عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى (سنن أبي داود 2/35), وحزبه أي نزل به مهم أو أصابه غم. قال الإمام النووي: الله تعالى يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم بالشدائد غالبا... وقد يجري عليهم الشدائد بعض الأوقات زيادة في أحوالهم وتهذيبا لهم (شرح صحيح مسلم 16/108). فاللهم علمنا ما جهلنا وانفعنا بما علمتنا وهب لنا فهما يهدينا إلى سواء السبيل.