إن المسلم في هذا العصر ينبغي أن يعود إلى مصادره الأولى، وأن يعلم أبناءه الأسس التي عليها قام دين الله، وأن يؤمن بأنه لو عرفها وطبقها وصدقها وآمن بها سينال سعادة الدارين الدنيا والآخرة.
إن معنا كنزا مخفيا، ألا وهو القرآن، عرفناه من آبائنا وتلقيناه من أساتذتنا وشيوخنا، وتربينا عليه حتى صار مألوفا في قلوبنا واضحا في أذهاننا، إلا أن الألفة قد أخفت رونقه وكادت أن تنسينا أهميته، فلم نعد نتكلم فيه وإن كنا في أمس الحاجة إلى أن نعيد ونزيد فيه مرة بعد أخرى، وأن ننبه إليه وأن نرشد عليه. وهنا أتسائل أطال الأمد فقست قلوبنا أم ألفناه بيننا فصدقناه تصديقا باهتا أخفى عنا رونقه.
فمن الأسس التي تميز المسلم عن غيره أنه يؤمن بالوحي. بيد أن أقواما في هذا العصر لا يريدون أن يؤمنوا بالوحي؛ فافترق المؤمن عنهم بإيمانه ووجدانه، فخافوه وحاولوا أن يدمروه لأنه يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى عباده المرسلين.
فنظر المسلمون إلى وحيهم، إلى كتابهم، فوجدوه منزها عن التحريف، ونظروا إلى أوامر الله ونواهيه فوجدوها خالية من الكهنوت، ونظروا إلى الإسلام في جملته وتفصيله فوجدوه دينا يدعو إلى السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة؛ فلم يرض واحد من المسلمين أن يترك الإيمان بالوحي، إلا أنه تحت ضغوط الحياة الدنيا وسفاهة السفهاء من الناس اختلط الحابل بالنابل، وأصبح كثير من المسلمين يتناقض أول كلامه مع آخره، فأوله يلزم منه إنكار الوحي وآخره يلزمن منه الإيمان بالوحي، وأوله يؤمن بالوحي صريحا ثم يتكلم كلاما يخرج عما أمر به الله ونهى عنه رسوله الكريم، فاضطرب حال المسلمين!
روى ابن حبان في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال: أنزل القرآن على رسول الله، فتلا عليهم زمانا، فقال: يا رسول الله، لو قصصت علينا، فأنزل الله: الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ [يوسف :1-3]، فتلاها عليهم رسول الله زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا، فأنزل الله:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ "[الزمر :23] كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قالوا: يا رسول الله، ذكرنا، فأنزل الله: " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" [الحديد:16]. ماذا يقال بعد ذلك سوى: بلى، بلى يا ربنا قد آمنا ونشهد بإنا مسلمون. " تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ" [الجاثية :6].
ينبغي عليك أيها المسلم أن تبدأ بنفسك، وأن تعود إلى الإيمان الصافي بالوحي، واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى لأنبيائه ورسله عبر التاريخ، وبعث في كل أمة رسولا أمره فيها بالتوحيد، وأمره فيها بالبلاغ، وأمره فيها بعمارة الأرض، وأمره فيها بتربية الإنسان، وأمره فيها بأن يتفاعل مع تلك الأكوان، وأمره فيها بكل خير لهم، وجعل لكل منهم شرعة ومنهاجا.
فلتعلم أن الله سبحانه وتعالى أوحى لعباده الأنبياء والمرسلين، قال لنا سبحانه وتعالى:" وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ" [الشورى :51] فالله سبحانه وتعالى يكلم عباده المؤمنين من الأنبياء والمرسلين بطرق ثلاثة: الطريق الأول أن يوحي إليهم(وَحْيًا). فعن عائشة أم المؤمنين أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنهم أجمعين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال قال له:" يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيصم عني وقد وعيت عنه ما قال"(صحيح البخاري). وصلصلة الجرس: صوت حاد يهز وجدانه، صلى الله عليه وسلم، ويجعله في حالة -كان الصحابة يرونها- يتفصد عرقا ولو كان في اليوم البارد.
أما عن الطريقة الثانية، فيقول صلى الله عليه وسلم:"ويتمثل لي الملك أحيانا رجلا فيكلمني، فأعي ما يقول"(صحيح البخاري). كان يأتيه سيدنا جبريل عليه السلام في صورة رجل كان معروفا عند الصحابة الكرام، وهو دحية الكلبي، وكان دحية من سراة الناس- أي: أشرافهم ذوى المروءة- شديد الجمال في وجهه نظيفا في ثوبه، واختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون من سفرائه، فكان سفيره برسالته إلى قيصر الروم"(أخرجه البخاري عن ابن عباس).
وتحكي أمنا عائشة، رضي الله عنها، عن الطريقة الثالثة فتقول أن" أول ما بدئ به النبي من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إِلاّ جاءته مثل فلق الصبح"(صحيح البخاري)؛ وظل هكذا ستة أشهر يرى كل يوم ما سيكون في غد، ومن كثرة هذه الرؤى لم يرد لنا منها شيء؛ لأن ورودها كان سيحكي ما يكون في كل يوم في حياة النبي وفي حياة قريش وفي حياة مكة في تلك الشهور الستة! كان الصادق الأمين كل يوم يرى في المنام فيصبح فيرى ما رآه في المنام في الواقع؛ يهيئه ربه لأن يتلقى عنه سبحانه، يهيئه ربه لتلقي الوحي، يهيئه ربه لتحمل الرسالة والأمانة، فكان لا يرى رؤيا إلا وقد جاءت مثل فلق الصبح.
وهناك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في معجزة من معجزاته في إخباره بالغيب:"الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة"(صحيح البخاري) فلما حسبوا مدة الوحي وجدوها ثلاثة وعشرين عاما، كان منها ستة أشهر رأى فيها الرؤيا الصالحة التامة التي كانت تأتي مثل فلق الصبح، أي أن ما رآه صلى الله عليه وسلم كان جزءا من ست وأربعين جزءا من مسافة الوحي- وقد حكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداءُ النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وهو يخبر بذلك قبل أن يعرف متى موته، وهو يخبر بذلك صحابته الكرام وهو لا يعرف متى الساعة؛ فصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
تقول أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقالك اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال:" اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ،خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ،اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ" فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع"(صحيح البخاري).
الوحي هو القضية التي بيننا وبينهم، الوحي هو ذلك المألوف الذي قد نسيناه، الوحي هو القضية الفاصلة التي ينبغي أن توضع ونؤمن بها جميعا، من أراد أن يؤمن بالإسلام فلا بد عليه أن يؤمن بالوحي، لا مجرد أن يعرف أن الإسلام يدعو إلى الإيمان بالوحي!! فالمعرفة شئ والتصديق شئ آخر؛ التصديق هو الإيمان بالإذعان والتسليم، التصديق أن تجعل هذا هو المعيار الذي تقيس به الأمور، التصديق أن تجعل هذا هو المنطلق الذي منه البداية، قال الله جل في علاه" اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "[العلق 1-5]. لخص لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كل شيء، لخص له طريق المعرفة في قراءة الوحي، وفي قراءة الكون الذي يحيط بنا، لخص إليه البسائط الإلهية، والمركبات الوجودية الإنسانية.
وهذه هو سنة الله في خلقه وكونه. فالله سبحانه وتعالى يبدأ في خلقه من البساطة فإذا بالشيء يركب ويعقد وينمو نموا مذهلا عجيبا؛ فالبذرة الملقاة في الأرض تخرج شجرة، ومن الحيوان المنوي المهين يخرج إنسان له عقل وله وجدان، شيء مذهل!
إيمانك بالوحي يجعلك إنسان حضاريا سواء كنت عالما أو متعلما، سواء أكنت قارئا أم جاهلا، يجري الله الحكمة على لسانك من تلك البسائط الإلهية؛ لأنك آمنت بما أراد أن تؤمن به وصدقت فعرفت الحقيقة على وجهها؛ فأنت بذلك إنسان وأنت بذلك رباني وأنت بذلك عبد لله.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحدا في مسيرة أولئك الأكرمين من الأنبياء والمرسلين" إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" [النساء163-164].
أكرم الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الوسائل الثلاثة في الوحي، فكلمه من وراء حجاب ليلة المعراج "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى* عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:1-16] هذا تصوير يهز المشاعر ويربي الناس على بداية الطريق، على الإيمان بالوحي، فالوحي هو الأساس.
نحن نريد أن نلقى الله سبحانه وتعالى وهو عنا راض، نريد أن ندخل جنة ربنا، نريد أن يعفو عنا وأن يشملنا برحمة منه، لا نريد دنياهم التي يريدون أن نقاتلهم عليها، إنما نريد أن نهديهم بإذن ربهم إلى أقوم طريق، إلى صراط الحميد، وأن ننبههم إلى ذلك الوحي الذي لا نؤمن به إلا بالإيمان بالله منزل الكتاب، وإلا بالإيمان بالنبي المنزل عليه الكتاب، وإلا بالكتاب الذي هو الوحي، فالقضية هي هذه، وممن أدركها شيخ الإسلام مصطفى صبري فألف كتاب ناصعا كبيرا وسماه:(موقف العقل والعلم والعالم من دين رب العالمين وعباده المرسلين) وجاء بهم على المحك"تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ"[آل عمران :64] فهل يستجيب البشر؟
هذه هي القضية؛ ابدءوا .. البدار البدار! علموا أولادكم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، علموهم أن ذلك الإنسان الكامل كان محل نظر رضا الله، وأنه كان يوحي إليه ربه بما يريد، وأن الله قد رباه فأصبح عبدا لربه، وأن الله قد قبله عنده، وأن الله جعله صادقا أمينا لم يكذب في كلام الناس قط تهيئة لتبليغ الوحي عن رب العالمين إلى عباده وإلى العالمين.
الوحي درس من الدروس فراجع نفسك فيه، وثبته في قلبك، وجدد إيمانك به، واجعله منطلقا عندك لتقويم ما حولك عسى الله أن يعلمنا عبور بحر الظلمات الذي ابتلينا به، عسى الله أن ينقذنا وأن يخرجنا منها على خير حتى نلقى الله تعالى وهو عنا راض، عسى الله سبحانه وتعالى أن يهدي الناس إلى أقوم طريق، وأن يعيد الإيمان إلى قلوب كثير من أولئك الذين تشككوا وضلوا.
ونحمد الله تعالى أن من علينا بذلك الرسول الكريم، ومن علينا بأن هدانا إلى الإسلام، ومن علينا أن أنقذنا من ضلالة الشرك. وكثير من الناس في العالم لا يعرفون حقيقة الإسلام لكثرة ما شوهه أعداؤه، وكثير منهم لما عرفوه آمنوا وأسلموا، فهذا كنز بين أيديكم فلتبدءوا به.
ابدءوا في هذا الطريق المنير، والله وضعنا فيه من غير حول منا ولا قوة؛ ولم يخرجنا مشركين ولا ملحدين، إنما منّ علينا بالحنيفية السمحاء، فطرة الله التي فطر الناس عليه، بالإسلام؛ فكان أعظم نعمة يمنها علينا، ونعم ربنا- سبحانه وتعالى- لا تنتهي
يمثل كلام الله تعالى (القرآن الكريم) والسنة المطهرة بأنواعها -القولية والفعلية والتقريرية- يمثلان معا حقيقة الوحي، ولا يفترقان إلى يوم الدين، فالسنة هي بيان وتفصيل لما أجمل في كتاب الله تعالى. وقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؛ فما الذي أرسل الله به رسوله إلينا؟
أنزل الله على قلبه الشريفة القرآن، ووفقه بألا ينطق عن الهوى، "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى [النجم :3-4]. علمه سبحانه وتعالى، " عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى" [النجم :5].إنه الوحي الذي تكلمنا عنه باعتباره هو الفاصل بين المسلمين وبين غيرهم في عالمنا اليوم, فما هو الوحي؟
الوحي قرآن وسنة؛ فالقرآن كتاب أراد الله سبحانه وتعالى أن يصل إلى العباد حتى يهديهم إلى طريق الرشاد، والقرآن صغير الحجم، كبير النفع، عالي القدر، هو إيجاز لكنه إعجاز، فالقرآن استعمل 1890جذرا من جذور العربية، فإذا عرفت أن معجم لسان العرب قد اشتمل على 80 ألف جذر- عرفت أنه لم يستعمل إلا 1.5%من لغة العرب.! القرآن لم يكرر1690كلمة، لم يكررها بل استعملها كلمة واحدة في موضع واحد، وهذا أمر خارج عن طوق البشر.
والقرآن كتاب هداية يؤكد ربنا فيه سبحانه وتعالى في كل كلمة منه على أنه من عند الله، وعلى أنه يرشد إلى الصراط المستقيم، وعلى أنه يدلك بوضوح على برنامجك اليومي الذي يبغي أن تتخذه ديدنا لنفسك ولأهلك ولعشيرتك وقومك، يبين لك قضية التوحيد وكيف نوحد الله في سلوكنا، وكيف نوحده في حياتنا، و يبين لنا مآل الدنيا وأنها على زوال، وينبهنا إلى الموت وينبهنا إلى الحياة الآخرة بعد ذلك، وإلى الحساب وما فيه من عقاب وثواب، وإلى الجنة والنار، وأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وأنه يبشر، ولكن يبشر المؤمنين" الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" [الإسراء :9]. ويبشرهم أيضا بأن لهم أجرا حسنا، ويبشرهم بأن لهم مغفرة من الله سبحانه وتعالى وأجرا عظيما، ويبشرهم ويبشرهم، ويبشرهم إلا أنه يأمرهم وينهاهم، يدعوهم أن يفروا إلى الله جميعا.
فالقرآن آيات قليلة في الكلمات عظيمة في المعاني، تفتح لك آفاق الدنيا والآخرة "الم (1) "ذَلِكَ الكِتَابُ"[البقرة :1-2]. واستعمل كلمة (ذلك)، ولم يقل: (ذاك)؛ تعظيما لشأنه؛ لأن(اللام) لما كانت في لغة العرب تفيد البعد، فلو أشاروا بها إلى القريب فإنه يكون على جهة التعظيم" ذَلِكَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ " [السجدة :6] وصف نفسه وأشار إليها بـ (ذلك) وهو سبحانه قريب من عباده فيقول ربنا سبحانه وتعالى" ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(5)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:1 -7]. فهذا الكتاب علي ما فيه من معجزات هادية للمؤمنين ومبشرة للصالحين، هو نفسه يصبح عمى للكافرين. فيغلق عنهم أسراره النفيسة وهدايته الواضحة.
هذه رسالة ربكم إليكم؛ ينبهكم ويؤكد عليكم أنه.. لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن هذه ليست كلمة تقال بل هي الحياة، هي قضية، هي برنامج يومي، هي فاصلة بينك وبين العالمين، ينبغي عليك أن تعود إليها، وأن تفهمها وأن تعيها؛ وإلا فإنك في دائرة الكفر أو الفسق أو العصيان، ونحن نريد أن نخرج من دائرة الكفر أو الفسق أو العصيان، نريد أن ندخل في دائرة الإيمان والتقوى والروع؛ هناك يزين الله الإيمان في قلوبنا، هناك يشعرنا الله بحلاوة الإيمان، فإذا شعرنا بحلاوة الإيمان استزدنا منه.
هذا هو القرآن، وهذه هي الرسالة، هذا القرآن الذي قال فيه ربنا سبحانه وتعالى" إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا" [المزمل :5]. وقال في شأنه:" لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [الحشر :21]. سبحانه وتعالى جعل هذا الوحي مستمر عبر التاريخ، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، لم يكن وحده متفردا بتلك الدعوة" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل :43-44].
قرن الله سبحانه وتعالى بين الكتاب والسنة فأمرنا أن نطيع الله ورسوله، وأمرنا أن نأخذ الدين من كل من الكتاب والسنة معا وقال:" وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ" [الحشر :7].(وأنزلنا إليك الذكر) قيل: الذكر هو السنة، (لتبين للناس ما نزل إليهم) وهو القرآن، وحتى الذين قالوا: إن الذكر هو القرآن فإن الله تعالى قال له (لتبين للناس) وهي السنة باتفاق؛ فالسنة كانت بيانا للقرآن، وظلت معه وستظل معه إلى يوم الدين يمثلان الوحي من رب العالمين، ولذلك قال الناس عنه صلى الله عليه وسلم: إنه صاحب الوحيين: وحي القرآن ووحي السنة.. فما السنة؟
الذي بين أيدينا نحو خمسين ألف حديث، بعضها مكرر فيؤول إلى ثلاثين ألف، رويت لنا بأكثر من ألف ألف -مليون- سند، ورد إلينا بعضها-بعد الجرح والتعدي- على جهة الصحة والقبول، وبعضها على قبيل الرد أو الضعف، قام علماء الأمة يوثقون مصدرهم، قام علماء الأمة حتى يحرروا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نسب إليه، ومع حذف المكرر يكون معنا خمسة عشر ألف حديث يصح منهم النصف والضعيف منهم النصف، وفي البخاري من غير المكرر: ألفان. بعض الناس يستكثر ما ورد من السنة الشريفة وهو مخطئ؛ لأنه عندما يسمع أنه روي عن النبي ألف ألف حديث فإنه يظن أنها أحاديث مستقلة، وألف ألف إنما هو في الأسانيد.
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه ابن ماجة وغيره- يقول:"فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا" وقد أخرجه البخاري ومسلم، فلمَ نقول ابن ماجة؟ لأن ابن ماجة وضعه في أول سننه- الجزء الأول، الحديث الثاني، وكان الحديث الأول" ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا"- وكأن هذا هو مفتاح الدين أن نأتمر لما أمرنا به ما استطعنا وأن نمتثل فننتهي عما نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، "لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"[البقرة :286].
وفيما رواه ابن ماجه وغيره، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم" يوشك الرجل متكئا على أريكته" أي أنه مستهتر مستهين شبعان"يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله"، وبنحوه عند أحمد وفي أوله: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، والشافعي يرويه:" ومثله معه" أي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كحجم القرآن مرتين لما اشتملت عليه من البيان التفصيلي لكل الأوامر والنواهي، ولكل العقائد والأخبار، ولكل الأخلاق والشرائع.
الكتاب والسنة معا لا يفترقان إلى يوم الدين، الكتاب والسنة هما حقيقة الوحي، والوحي هو الذي بيننا وبين الآخر؛ فعندما نختلف معهم إنما نختلف لأن الكتاب والسنة قد أخبرا بكذا وكذا، وآخر لا يعرف كتاب ولا يؤمن بسنة ولا يريد أن يحتكم إليها" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء :65]
وربنا يقسم أن هؤلاء ليسوا من المؤمنين" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا" [الأحزاب :36] بيانا واضحا لنا فيه من الله برهان. هذا هو الوحي هذه هي القضية، فما مضمون الوحي؟ وما الذي علمنا الله سبحانه وتعالى في الكتاب الهداية؟
إن الله تعالى يحب عباده، وقد جاء الوحي ليبين لنا حب الله لعباده، وأنه قبل أن يفرض علينا الواجبات أعطانا النعم والحقوق، وأن الواجبات قد ارتقت إلى درجة الحقوق في دين الله" الرَّحْمَنُ (1)عَلَّمَ القُرْآنَ(2) خَلَقَ الإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ البَيَانَ" [الرحمن :1-4]
منتهى تكرمة الله هذا الإنسان؛ آتاه كلامه، ويسره بلسانه فأبان خير بيان!! فكانت أعظم المنة، وتمام النعمة، والكلمة الأخيرة من الله رب العالمين، وحيا أوحاه الله لهذا الإنسان الكامل الذي"كان خلقه القرآن"أخرجه الإمام مسلم، والإمام أحمد،" تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" [ الفرقان :1]، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين ورحمة الله للعالمين؛" أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ"[الأعراف :54].
يقول غير الفاهمين إن الحضارة الإسلامية إنما هي حضارة واجبات، ولذلك فهي حضارة مستبدة-زعموا- وأن الدين الإسلامي ليس فيه الحب الذي رأيناه في دين آخر! وهم بذلك قد حادوا عن الحق؛ لأن ديننا هو دين الحب، حب الله ورسوله والمؤمنين، حب الحق، حب الطريق الواضح المستقيم، حب السعي إلى الحقيقة، حب المحافظة والعلم،
وليس حب التخريف والتحريف ولا الشهوات ولا الضلال، يقولون عنا إننا مستبدون! ونحن قد علت بنا الواجبات لدرجة الحقوق وعلت بنا الحقوق لدرجة الواجبات؛ لأن ذلك من عند رب العالمين؛ حقك في الحياة صار واجبا فحرم عليك الانتحار، حقك في العلم صار واجبا فلا بدّ عليك أن تتعلم ومن لم يتعلم فهو آثم.. آثم في حق نفسه.
الحقوق تحولت عندنا إلى واجبات فظنّ بعضهم أن حضارتنا إنما هي مستبدة وإنما هي قد بنيت على الفقه ولم تبن على الإبداع ولم تبن على الحرية والانطلاق. وهذا كذب، فقد بنيت على الالتزام وبينت على الإبداع، نعم لم تبن على البدعة ولا على التقليد الذميم للآخر الضال المضل، ولكنها بينت بالتوازن، بالميزان الذي أقام الله به السماوات والأرض، فسبحانه وتعالى خلق الأرض والسماوات" وَوَضَعَ المِيزَانَ" [الرحمن :7]،" وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ" [البقرة :269].
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- مشيرا لحفظ السنة- يقول صلى الله عليه وسلم" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". حديث متفق عليه رواه البخاري ورواه مسلم ورواه أحمد في مسنده، وهو حديث متواتر روي من أكثر من مائة وعشرين طريقا، ينبه النبي صلى الله عليه وسلم الناس ألا تكذب له ولا تكذب عليه، ولذلك فإن تصحيح الأحاديث من الدين، فقالوا:" إن هذا الإسناد من الدين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
حفظ الله سبحانه وتعالى الكتاب لنا بحفظه" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر:9] وحفظ لنا سنة نبيه بفضله فقامت الأمة- بتوفيق الله لها- بذلك الحفظ إلى يوم الدين،" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "[القيامة :19].
إنما الذين يريدون أن يتبعوا الشهوات، ويريدون أن نميل ميلا عظيما، ويهرفون بما لا يعرفون، ويتصدون قبل أن يتعلموا؛ فالله حسيبهم.
فعليك أيها المسلم أن تكون واعيا في سعيك،وتكون مؤمنا في سيرك، واسأل الله أن يلقي الثبات في قلبك، وأعطهم -كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- حقهم، واسأل الله حقك، واسأل الله السلامة؛ فنحن في فتنة عمياء ظلماء لا يدرى بدؤها من نهايتها، لا يزال فيها الحليم حيران، اختلطت الأمور، فأُمر بالمنكر، ونهي عن المعروف وأعجب كل إنسان برأيه، وشاع في الأرض قلة العلم وقلة الديانة وقلة الحياء و"إذا لم تستح فاصنع ما شئت" !رواه الإمام أحمد في مسنده.
فالمؤمن اليوم غريب؛ قابض على دين كما يقبض على الجمر.
فما العمل؟ الصبر، الفهم والوعي والسعي، كتاب الله، وسنة رسول الله فارجع إليهما واحتم بهما.
الدعاء ليس من صفة الضعفاء، الله الذي بني السماوات وبسط الأرض؛ عندما تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه، تلجأ إليه فيقف معك وينصرك، كن مخلصا لله" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(صحيح البخاري)
انخلع من دائرة الكفر والفسوق والعصيان بكلك وجميعك، بقلبك ونفسك وروحك وعقلك، وادخل في دائرة الإيمان والتقوى والورع والرشاد والسداد ابتداءا؛ تُفتح لك كنوز القرآن، وتيسر لك أمور السنة، يرض الله عنك، تمد يدك إلى السماء:" يا رب يا رب" فيستجيب لك، فاللهم اجعلنا من عبادك المُخلَصين المخلَصين، ونور قلوبنا يا رب العالمين.
يقول حافظ إبراهيم في قصيدته الرائعة عن اللغة العربية حكاية على لسانها:
وَسِعْتُ كِتَابَ الله لَفْظَاً وغَـايَةً ** وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بهِ وَعِـظِاتِ
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ ** فَهَلْ سَاءلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَـاتي
فمن خلال فهم هذه اللغة يمكننا أن نقرأ كتاب الله تعالى قراءة صحيحة، فهي مفتاح الكنز، وهي الأداة التي نبلغ بها فهم المراد. فهو قرآن عربي مبين، والقدح في أداته-اللغة العربية- هو قدح لا يخرج عن كونه قدحا في القرآن، فبها أُنزل وبها يُقرأ.
ولقد كانت الأمة أمة أمية يحفظون ما يسمعون، ويضبطون، ولا يكتبون؛ فقرأوا، وكتبوا وأشهدوا بتوفيق الله. فالوحي (القرآن) نزل بلسان عربي مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
والذي بيننا وبينهم الوحي الذي أنزله الله من السماء على قلب رسوله المصطفى ونبيه المجتبى، صلى الله عليه وسلم، ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) [غافر :15]. والذي بيننا وبينهم هذا الكتاب الذي آمنا به وجعلوه وراءهم ظهريا. والذي بيننا وبينهم ما يوصل إلى فَهم هذا الوحي الشريف، وإلى الامتثال بأوامره ونواهيه، وإلى طلب الهداية منه.
يقـول ربنا سبحانه وتعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ" [يوسف :1-3]. ويأخذ يقص علينا قصة يوسف.
وكان علماؤنا يجلسون في الأزهر الشريف، يعلمون القضاة، والمحامين، والمدافعين عن العدالة- من سورة يوسف؛ لأنها قد اشتملت على كل إجراءات القضاء وإقامة العدل والحكم بين الناس، على جميع المستويات التشريعي والقضائي والتنفيذي، وعلى جميع المراحل؛ من الشهادة والدعوة، والادعاء، والسماع.
كانوا يدرسون سورة يوسف لبيان ما يكتنف النفس البشرية، وأن النفس البشرية غابة متشابكة يصدر عنها الخير والشر، يصدر عنها الحسن والقبيح. فعن أَنَسٍ رضى الله عنه، أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُون) (رواه الترمذي في سنته). وبيان أن هذه الدنيا بما فيها من أكدار ليست مثالاً كاملاً، إنما هي واقع مر ينبغي أن يُغَيَّر إلى الأحسن وأن يُقاوم وأن تقاوم فيه الشهوات. يُدَرِّسون ويَدْرُسون من كلام الله جل جلاله ما يأخذون منه المبادئ لسير العدالة بين الناس.
وقد ختمت السورة ببيان أثر القصص القرآني علي المسلمين، يقول ربنا سبحانه وتعالى: "لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ "[يوسف :111]. وأولوا الألباب هم المفكرون المتعقلون، الذين يتدبرون القرآن، ولا يخرون على آيات ربهم صمَّا وعميانًا. ولخص الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة وغيرها من آيات الكتاب المجيد أهداف القصص القرآني، فقال: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" [الأنعام :90]، وقال:" إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" [آل عمران :62]. فهو سبحانه وتعالى أنزل القصص الحق "فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ" [يونس :32] . وهذا القصص الحق الذي أنزله الله سبحانه وتعالى في الكتاب إنما يُفهم بلغة العرب.
والقدح في اللغة العربية الذي نراه في الكتُب الرخيصة، وفي بعض المجلات السيارة وفي المؤتمرات المشبوهة وفي الاجتماعات الخائبة، هو في واقعه قدح في الأداة التي نفهم بها القرآن، الذي سوف يكون تصديقًا لما بين يديـه من الكتب السابقة. والذي سوف يكون تفصيل كل شيء يهم الإنسان في حياته وسعيه إلى الله، في حياته ومماته وحقيقة الكون، وأن هناك معادًا سنعود فيه إلى ربنا سبحانه وتعالى للحساب، ونحن نريـد أن نكون في رضـا الله إلى الجنة، نعوذ به من سخطه والنار. والذي سيكون هدي لأن بعده هو الضلال. والذي سيكون رحمة لأن بعده هو العذاب.. عذاب نراه في الدنيا من التخبط والمذلة والمهانة بسبب البعد عن كتاب الله ومبادئه وأوامره وسننه، وعذاب في الآخرة ينتظر الفاسقين.. ينتظر القوم الذين لا يؤمنون. فهو هدى للذين آمنوا ولأولي الألباب، أما القوم الذين لا يؤمنون فهو عليهم عمى.. أما القوم الذين لا يتقون فهم يطلبون أن يسدوا الطريق عن فهمه وأن يُنحّوه جانبًا .
يقول ربنا سبحانه وتعالى في آياتٍ وكأنها نزلت من أجل عصرنا الحالي ترد على أولئك المنافقين، وعلى هؤلاء الجاهلين إذا كانوا لا يعلمون. يقول ربنا سبحانه وتعالى: "حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ" [الزخرف : 1-5].
إن هذا الذي يعادي الوحي يريد عدم التكليف، لا يريد الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والذكر، والدعاء، لا يريد أن يلتزم بكل هذه القيود التي يراها شاقة على نفسه، ولا يريد أن يمنع نفسه عن الشهوات.. عن الزنى والكذب والنفاق..؛ فماذا يفعل حتى يُظْهِر نفسه بِكِبْرِه أنه خير الناس ؟! فلا يجد أمامه إلا نكران الوحي. ويقول ربنا جل في علاه لهذا الصنف من الناس: "سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ" [القلم :44-45]. يضطر هذا المسكين أن ينكر وحي الله من أجل كبره الذي في الصدور، ولا غرابة..؛ فقد عرض الله الأمر على إبليس أنِ اسجُد مع الملائكة لكنه أبى وتكبر ورفض، "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ" [البقرة :34]. ويقول الله سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء: لما تَمَكَّنَ الكبر من قلوبهم أبوا: "وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ" [الزخرف :6-9]. وكأن هذه الآيات نزلت في هؤلاء المستمعين الذين يريدون أن يقدحوا في العربية، فهم يؤمنون بالله ويكفرون بالوحي وربنا ينبهنا أنه أنزل الكتاب بالعربية لعلنا نعقل.
أنزل الله سبحانه وتعالى الكتاب بالعربية على أقوامٍ من الأميين فدربت ذاكرتهم على الحفظ على مر العصور بصورةٍ لم يتدرب عليها أقوام آخرين؛ فكانت الفراعنة تكتب، والرومان يكتبون، وأهل الهند يكتبون، إلا العرب كانوا لا يقرءون ولا يكتبون بل كانوا يحفظون، أنزل الله الكتاب على أقوامٍ يحفظونه في صدورهم ويتهيئون لهذا أتم التهيؤ من قرون بعيدة -وكما يقول علماء الوراثة الآن- وهذه الوراثيات تزداد كل حين.. كل جيل، جيلا بعد جيل.. فأتى الوحي إلى أقوامٍ يحفظون ما يسمعون، ويضبطون من غير كتابة، إلا أنهم كتبوا أيضًا وأشهدوا على ما كتبوا حتى تمَّ الحفظ الذي وعد الله به عباده للكتاب الخاتم؛ فإذا كان هناك عهد قديم وعهد جديد فهناك عهد خاتم، والعهد الخاتم هو القرآن الكريم. هؤلاء لا يعرفون هذا المعنى: أن الرسل تسير في موكبٍ واحد..
ويتساءل أقوام لِمَ اختار الله العربية ؟!! فلا يعلم هؤلاء مدي عظمة اللغة العربية، وأنها لغة فيها من المميزات ما لا يوجد في لغةٍ سواها، لا تستطيع لغة أن تبقى على هذه المرونة والسعة إلى يوم الدين بدلالات ألفاظها وبمواطن الكلمات في الجملة المفيدة سوى العربية، ونكتشف هذا عندما نريد أن ننقل معاني القرآن الكريم إلى لغةٍ أخرى من لغات البشر. فترجمت تلك المعاني إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة، كل هذه الترجمات عبر العصور من المؤمنين ومن الكافرين لم توفِّ القرآن حقه، ولم تنقل إلا وجهة نظر الكاتب والمترجم؛ لسعة العربية، ودقة معناها، وجمال جرسها، ولمردود الكلمة العربية على ذهن السامع الذي يعرف اللغة وهو مردود آخر غير كل لغات العالم، فما ظنك والقرآن كلام الله رب العالمين.
وقد تكاتفت اللجان على أن تترجم معانيه بحيث أن تنقل النص العربي إلى أي لغة كانت سواء استعملت من ألفاظ تلك اللغة المنقول إليها قديمها وحديثها، فلا يمكن أن يُنْقَلَ القرآن كما هو في العربية.. أبدا..! أليس هذا دليلاً على حكمة الله أن ينزله قرآنًا عربيًا ؟ وألا يكفي هذا عند قوم يؤمنون يريدون أن يستفيدوا من الكتاب وأن يستهدوا بهديه أن يهتموا بلغة العرب تدريسًا وفهمًا.. تعليمًا ونشرًا .
وإذا كان هذا سمت العربية في ذاتها.. فكيف بالنص القرآني في منطقه ورسمه، ولفظه ونظمه، وحلاوته ونغمه، وفعله في النفوس وأثره، وأوجه تحمله وثرائه، وحرفه وشكله، وتركيبه وبسطه، ومفاتحه وخواتمه، ومداخله ومخارجه.. وكيف بظاهره وباطنه.. وحدِّه ومطلعه، فعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قـال: «أُنْزِلَ الْقُرآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ لِكلِّ آيةٍ مِنْهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ». صحيـح ابن حبان / 75 ، وفي مشكاة المصابيح1 / 238، 2 / 41: «أنزل القرآنُ على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهرٌ وبطن، ولكل حدٍّ مطّلَع».
لا والله (ولا تنقضي عجائبه ولا يخلَق عن كثرة الردِّ).. فسبحان من كان هذا كلامـه وتعالى علوًا كبيرا!!!
إنها والله لعربية أعجزت فطاحل العرب، ومن مدَّ عنقه من العجم فدخلوا في دين الله أفواجا، أو خذلوا أنفسهم وخذَّلوا. انها عربية أعجزت معشر الإنس والجن معا جميعًا، فهاهو الجن لا يجد أمام هذا القرآن إلا الإيمان، ويخبرنا سبحانه وتعالى عن ذلك: "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا "[الجن :1-2].
ومن عجائب القرآن أن حفظه العربي والأعجمي حتى الذي لا يعرف العربية، وحفظه الكبير والصغير، وليس هناك كتابا علي مر التاريخ وإلى الآن كهذا الكتاب. ومن عجائبه أيضا أن أحدا لم يحفظ ترجمة معانيه إلي أي لغة كانت، فلم نرى من يحفظه بالإنجليزية أو اليابانية. فهل بعد ذلك من إعجاز عجيب.
قرآنٌ مجيد ولفظه عربي مبين.. وفيه سر عجيب يهدي إلى الرشد.. لا يزال غضا طريّا كأنما أنزل الآن..إنه الوحي.. إنه كلام الله رب العالمين .. "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ" [فصلت :44]. إنه الكنز! والعربية مفتاحُ الكنز.. معنا كنز أيها المسلمون تنبهوا إلى أن أحدهم -وأحدهم هذه تعني جماعة كثيرة من الناس المنافقين- يريد أن يلقي بصندوق الكنز في البحر حتى نضل أكثر من ضلالنا، وتتعمى علينا الأمور أكثر مما قد عُمِّيَتْ علينا..!
لمـا نـزل قولـه جـل في عـلاه:" حم * تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ [غافر :1-3]، سمعه الوليد -ابن المغيرة- يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإن له لحَلاوة، وإن عليه لطَلاوة، وإن أعلاه لمُثمِر، وإن أسفله لمغِدق، وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صَبَا الوليدُ لتَصبُوَنّ قريش كلها..! وكان يقال للوليد "ريحانة قريش"؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه.. فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِمَ ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قِبَله، قال: قد علمت قريش إني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول !!؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ! ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليَحْطِمُ فاتِحَتَهُ، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ! قال: فدعني حتى أفكر ! فلما فكر -وقدَّر فقُتِل كيف قدَّر- قال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْني وَمَنْ خَلَقْتُ وَحيدًا}( الحاكم في المستدرك / 3902، وصححه).
فلنحذر أبا جهل وأتباع أبي جهل!! واحذروا أن تبيعوا دينكم ودنياكم بدنيا غيركم.. وتطلبوا رضا غيره بسخطه سبحانه وتعالى .. ارجعوا إلى كتاب الله تعالى، واقرءوا القرآن من وعي ومن غير وعي حتى يفتح الله تعالى عليك فهمه، وعَلِّم نفسك وأولادك العربية واستشرف نفحات الله وحبه.. أحبَّ كتاب الله.. أحب كتاب الله حبَّا تلقى به وجه الله يوم القيامة .
قال الله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران :110]. فكيف يكون ذلك؟ ولماذا الإسلام هو العهد الخاتم الذي رضيه الله تعالى للعالمين؟ وهل الوحي هو الفاصل بين المسلمين وغيرهم؟وكيف أن نسيان هذا الوحي هو طريق الذل والهوان في الدنيا، والهلاك والخسران في الآخرة؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحيا حياة طيبة يعبد فيها ربه ويزكي فيها نفسه ويعمر فيها أرضه، ثم يلقى ربه أبيض الوجه ويفوز بالجنة خالدا فيها؟ وكيف يمكن للمؤمن أن يطيب مطعمه فيكون عبدا ربانيا، قلبه فوق عقله وعقله فوق سلوكه؟ أسئلة عديدة ولكن أجوبتها بسيطة سهلة.
إن الذي بيننا وبين العالمين هو الوحي، وحي أنزله رب العالمين، رب السماوات والأرض، أنزله على قلب نبيه فقال: "هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ" [التوبة :33] وقال: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة :213] وقال:" نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ" [آل عمران :3-4]. وقد أنعم الله علينا أن جعلنا خير أمة أخرجت للناس، وطلب منا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر وأن نؤمن به فقال: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ" [آل عمران :104]. ولقد رأينا ما احتواه الوحي من تعليمات فيها من الأوامر والنواهي ما أراد الله بها سعادة الدارين للبشر، فآمن بها من آمن وكفر بها من كفر، واتبعها من اتبعها، واستوعبها من استوعبها، وحجب عنها- كلها أو جزئها- من حجب عنها، وكان معنا من الوحي ما قد رضي الله سبحانه وتعالى للبشر..فما الذي حدث؟!
أين أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي ينبغي لها أن تكون في وسط الأمم وفي أعلى قمة الهرم. تشهد للناس وتشهد عليهم، ويشهدها الناس فيجعلونها إماما يحتذى. قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" [البقرة :143]. فما الذي حدث؟!
كيف تأخرت أمة "أقرأ" ومعها القرآن والذي قال عنه سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم فيما نقله عنه عبد الله رضي الله عنه، قال : « إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبل الله ، والنور المبين ، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد ، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول الم حرف ، ولكن ألف ولام وميم » (رواه الحاكم في المستدرك). فهو الميثاق الأخير والعهد الخاتم الذي رضيه الله تعالى للعالمين!
فما الذي حدث في قلوب فتحت العالم شرقا وغربا وكان منها صاحب الحُق؟! وصاحب الحُق رجل لا نعرف اسمه؛ كان في إحدى المعارك مع الفرس وقد عرف أن الغلول حرام، وأنه كلما وجد من مال أو من شيء فعليه أن يسلمه إلى القائد، وكان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وجاء الرجل وسلمه حُقا(علبة)، هذه العلبة كانت تحتوي على جوهرة التاج، تاج كسرى، وهي أعلى جوهرة في الأرض. وما أدراك ما كسرى حينئذ! إيوان كسرى كان طوله أكثر من ثمانمائة متر؛ يدخل الداخل من أوله فتأخذه الهيبة، حتى إذا ما وصل إلى عرشه سجد له، فما بالكم بتاجه الذي على رأسه وجوهرته! سلم الرجل الجوهرة إلى خيمة القائد.فتح سعد رضي الله عنه العلبة فوجد فيها تلك الجوهرة النفيسة وتعجب أن يكون أحد من البشر يرى هذا ولا يخفيه! فأمر بإحضار الرجل، فجاء الرجل وهو يقبض على ثيابه بيديه، وتعجب سعد، المفترض أن يدخل فيصافح القائد، لكن الرجل كان منشغلا بثيابه البالية عن مصافحة سعد، فقال له سعد: أبيدك شيء؟! قال: لا؛ إنما أنا أستر عورتي.
يخاف أن يترك ثيابه حتى لا تظهر عورته. هذا الرجل الفقير سلم جوهرة تاج كسرى للقائد لأنه كان يتذكر الله رب العالمين، ويعلم أن فعله إنما هو جهاد في سبيله، لا من أجل دنيا يصيبها ولا امرأة يتزوجها، ولا أرض يضمها إلى أرضه ولا سلطان يتوخاه ويبتغيه، إنما هو جاء من أجل أن يجاهد في سبيل الله؛ لأنه سمع أنه بينه وبين الجنة أن يموت.
إنهم أناس قد أخرجوا الدنيا من قلوبهم وكان فيهم صاحب الحُق الذي لا يجد ثياباً تستر عورته، ويسلم ملايين الجنيهات والدنانير والدراهم إلى القائد لأن هذا المال حرام عليه. هؤلاء هم الذين فتحوا الأرض وملكوها.
فما الذي حدث وهذا التاريخ معنا وهذا الكنز ما زال يتلى ويحفظ بيننا؟!
الذي حدث أمران: الأمر الأول أننا قد تركنا الوحي، والأمر الثاني أننا قد تركنا الآخرة.فإذا ما تركنا الوحي وتركنا الآخرة عشنا في متاهة لا نعرف كيف نبدأ ولا كيف نسلك! عشنا في متاهة لا نعرف كيف نقوم الأفكار، ولا كيف نعرف كيف نبدأ ولا نعرف كيف ننشئ المناهج، ولا كيف نربي أبناءنا، ولا كيف أن نتفاوض مع عدونا، ولا كيف يمكننا السيطرة على حالنا، ولا نعرف شيئا مطلقا، وكأننا ضللنا الطريق وهو جلي أمامنا!!
وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافقت صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: (أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء)؟! قالوا: أجل يا رسول الله، قال ( فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم) رواه الإمام البخاري. هؤلاء هم الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا معه في الغداة والعشي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
ترك الوحي وترك الآخرة أمران مترتبان. بدأنا في التاريخ بترك الوحي وما تضمنه وما دعا الله إليه مما فيه سعادة الدارين؛ وتركنا الآخرة فأصبحنا صفر اليدين. أو كما قال سبحانه وتعالى:"وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" [الإسراء:45]." نحن في عزلة تامة عن القرآن الكريم، نسمعه كأصوات ولا ندرك أحكامه، نسمع آياته تتلى أناء الليل وأطراف النهار ولكننا لم نجعله هداية نهتدي بها في ظلمات الحياة، ولم نجعله منهجا ننتهجه لإصلاح أحوالنا، ولم نتخذه منبعا في بناء حضارتنا. قال تعالي: "وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ُنفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ"[الإسراء :46 ,47].
وقد ذكر الله تعالي في محكم آياته معرفته سبحانه بالعقلية القائمة عند غير المسلمين. والتي تشتمل علي رؤيتهم الكلية للكون والإنسان والحياة وما قبل ذلك وما بعد ذلك. فقال تعالى: " نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ"[الإسراء : 47]. ولم يقل:"يستمعون إليه"، فبين أن هناك شيئا يستمعون من خلاله القرآن. وهو الاعتقاد بأن القرآن من عند محمد، وأنه صناعة بشرية، وأننا كمسلمين لا يجب أن نلتفت إليه ولا أن نقف عنده كثيرا، ولا أن نستهديه أو نجعله دستور حياتنا. وإذا كان لا مفر من الإيمان به، فلنجعله إيمانا جُمليا لا يتحكم في مورد ولا مصدر!
"نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا(48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا"[الإسراء :47-51].
وقد ربط الله تعالى بين ترك الوحي وترك الآخرة، مما يدل بالقطعية علي إعجاز القرآن. ويشهد بذلك ما حدث في التاريخ الإسلامي.
بدأ الناس بنسيان الآخرة وصدقوها تصديقا باهتا، ثم بعد ذلك انحلوا من عقدة الوحي وصدقوه تصديقا جُمليا، ولم يجعلوا الآخرة هي الأساس وهي الحيوان. ولكنهم جعلوها شيئا عابرا لا تستحق الوقف أو التفكر. وهو ما وصل بنا إلي ما نحن فيه.
ولكن إذا انعكست الأمور، واستُحْضرت الآخرةُ ومعناها وما ذكره الله عنها في كتابه الكريم لا يمكن أن يتجرأ أحد علي معصية الله، ولا يمكن إلا أن يمتلئ قلبه هيبة لله وهمة له، ولا يمكن إلا أن يكون الإنسان عبدا صالحا من عباد الله في كل شيء؛ في الفعل واللا فعل، في النوم وفي اليقظة، ولهانت عليه نفسه في جنب الله واطمأنت بذكره، لكن نسيان الآخرة هو الذي يهون على الناس نسيان الوحي، والله عز وجل يقول:" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا(27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا(28) لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا(29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا(30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا"[الفرقان:27 -31].
فهجر الوحي وترك لآخرة وتملك الدنيا بالقلوب هو الذي يفضي إلى الهلاك، والله تعالى يقول:" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"[النحل :97]. فما أطيبها حينئذ من حياة، وما أحسنه يومئذ من مآل وجزاء! نريد أن نعيش الإيمان وأن يعيش الإيمان في قلوبنا، نريد ألا تتحول العقائد إلى مفاهيم قائمة في الذهن، بل نريد أن تكون منطلقا للعمل، نريد أن يعيش المسلم مستحضرا ربه في حياته، منكشفة له الحقيقة على وجهها من أن هذه الحياة الدنيا فانية، وأن أمر الله فينا هو العبادة والعمارة والتزكية؛ فلابد أن نعبد الله، وأن نعمر الأرض وأن نزكي النفس، ولابد أن ندعو الناس إلى الله رب العالمين، مدركين أن الله تعالى قد حد لنا حدودا وأمرنا بأوامر ونهانا عن نواه يجب علينا أن نتقيد بها، وأنه قد أخبرنا عن حقائق يبغي أن نستحضرها. فإن نحن فعلنا ذلك كنا عبادا ربانيين، وإن نحن مع ذلك أطبنا مطعمنا وانتهينا عن الفساد المستشري في أوساط الناس مددنا أيدينا إلى السماء ودعونا: يا رب؛ فيستجيب الله لنا.
أما أن يكون مطعمنا من الحرام ومشربنا من الحرام، فكيف يستجيب الله لنا. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، فيما رواه عنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم انه قال « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون :51]، وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة :57]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ. (رواه مسلم)، ويقول أيضا فيما رواه عنه أبي هريرة « رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ».(رواه مسلم).
فالعبرة هاهنا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأَعْمَالِكُمْ (رواه مسلم). والقلب يبغي أن يتحكم في العقل، والعقل يتحكم في السلوك، فإذا فعلنا ذلك استقامت لنا الدنيا، أما إذا تحكم سلوكنا وشهوتنا في عقولنا، وعلت عقولنا على قلوبنا اختل الأمر، وأصبحنا صورة مشوهة من الفجار. والله تعالى يقول" لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِى مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ :15]. فعلينا أن ندرك الأمر على حقيقته وأن نعود إلى الوحي، وأن نستحضر الآخرة في ظل ذكرنا لله سبحانه وتعالى.
لا يعني حسن الطعام وطيبه كونه من حلال فقط بل هناك مستويات أخرى لحسن الطعام، وهناك أسرار أخرى لهذا ومنها علاقة الطعام وحسنه بحسن الأخلاق، فيسأل كثير من الناس عن أسباب شيوع سوء الأخلاق في العالم كله من حولنا، وأحد أهم تلك الأسباب -في رأيي- هو سوء الطعام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء» [رواه الطبراني في الأوسط] وهو حديث مكون من مقطعين، الأول : أطب مطعمك، وهو أمر يطلب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطب الإنسان مطعمه، وذلك على مستويين :
المستوى الأول : أن يكون الطعام حلالاً، ومعنى هذا أن يكون مصدر الدخل حلالاً ليس فيه شيء من الرشوة أو السرقة أو الاختلاس أو الاغتصاب أو التدليس أو الغش، ويكون أيضا بعيدا عما حرم الله من المطعومات كالخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح، قال تعالى : (قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام :145].
بل إن قصة آدم عليه السلام في القرآن بينت نكد أكل الطعام المخالف وجعلته سببًا للطرد من الجنة قال تعالى : (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [الأعراف :22]. وقال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه : «كانت بلية أبيكم آدم أكله، وهي بليتكم إلى يوم القيامة»، فإن كان الطعام من مال حلال، وهو مما أحل الله من المطعومات دخل الطاعم حد استجابة الدعاء.
المستوى الثاني : هو أن يكون الطعام نفسه طيبًا في مذاقه، وفي إعداده، والذي يطلب هذا النوع من الطعام هو رقيق القلب، رهيف الحس الذي لا يدفعه الجوع لملء البطن دون تلذذ بالتذوق والاستحسان، وهي صفة نراها في قوله تعالى عن أهل الكهف بعد بقائهم 309 سنة في سبات ونوم : (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) [الكهف :19]، فلم يدفعهم الجوع إلى طلب أي أكل ولو كان حلالا في ذاته، وفي مصدره، بل طلبوا أن يكون مرتبطا بأنه الأزكى، ثم تشير الآية إلى كمية الطعام وأنها برزق منه، ولم يقولوا فليأتكم به، وهنا نرى العلاقة مع الطعام نتيجة تزكية النفس، ونرى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تزكية النفس من طيب المطعم حيث ذكر : (الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء : يا رب. يارب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له) [رواه مسلم].
تناولنا مع الطعام يجب أن يكون منضبطًا؛ لأن له أثرا في حياتنا اليومية بجميع جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذه الضوابط تؤخذ من القرآن والسنة فمنها :
قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) [الأعراف :31]، فالكم مهم ينظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه المقدام بن معدي كرب؛ حيث قال : «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم ثلاث آكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه» [رواه النسائي والبيهقي في الشعب والحاكم في المستدرك].
ويدرك السلف الصالح هذا المعنى فيقول ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث : لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة. ويقول المروزي للإمام أحمد بن حنبل :هل يجد الرجل في قلبه رقة وهو شبع ؟ قال : ما أرى ذلك. وقال إبراهيم بن أدهم : (من ضبط بطنه، ضبط دينه، ومن ملك جوعه، ملك الأخلاق الصالحة، وأن معصية الله بعيدة عن الجائع، قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب) وهذه المقولة تلخص تلك العلاقة التي كانت مرئية وعند فقدها فقدنا الشيء الكثير.
ويجعل الله سبحانه وتعالى من محاسن الأخلاق إطعام الطعام، فيقول سبحانه : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا) [الإِنسان :8 ، 9]، فإطعام الطعام الطيب الحبيب إلى النفس -ولابد أن يكون بهذه الصفة- من صفات الذين يحبهم الله.
بل جعل الإطعام طريقا لتكفير الذنوب واشتراط أن يكون من أحسن الطعام وأعلاه، قال تعالى في كفارة اليمين : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة :89]، وأوسط معناها أعلى، كما في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة :143]، بل لابد من أن يكون حلالا له مذاق هو من أحسن ما يطعم الإنسان به أهله.
وهكذا رأينا زمننا الجميل يهتم الناس بحسن الطعام وإعداده والجلوس له، وعدم الإسراف فيه، وعدم الاستهانة بشأنه، حتى جعلوا الاستهانة بالطعام من كفر نعمة الله على الإنسان، ورأيناهم يتفننون في ذلك حتى مع بساطة الطعام، والمصريون والشاميون وغيرهم مشهورون في التعامل مع (الفول) وهو من الآكلات الشائعة البسيطة، فيقدمون بأشكال شتى وطرق مختلفة، فأين هذا من «كل وأنت تجري) (Take away) وأين هذا من عصر الهمبورجر والصفيح (يقصدون صفيح المشروب البارد).
وسن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آداب الطعام، فقال لابن عباس رضي الله عنه : «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» [أخرجه البخاري ومسلم] وقال صلى الله عليه وسلم (من أكل طعاما، فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم].
وقد حث الشرع على التؤدة والتمهل في الأكل، وعدم العجلة والإسراع فيه، وقد ذمت امرأة زوجها بهذه العادة السيئة في حديث أم زرع الذي قصته السيدة عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالت عن هذه الزوجة : «قالت السادسة : زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، لا يولج الكف، ليعلم البث» [أخرجه البخاري ومسلم] فدل ذلك على أن هذه الصفة في الأكل والشرب من مساوئ الأخلاق ومذوم الصفات.
وقال صلى الله عليه وسلم : «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» [أخرجه البخاري ومسلم] وقال عليه الصلاة والسلام : «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة» [أخرجه البخاري ومسلم].
ومن رفض هذا المنهج، وسار مسرفًا في أكله، ولا يبالي من أين كسب رزقه، ولا يبالي بطيب مطعمه، ولا يطلب استجابة الدعاء والخلق الحسن، فإنه يكون قد وضع نفسه في دائرة الترك، وفلسفة الترك في القرآن عظيمة، ولها منهجها نلحظها في مسألة الطعام، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر :3]، ولعلنا نتوسع في بيان فلسفة الترك، وموقف القرآن منها؛ لأنها نافعة للمسلم في عصرنا.
علينا إذن أن نرجع إلى الطعام الحلال، حتى نقضي على الشر في أنفسنا، والفساد في مجتمعاتنا والاختلال في العالم. دعوة قد يراها بعضهم بعيدة، ولكن علينا أن نسعى، وليس علينا إدراك النجاح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والرجلين، والنبي وليس معه أحد» [رواه مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه] يعني ولا يضره ذلك أنه كان على الحق، ولابد من التغيير «ابدأ بنفسك ثم بمن يليك» [رواه مسلم والطبراني في الأوسط وبهذا اللفظ أخرجه العجلوني في كشف الخفاء].
والطعام في الإسلام موضوع كبير، حيث يمثل ضرورة لحياة البشر، والضرورة يعرفها الفقهاء المسلمون بأنها: ما لم يتناولها الإنسان هلك أو قارب على الهلاك، وأدون منها الحاجة، وهي إذا لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة، ثم يذكرون بعد ذلك ثلاث مراتب وهي: المنفعة، والزينة، والفضول؛ فالمنفعة: تجري بها عادة الناس، وليس لها علاقة بضرورة الإنسان في بقائه حيًّا أو مشقته أثناء الحياة، والزينة أعلى من ذلك، أما الفضول: فهو بوابة الإسراف المنهي عنه، فهو في ذاته مباح، ولكن يمكن أن ينهى عنه إذا دخل في حد الإسراف.
وهذا التقسيم التفصيلي الذي نراه عند الفقهاء المسلمين لم أره عند علماء العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ حيث يسمون الضرورة بالحاجة الحرجة، ويسمون الحاجة بكلمة الحاجة أيضًا، ويقصدون بالحاجة الحرجة: الطعام، وترى هذا في علوم الغذاء والتغذية، ويقصدون بالحاجة كل ما يحتاجه الإنسان من مسكن وكساء وغيرها، ولعل تقسيم الفقهاء يزيد من دراسة المشكلة الاقتصادية عند الاقتصاديين؛ حيث يعرفونها بأنها: كثرة الحاجات مع قلة وسائل الإشباع نسبيًّا، وعدم التفصيل بين الضرورة والحاجة بهذا الشأن ولد خلطًا في تصنيف الغرائز حيث سموها بالحاجة، وعاملوها وكأنها ضرورة مرة، وأنها غير ضرورية مرة أخرى.
ومفهوم الطعام عند المسلمين في تراثهم يتمثل في: القوت، والفاكهة، والإصلاح، والدواء؛ ويقصد بالقوت: ما يحتاج إليه الإنسان ليقوم جسمه من غير مرض، ومثلوا له بالبلح والعنب والحبوب كالقمح، والشعير، والفول، والذرة. ويقصد بالفاكهة: الخضروات والفواكه بمفهومها الزراعي في عصرنا هذا، والإصلاح ويقصد به: الملح والبهارات ونحوها، وهي تصلح الطعام وتجعله أكثر استساغة حتى يقبل عليه الإنسان. والدواء: ما يؤخذ للعلاج، والماء والسوائل تدخل في مفهوم الطعام أيضًا؛ لأنها تؤخذ عن طريق الفم الذي يقوم بالطعم، ولذلك فإنني أرى أن بنك الدواء ينبغي أن يكون جزءًا من المشروع، ولكن بعد استيفاء شروط التعامل مع الدواء حيث إن التعامل معه له شروط تفوق التعامل مع سائر الطعام.
والطعام وهو أحد الأساسيات الثلاثة للإنسان، وفتح بنك له هو أول خطوة في المشروع الأكبر الذي يشمل الكساء، ثم السكنى، والذي يقضي حينئذ على ظاهرة أولاد الشوارع التي ملأت العالم وبدأت تسري عندنا، والتي هي سبة في جبين البشرية؛ خاصة من دان بالإسلام "دين الرحمة والتكافل".
والطعام هو أساس حساب احتياجات الإنسان؛ حيث إنه يمثل 40% من الدخل غالبًا في أي مستوى من المستويات الثلاث وهي: مستوى الكفاف، ومستوى الكفاية، ومستوى الكفاءة، وهذه مستويات المعيشة الثلاث لها علاقة بتحديد مستحق الزكاة، فالزكاة تعطى لمن هو دون مستوى الكفاف حتى يصل إلى مستوى الكفاية، ويمكن تحويل هذا النظر في أرقام تختلف قطعًا باختلاف البلد، وباختلاف الأزمان، وباختلاف الأعراف السائرة بين الناس.
فمستوى الكفاف: هو ذلك القدر الذي يقوم به الإنسان بحاجاته الأساسية، والطعام هو البداية؛ لأنه على مستوى الضرورة، ويحسب ذلك طبقًا لعلم التغذية بحاجة الإنسان بالسعرات الحرارية، وبشكل يتكون فيه الطعام اليومي في صورة وجبات ثلاث أو أربع، ومن المجموعات الغذائية المختلفة من نشويات وبروتينات وسكريات وفيتامينات وأملاح ومعادن ونحوها من المجموعات التي تراعى عند تكوين الطعام حتى لا يصاب الإنسان بالأمراض.
فالبالغ من الرجال يحتاج نحو 3 آلاف سعر حراري يوميًّا، ومن النساء نحو ألفي سعر، والطفل يحتاج 1500 سعر في تفاصيل وجداول في علم التغذية، والسعر الحراري هو مقدار الطاقة اللازمة لرفع 1جم ماء مقطر من درجة حرارة 13.5ْ (درجة مئوية) إلى 14.5ْ (درجة مئوية)، ولكل نوع من أنواع الطعام قدر من السعرات الحرارية تحسب بواقع وحدة 100جم، تمد الجسم بهذه الاحتياجات.
ويمكن للوجبة الرخيصة أو المتوسطة أو الغالية أن تحدد تكلفة الطعام اليومي للفرد، وللأسرة النووية (وهي الأسرة التي تتكون من زوج وزوجة وطفل) فإذا زادت الأسرة في عددها فبحسابه.
وفي بعض البلدان تكون تكلفة السكن مرتفعة؛ بحيث إنها تحسب سنويًّا لحالها دون أن تدخل في هذه المعادلة.
أما حد الكفاية، فيضاف إلى ما سبق مسألة التعليم، ومسألة العلاج، ومسألة الأمن الاجتماعي، ومسألة الأنشطة من رياضة، وفنون وآداب.
أما حد الكفاءة فيضاف إلى ما سبق بناء ملكات والتدريب عليها؛ كإتقان اللغات والرياضة الترفيهية والمشاركة الاجتماعية والسياسية، ذلك ونحن نعطي من الزكاة من كان في حد الكفاف حتى نصل به إلى حد الكفاية، ونعطي أعلى حد الكفاية حتى يصل إلى حد الكفاءة من الصدقة؛ حيث إن الزكاة لا تجوز لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، أما الصدقة فتجوز للغني.
ولقد وضعت الأمم المتحدة وهيئات الغذاء والأدوية العالمية دراسات حول كل ذلك، أرجو أن تدخل في تدريس مناهج الزكاة عند المسلمين؛ لفهم كلام التراث الإسلامي بعمق، وحتى نرى كيف أن هذه الحضارة التي بنيت على ذلك الدين كانت حضارة إنسانية راقية، ونأمل أن تستمر على ذلك، وما ذلك على الله ببعيد.
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون :51]. وقال : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ﴾ [البقرة :172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب. يا رب. ومطعمة حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟» [رواه مسلم].
وهذا حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يرسي قاعدة جليلة مفادها : «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» «فالله طيب» قضية عقائدية يؤكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وتعني أن الله سبحانه وتعالى منزه عن كل النقائص، متصف بكل الكمالات، قدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والخلاص من الخبائث.
ثم يشير الحديث إلى ضرورة المناسبة بين صفته سبحانه وبين ما يتقبله من الأعمال، فكما أن الله طيب، فهو لا يقبل إلا ما كان مناسبا لهذه الصفة؛ لذا فلا يقبل إلا طيبا، فحث المؤمنين أن يلتمسوا الطيب : من القول، ومن الطعام، ومن الكلام، ومن الأفعال، ومن الاعتقادات.
وغير المؤمن يصدق فيه قوله تعالى : ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف :103]، فهم لا يقدمون إلى الله الطيب، بل يقدمون إليه الكذب، والبهتان، والطغيان، والإفساد في الأرض ،وظلم الناس، وقتل الأبرياء، ومع ذلك فهم يتهمون المؤمنين الذين يدافعون عن أرضهم وعرضهم بالإرهاب وبالعنف وبالتطرف وبغير ذلك، فيصدق فيهم المثل العربي : «رمتني بدائها وانسلت».
وهؤلاء الظالمون يسمون الأشياء بغير اسمها ليخدعوا الشعوب المسكينة وعلى رأسهم شعوبهم ليكسبوا بذلك شرعية عندهم لخوض حروبهم الظالمة، فيسمون الاحتلال والقتل تحرير، ويسمون الطغيان وكثرة الهرج ديمقراطية وعدل، ويسمون الفساد في الأرض صلاحا، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة :11 ، 12].
وقال تعالى : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ [البقرة :204].
والمؤمن ينبغي أن يكون طيبا؛ لأن غير المؤمن خبيث، والله يريد أن يميز الخبيث من الطيب ليصطفي الصالحين من عباده، قال تعالى : ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران :179]، وأمر الله تعالى بعدم تسوية الخبيث بالطيب، فقال سبحانه : ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِى الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة :100]، وسمى الله الأرض التي تنتج زرعا بالطيبة، فقال تعالى : ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾[الأعراف :58].
وجعل الله الكلمة الطيبة منتجة ومثمرة ولها آثارها العظيمة على عكس الكلمة الخبيثة : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ [إبراهيم :24 : 26].
والطيبون هم أهل الجنة، يصفهم الله بذلك في بشرى الملائكة لهم عند وفاتهم، قال تعالى : ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل :32]. وكما أن الطيب هي وصفهم، فيهديهم الله في الجنة إلى الطيب من القول، قال تعالى : ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ﴾ [الحج :24].
وقد أشار الله إلى ضرورة المناسبة بين الأقوال الطيبة والناس الطيبين، فقال تعالى : ﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور :26].
وسمى الله ذكره سبحانه بالكلم الطيب، فقال سبحانه وتعالى : ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُور﴾ُ [فاطر :10].
فالمسلم مطالب بالتطيب والتطهر، وقد درج الفقهاء والمحدثون على افتتاح كتبهم بكتاب الطهارة، والطهارة : في اللغة هي النظافة. والله سبحانه وتعالى يحب النظافة، ويحب الجمال، ويحب التطهر وأمر عباده بالتطهر الدائم والمستمر من الأدران الظاهرة والباطنة، لأن المسلم دائما يراقب قلبه ويطهره لله، كما يراقب بدنه وثوبه ويطهره، والمسلم عن قلبه الطاهر المتطهر بمظهره، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة :222]
وطهارة البدن التي عالجها الفقهاء في كتب الفقه ليست هي كل الطهارة، بل وليست هي أهم أنواع الطهارة التي أرادها الله من عباده، ولذلك نرى الغزالي في الأحياء يتكلم عن تلك الأنواع فيقول: «الطهور أربعة أنواع، طهارة البدن من الحدث والخبث، وطهارة الجوارح من المعاصي والآثام، وطهارة النفس من الصفات المذمومة، وطهارة القلب مما سوى الله» .
فطهارة القلب وهي الأهم تعني أن يخلو القلب من السوى، وهو كل ما سوى الله، فالقلب بيت الرب، قال تعالى : ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب :4] ، وطهارة النفس أن تخلو من الصفات المذمومة كالبخل والحسد والحقد والضغينة والكبر والأثرة.
أما طهارة الجوارح من المعاصي فكل جارحة بحسب طبيعتها وما يجب عليها، فالعين طهارتها ألا تنظر إلى ما حرم الله أن يُنظر إليه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : «عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . [رواه الترمذي]
والعلماء قالوا : ما حرُم فعله حرُم استماعه، وما حرُم استماعه حرُم النظر إليه! طهارة الأذن ألا تستمع بها ما حرم الله أن تستمع إليه من كذب وغيبة ونميمة وكفر وإلحاد، وطهارة اللسان ألا ينطق بالغيبة، ولا بالنميم ، ولا بالكذب ، ولا بالفحش، ولا باللعن ، ولا بالإيقاع بين الناس .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ ، عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» [رواه أحمد] .
فالله طلب من المؤمن التطيب والتطهر على كل المستويات، فعلى مستوى الظاهر قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر :4، 5]، وقال لنبيه إبراهيم عليه السلام : ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج :26].
وعلى مستوى طهارة القلب والنفس، قال تعالى : ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :232] ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب :53]. وقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المجادلة :12].
فالمتتبع لوصف الطيب في القرآن يجد المناسبة بين ما يأمر الله سبحانه وتعالى، وبين صفته عز وجل، وبين وصفه لما يحبه ويرغب فيه.
وعودة إلى الحديث وبيان شرحه، ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم «يطيل السفر» «ويمد يديه» إشارة إلى الأحوال التي يزداد فيها رجاء استجابة الدعاء، ولذا عدها ابن رجب الحنبلي من آداب الدعاء في تعرضه لشرح هذا الحديث حيث قال : « أشار فيه صلى الله عليه وسلم إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة أحدهما : إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد لولده» خرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وعنده : «دعوة الوالد على ولده» وروي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه، من قوله. ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحمل المشاق والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء.
والثاني حصول التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبار، وهو أيضا من المقتضيات لإجابة الدعاء، كما في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم : «رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء خرج متبذلا متواضعا متضرعا، وكان مطرف بن عبدالله قد حبس له ابن أخ فلبس خلقان ثيابه وأخذ عكازا بيده فقيل له ما هذا قال أستكين لربي لعله أن يشفعني في ابن أخي.
الثالث مد يديه إلى السماء وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى حي كريم، يستحيى إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين» خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وروي نحوه من حديث أنس وجابر وغيرهما. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه، ورفع يديه يوم بدر يستنصر الله على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه. [جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي].
والحديث أشار لعلاقة وثيقة بين إجابة الدعاء وتحري الحلال في الرزق، فينبغي للمؤمن أن يتحرى الحلال في غذاءه، وثيابه، وطعامه حتى يكون أهلا لإجابة الدعاء، أما من لا يتحرى الحلال في هذه كل وفي كل شيء، فلا يتعجب من عدم استجابة الله له.
وكثرة الخبيث لا يجب أن نغتر بها، فإن الخبيث خبيث حتى وإن شاع وذاع في الأرض، إلا أن كثيرا من المسلمين اغتر بكثرة الخبيث من الأقوال والأفعال والاعتقاد والمأكل والمشرب والتصرفات، والتفت نظر كثير من شبابنا إلى هذه البهرجة، إلا أننا ينبغي أن نثبت على الحق، ونفخر بشرعنا وبأخلاقنا ولا نتبع من غضب الله عليهم.، فيا أيها المسلم حتى يستجيب الله دعائك فأطب مطعمك، والتفت إلى مشربك وملبسك وغذائك، أطب مطعمك في تحصيل الرزق الحلال، وأطب مطعمك في البعد عن المسكرات والمخدرات والخنزير والميتة والشبهات، وأطب مطعم في الإقلال منه فإن تكدس الطعام تقلل من قيمته والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبته نفسه فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث للنفس» [رواه الترمذي].
وأمر المسلم بهذا الطعام الطيب حتى لأعدائه إذا ما أوقعهم الله في الأسر، وهم أعداء الله إلا أن الله يطالب المؤمنين بأن يكونوا كرماء، فيقول سبحانه : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا) [الإِنسان :8، 9] فموقفنا من الإنسان الذي أسر أن نطعمه من الطعام الحسن الذي نحبه، ونحب أن نأكل منه، ومعنى هذا أننا مكلفون لا بالإطعام فقط، بل بتهيئة الأجواء حول الأسير ليتذوق الطعام حتى يكون حبيبا على نفسه. هذه التهيئة التي تشمل العلاج والراحة الجسدية والنظافة الخاصة وطريقة السكن والمأوى والنوم، والاتصال بذويه وأقربائه إلى آخر ما هنالك في معاملاته الإنسانية. (يتبع)
الحجاب في اللغة : الستر، يقال حجب الشيء يَحْجُبُه حَجْباً وحِجاباً وحَجَّبَه: سَتَرَه. وقد احْتَـجَبَ وتَـحَجَّبَ إِذا اكْتَنَّ من وراءِ حِجابٍ. وامرأَة مَـحْجُوبةٌ: قد سُتِرَتْ بِسِترٍ. وحِجابُ الـجَوْفِ: ما يَحْجُبُ بـين الفؤادِ وسائره.
وللحجاب استعمالان : أحدهما : استعماله في الحسيات, وهو الجسم الذي يحول بين شيئين. والثاني: استعماله في المعاني, وهو الأمر المعنوي الذي يحول دون الوصول إلى المطلوب.
والحجاب المقصود هو الثوب الذي يستر عورة المرأة بشرط ألا يكون قصيرا، فيظهر شيئا من عورتها، ولا يكون رقيقا، فيشف شيئا من لون جلدها، ولا يكون ضيقا، فيصف حجم عورتها تفصيلا.
وقد اتفقت الأمة الإسلامية على حرمة أن تظهر المرأة شيئا من جسدها عدا الوجه والكفين، واستدلوا بقوله تعالى : ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور :31]، فذهب العلماء أن ما ظهر من الزينة هو زينة الأعضاء الظاهرة، وهي زينة الوجه والكفين, كالكحل الذي هو زينة الوجه, والخاتم زينة الكف، وقد ذكر ابن كثير الآية وعقبها بقوله : «قال الأعمش : عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس «ولايبدين زينتهن إلا ما ظهر منها» قال : وجهها، وكفيها، والخاتم وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك» [تفسير ابن كثير 3/284].
واستدلوا من السنة النبوية بما السيدة عائشة رضي الله عنها : «أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله r وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله r، وقال : يا أسماء، إن المرأة إذ بلغت المحيض لم تصلح أن يري منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» [رواه أبو داود والبيهقي في الكبرى، وفي الشعب].
فأجمعت الأمة بعد هذه الأدلة على وجوب ستر العورة للرجل والمرأة، وهو في حق المرأة الحجاب الذي يستر بدنها، وصار ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة، فكما يعلمون أن الظهر أربع ركعات، يعلمون أن المرأة التي لا تستر عورتها آثمة شرعا.
والإجماع بهذه الصفة السابقة ينفى ظنية ثبوت الدليل، ويصبح الدليل بعده قطعيا، لا يجوز النظر فيه نظرا يخالف ذلك الإجماع. ومثاله الإجماع على أن الوضوء سابق على الصلاة، مع إيهام النص فى قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ [المائدة :6]. حيث أجمعت الأمة على أن الوضوء قبل الصلاة وأن المراد من الآية إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...الخ .
وكذلك الإجماع على حرمة الخمر ، ولم يرد لفظ التحريم في القرآن ؛ بل ورد قوله تعالى في شأن الخمر ، ﴿فاجتنبوه﴾ [المائدة : 90] التي أجمعت الأمة على أنها للتحريم، فلا يجوز أن يحملها أحدهم على الإرشاد، أو الكراهة، لعدم استعمال لفظ التحريم مثلا.
يقول الإمام القرطبى : ﴿فاجتنبوه﴾ [المائدة : 90] يريد : أبعدوه، واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث، وإجماع الأمة فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حرمت الخمر.
إذن فالحجاب لستر العورة، والعورة : ما يحرم كشفه من الجسم سواء من الرجل أو المرأة, أو هي ما يجب ستره وعدم إظهاره من الجسم, وحدها يختلف باختلاف الجنس وباختلاف العمر, كما يختلف من المرأة بالنسبة للمحرم وغير المحرم.
فالعورة أمر شرعي حده الشارع لا سبيل للاجتهاد فيه بتغير الزمان والمكان، فإذا كان لا يجوز للرجل إظهار عورته في وقت ما، فلن يكون مباحا في وقت آخر ، وكذلك إذا كان يحرم على المرأة كشف شيء من عورتها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتغير هذا الحكم إلى الجواز لتغير الزمان.
فستر العورة ليس من مسائل الفقه التي تتغير بتغير الزمان، وهناك الكثير ممن يتكلمون فيما لا يعلمون يظنون أن تغير بعض الأحكام المرتبطة بالعرف، أو تغير بعض وسائل الحياة المرتبطة بالزمن، يقتضي تغير جميع أحكام الدين لمجرد أن الزمان قد اختلف، وربما يأتي اليوم الذي يخرج علينا من يقول إن الأمر أيام النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله وحده، والزمن قد اختلف فينبغي علينا أن نشرك بالله مسايرة للعصر.
هذا لأنهم اعتبروا الدين مجال يتكلمون فيه بجهلهم، ولم يفطنوا أن الدين علم، والتدين العملي هو سلوك، وهناك فرق بين علم الدين وبين التدين العملي، وأن علم الدين هو علم كسائر العلوم، له مبادئ وقواعد ومصطلحات ومناهج وكتب وترتيب ومدارس وأسس وتاريخ و .... إلخ
وهو يحتاج أيضًا إلى أركان العملية التعليمية، التي لا يتم العلم إلا بها، وهي : الطالب، والأستاذ، والكتاب، والمنهج، والجو العلمي. وأن طريق التعلم له درجات مختلفة كدرجات التعليم العام ثم التعليم الجامعي ثم الدراسات العليا بدرجاتها المختلفة، وله أيضًا أساليبه المختلفة للتمكن منه، بعضها نظري، وبعضها تطبيقي، وبعضها حياتي وعملي، كما أن أداءه يختلف من رسالة علمية إلى كتاب مقرر، إلى بحث في مجلة محكمة، إلى بحث للمناقشة أو كمحور في مؤتمر للجماعة العلمية يخبر فيه صاحبه تلك الجماعة بنتائج.
وسيظل أمر الجماعة العلمية دائما مختلفًا تبعًا للمنح الربانية، والعطايا الصمدانية، والمواهب التي يمنحها الله لكل شخص يتميز بها على الآخرين، وسيظل أمر التخصص العام مُراعى والتخصص الدقيق مطلوب، وسيظل هناك فارق بين من ينجح في تحصيل الدروس ولا ينجح في الحياة، ومن ينجح فيها ومن وصل إلى مرتبة الحجة والمرجعية، ولا يحسن التعامل مع الحياة أو يحسن التعامل معها كما قال شوقي في أواخر قصيدة (كتابي).
وكم منجب في تلقي الدروس تلقي الحياة فلم ينجب
وكل هذه المعاني نراها في كل مجال، ولعل أقرب مجال ينطبق عليه ما ينطبق على علم الدين هو مجال الطب، وعلم الطب، أنظر إلى كل ما ذكرناه وكأننا نتكلم عن علم طب الأبدان، في حين أنني كنت أؤكد على علم حفظ الأديان، وكل ذلك يختلف عن حق الناس في رعاية صحتها والوقاية من الأمراض والعلاج منها، ومبادئ الحياة الصحية الصحيحة التي يتمناها كل إنسان، بل هي من حقه، كما يختلف علم الدين عن التدين الذي هو لازم لكل إنسان ويحتاجه كل أحد من الناس، بل يحتاجه الناس على مستوى الفرد والجماعة والأمة.
على الرغم من وضوح الفرق بين علم الدين والتدين، أو علم الطب ومراعة الصحة العامة، إلا أن هذا الفرق غير معترف به في غالب ثقافتنا، ونرى خلطًا ضارًا له صور منتشرة في جميع القطاعات لم ينج منه إلا من رحم الله -وهم قلة في ثقافتنا السائدة- وأرجو الله أن يفتح البصائر بهذه الدعوى لمراجعة جد مهمة لمواقف كثير من علمائنا ومفكرينا بشأن موقفهم من هذه البدهية.
إننا نرى ما يؤكد أنه ليس هناك اعتراف بالفرق بين علم الدين والتدين، من ذلك أن أستاذ العلوم أو الزراعة أو الصحافة أو الهندسة أو الطب صار يتكلم في شأن الفقه، ويناقش الفتوى التي صدرت ممن تخصص وأمضى حياته في المصادر وإدراك الواقع، وما هذا إلا لأنه مثقف ديني، أو لأنه لا يعرف، أو لم يقتنع بالفرق بين علم الدين وبين التدين، ويرى أن الأمر مباح ومتاح للجميع.
وكذلك نرى عدم إدراك لمعنى الفتوى؛ حيث يتم الخلط بينها وبين السؤال أو الرأي والذي يكون حظ السؤال الجواب، وحظ الرأي إبداؤه ثم مناقشته، فالتفوى مثل حكم القاضي لا يتتبعه القاضي بعد صدوره وليس قابلاً للنقاش، ولكن هو قابل للاستئناف عند محكمة أعلى أو للنقض أو الإبرام عند محكمة أكبر، وعلى ذلك فعدم الرضا بالفتوى يتطلب فتوى من جهة أعلى، ولا يتطلب اعتراضًا من هنا ومن هناك وعدم الرضا بأمر الطبيب، لا يعني إهمال الأمر، بل يستلزم الاستشارة ممن هم أكثر منه مرجعية أو علما أو خبرة ولا يحق لأحد من الناس أن يناقش الطبيب في رأيه ويكتفي بذلك لرفض الطب والجلوس بلا علاج.
إن كثيرا من الناس يفزع إذا ما نبهناه إلى هذا المثال ويبادر برفضه ويدعي أن ذلك حجرا على الرأي أو على حريته، والأمر لا يتعلق لا برأي ولا بحرية بقدر ما يتعلق بمنهج للفكر المستقيم يجب إتباعه بدلا من هذه المهزلة السخيفة بأن يهرف كل أحد بما لا يعرف.
وبخصوص قضية الحجاب نسمع من أدباءنا ومثقفينا، ومفكرينا من العلمانيين الذين لا اطلاع لهم على التشريع الإسلامي، ولا أحكامه، نسمع منهم أحكاما خاصة بالحجاب، كقولهم : انتشار الحجاب ردة حضارية، وأنه رجعية وتخلف، وأحيانا يتفلسفون ويهرفون بما لا يعرفون، فيقولون : الحجاب موروث لا علاقة له بالدين. عبارات تدل على محاولة منهم لإقحام أنفسهم كمتخصصين في مسائل لا علاقة لهم بها.
لذا إذا أردنا أن نعرف حكم الدين بشأن الحجاب فلنرجع إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسنتوضح المعاني من علماء الدين الإسلامي، ولم يهمنا حكم الثقافة والمثقفون بشأن الحجاب لأن الشعب لا يريده.
وإذا أردنا أن نتكلم عن ثقافة الشعب المصري، بعيدا عمن يدعي الثقافة، نجد أن الدين الإسلامي أحد أهم المكونات الثقافية للشعب المصري، فانطبع عليهم كثقافة، فترى الجميع مثلا يقول ادخل بقدمك اليمنى للتبرك بها، وإذا أراد الحديث يقول صلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
إن محاولة إخراج الدين الإسلامي من ثقافة الشعب المصري محاولة فاشلة، وإذا ما تمت -لا أتمها الله- ستحول الشعب المصري إلى مسخ مشوه بلا معالم، يذوب في القوى العالمية المختلفة ويبحث له عن انتماء يميزه فلا يجده.
ولكن والحمد لله فالشعب المصري يحب الدين، ويرفض أن يعيش من غيره، بل ويرفض أيضا أن يعيش مع الدين وهو في الهامش، بل يريد أن يعيش في الدين وبالدين، والإخوة العلمانيون يتعجبون من ذلك، حتى إن عجبهم قد أثار حفيظتهم، وغبش عليهم رؤية الواقع، فمعنى هذه الحقيقة أن مشروعهم قد فشل بالرغم من أنهم قد بذلوا كل ما في وسعهم. ومن هنا تراهم يبحثون عن أسباب وهمية تتعلق بسلطة رجال الدين، وبتأثير المؤسسة الدينية، وبأوهام الدولة الدينية إلى آخر ما هنالك مما نسمعه ليل نهار.
الروح تحتاج إلى الدين، ولن تقبل أن تهدأ إلا به، ولن ينفعها المزاولات المختلفة التي تعرض عليها حتى ترضى وتهدأ وتسكت. هذه هي أزمة العلمانيين في مصر أنهم لا يريدون أن يعترفوا بخطأهم المنهجي، وأنهم لا يعرفون أن صوتهم لن يصل إلى الناس. ومن هنا ولأنهم هم سبب المشكلة وفي نفس الوقت لا يدركونها يتهمون المؤسسة الدينية بما ليس فيها، فلا يزيدون من يطلع عليهم إلا حيرة، وقليل من هم. فإن أكثر الناس تقرأ عناوينهم، وإن قلة من المثقفين يشغلون بالهم بهم، وجماهير الشعب بعيدة عنهم تبحث عن غذاء الروح.
يريدون أن يبقى الدين في مساحة الضمير والإنسان، ولا يخرج ليؤثر على السلوك والمعتقدات، والثقافة، والقرارات، وهو ما يرفضه الشعب المصري في عمومه سوى طائفة تعرف نفسها أنها قلة، وتحاول أن تلف وأن تدور حول المعاني تتلجلج في صدورها أو في أذهانها فتختلف في ذلك عن دعاة التنوير في الغرب؛ حيث إنهم جاهروا بما في نفوسهم، وتحملوا المعارضين لهم، ولكن أصحابنا في جبنهم الفكري يغضبون من وصفهم بما يتمنون أن يجاهروا به، فكانوا مساكين حقا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. فهذا الصنف من الناص أسماه ربنا سبحانه وتعالى من قبل بالمنافقين وجعل لهم الدرك الأسفل من النار. فقال : (إِنَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء :145].
هم يقولون نريد أن نكون كالغرب، لا نعرف ماذا يريدون، فإن المفكرين الغربيين الذين أثروا وغيروا في مجتمعاتهم أعلنوا عن أنفسهم صراحة، فمن أراد منهم أن يكفر أعلن أنه كافر، ومن أراد منهم أن ألا يكون كذلك أعلن عن نفسه كما هو، ولكننا نرى الآن أن الكافر يكفر بما عليه الإلحاد الأسود في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ثم يريد أن يسمي نفسه مؤمنا، ولا يستطيع ولا يريد أن يسمي نفسه كما هو، فإذا ما وصفه أحدهم بأنه كافر عد هذا من باب الإرهاب الفكري والتحريض عليه، في حين أن الآخرين أعلنوها صراحة وتحملوا تبعتها، لكن هؤلاء يريدون المواربة والتدليس واللف والدوران، ولذلك لا يكون لهم أي أثر فيمن حولهم.
فالجهل العلمي، والجبن الفكري، والضجيج المستمر، وحب الظهور، يخالف تماما الصفات التي يمكن بها التغيير، أي تغيير للخير أو للشر.
ثارت كل هذه القضايا من قيمة الإجماع في ضبط ثوابت الدين، وأهمية الدين في ثقافة ووجدان الشعب، وفشل محاولات العلمانيين بسبب الحديث عن الحجاب، فالحديث عن الحجاب ليس حديثا فقهيا فحسب، بل له أبعاده الفكرية والاجتماعية والثقافية، ولذا وجب أن ننبه على كل تلك المسائل حتى ييأس من يفكر في هدم الدين، ومظاهره في المجتمع المصري.
الصدق في اللغة : هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه في الواقع عند الجمهور خلافا لمن قال بمطابقة الاعتقاد أو لمن قال بمطابقة الواقع والاعتقاد معا. والكذب : هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، عمدا كان أو سهوا.
والصدق : ضد الكذب. وقد صَدَقَ في الحديث، يصدق بالضم، صِدْقاً. ويقال: أيضا صَدَقَهُ الحديث وتَصادَقا في الحديث وفي المودة. والمُصَدِّقُ : الذي يُصدقك في حديثك والذي يأخذ صَدَقاتِ الغنم. و المُتَصَدِّقُ : الذي يُعطي الصدقة. والرجل : صَدِيقٌ. والأنثى : صَديقةٌ. والجمع : أصْدِقاءُ وقد يقال للجمع والمؤنث صَديْقٌ و الصِّدِّيقُ بوزن السكيت : الدائم التصديق، وهو أيضا الذي يُصدق قوله بالعمل. وهذا مِصداقُ هذا أي ما يُصدقه.
فهناك كذب يأثم عليه العبد، وهو ما تعمد به تزيف الواقع، والإخبار بما يخالفه، وهناك كذب لغة ولا يأثم عليه العبد بأن يتكلم بكلام يخالف الواقع ولكن دون تعمد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «كذب سعد» عندما أخطأ وظن أن فتح مكة سيكون بإراقة الدماء.
ومن الكذب اللغوي الذي لا إثم فيه، وهو من باب قول الحسنى، أو مقتضيات حالات الحرب، أو غير ذلك، تلك الحالات من الإخبار بخلاف الواقع رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثناها، ومن ذلك ما ورد عن أم كلثوم رضي الله عنها : «أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا» [رواه البخاري ومسلم], وعنها أيضا : «لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب, والإصلاح بين الناس, وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها» [رواه مسلم].
أما ما عدا ذلك فقد أجمع المسلمون على حرمة الكذب حتى أصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، ولو سألنا أحد أطفال المسلمين يخبرنا بحكم الكذب، وقد أمرنا ربنا في كتابه الكريم بالصدق، ومدح الصادقين، ووعدهم بالخير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى : ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾ [المائدة : 119]. وقوله تعالى : ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [التوبة : 43].
وأخبر سبحانه أن الصدق من علامات التقوى فقال : ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ﴾ [البقرة : 177]. وقال سبحانه وتعالى : ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران : 61].
وقد أخبر سبحانه أن الكذب فعل الكافرين فقال عز من قائل : ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾ [النحل : 105].
لم يقتصر الأمر على طلب الصدق من المسلم فحسب، بل أمر الله تعالى أن يكون المسلم دائما مع الصادقين فقال سبحانه وتعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة : 119].
وليس الصدق هو قولك الحق وحسب، بل من الصدق أيضا أن تصدق بالله وكلامه وقد أمر الله بذلك النوع من الصدق في قوله تعالى : ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران : 95].
وأخبرنا ربنا أن أعلى درجات الصدق هي كلماته سبحانه :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [الأنعام : 115].
وقال ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة : 43].
وأمره رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يسأله الصدق في المدخل، والمخرج في هذا الحياة الدنيا : ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً [الإسراء : 80].
وقد أخبر الله تعالى أن الصدق منة يمتن الله بها على عباده الصالحين، وأنبيائه الكرام عليهم السلام فقال : ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم : 50].
وأخبر القرآن حكاية عن إبراهيم عليه السلام سؤال ربه الصدق دائما : ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ﴾ [الشعراء : 84].
وأخبر سبحانه حكاية عن موسى أنه يحتاج إلى من يصدقه، ويخشى من المكذبين له ولرسالته، فقال تعالى : ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص : 35].
وبين الله سبحانه وتعالى أن الفتن والابتلاءات لا تكون إلا لتمحيص الناس، ومعرفة الصادقين والكاذبين فقد قال جل وعلا : ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت : 3]. وقال سبحانه : ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [الأحزاب : 8].
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث التي تدعو إلى الصدق، وتأمر به فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ، وعليكم بالصدق فإن الصدق بر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» . [رواه البخاري ومسلم]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة. اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم». [صحيح ابن حبان]
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يطوي المؤمن على الخلال كلها غير الخيانة والكذب». [مصنف ابن أبي شيبة].
وعن صفوان بن سليم قال : «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أيكون المؤمن جبانا ؟ قال : نعم . قيل : أفيكون بخيلا ؟ قال : نعم . قيل : أفيكون كذابا ؟ قال : لا ». [موطأ مالك]
وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أول من يدخل الجنة التاجر الصدوق». [المصنف لابن أبي شيبة].
وقد امتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بلغوا في الصدق مبلغا من أصحابه فعن أبي ذر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم». [صحيح ابن حبان].
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وأن الكذب ريبة». [المستدرك على الصحيحين].
وقال عليه الصلاة والسلام : «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب». [أبو داود والبيهقي]. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن شرار الروايا روايا الكذب، ولا يصلح من الكذب جداً ولا هزلاً، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له». [سنن الدارمي]
وعن ابن عجلان «أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر حدثه عن عبد الله بن عامر أنه قال : دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا ، فقالت : ها تعال أعطيك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما أردت أن تعطيه ؟ قالت : تمرا ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة» . [مصنف ابن أبي شيبة].
إذا تقرر ما سبق نعلم أن الصدق نجاة وقوة لأن الصادق لا يخشى من الإفصاح عما حدث بالفعل؛ لأنه متوكل على الله، والكذاب يخشى الناس، ويخشى نقص صورته أمام الناس، فهو بعيد عن الله، وقد قيل في منثور الحكم : الكذاب لص؛ لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك .
وقال بعض الحكماء : الخرس خير من الكذب وصدق اللسان أول السعادة. وقيل : الصادق مصان خليل ، والكاذب مهان ذليل ، وقد قيل أيضا : لا سيف كالحق ، ولا عون كالصدق.
وإنما يكذب الكذاب لاجتلاب النفع واستدفاع الضر ، فيرى أن الكذب أسلم وأغنم فيرخص لنفسه فيه اغترارا بالخدع، واستشفافا للطمع. وربما كان الكذب أبعد لما يؤمل وأقرب لما يخاف؛ لأن القبيح لا يكون حسنا والشر لا يصير خيرا . وليس يجنى من الشوك العنب ولا من الكرم الحنظل.
ونحن نعيش في هذا الزمان الذي يموج بالفتن، وقد كثر الكذب علينا، ومن حولنا، ووقع كثير من المسلمين فيه وإنا لله وإنا إليه راجعون، وما يحدث حولنا من أحداث يبين أن الكذب الذي هو ضعف وذل، أصبح لغة من يملكون القوة، ومن يملكون تدمير من هو أضعف منهم.
وهذا الذي يحدث لعجيب، أن تكذب أقوى دول العالم على العالم بأسره، وتتدعي أن هذه الدولة تمتلك من أسلحة الدمار الشامل ما تمتلك، وتشن حربا ضروسا على الأبرياء الضعفاء الجوعى، وتحطم ديارهم وتحرق أرضهم، ثم بعد ذلك يكتشف العالم كله كذب هؤلاء.
نحن نعيش في زمان رهيب، وإن تخلينا عن أخلاقنا الفاضلة وعن الصدق سوف نذوب في هذا العالم الغريب، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتذكر دائما ما طلبه الله منه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، من التزام الصدق والنزاهة حتى يغنم بسعادة الدارين.
فالصدق يساعد على التفكير المستقيم، وأما غيره يؤدي بنا إلى التفكير المعوج، والتفكير المعوج يؤدي بنا إلى الغثائية، ويؤدي بنا إلى عقلية الخرافة وإلى منهج الكذب الذي يعني مخالفة الواقع أو مخالفة الواقع والاعتقاد.
والتفكير المعوج يجعل الناس تعيش في أوهام، وإذا شاع هذا التفكير اختلت الأمور وكان ذلك أكبر عائق أمام التنمية البشرية وأمام الإبداع الإنساني وأمام التقدم والأخذ بزمام الأمور، وأمام العلم وأمام تحصيل القوة، وإذا كان كذلك فشلت كل محاولات الإصلاح وشاعت الغوغائية والعشوائية.
وسبب الوقوع في الكذب وشيوعه أن يتكلم المرء بكل ما سمع، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم كذبا، حيث قال : «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» [رواه مسلم]. فنجد أقوام في عصرنا هذا يفترون على الناس، ويكذبون عليهم، وإذ بهؤلاء يشتدون في الكذب، حتى يحولون كل ما يتخيلون دون أي سماع لأي خبر موثق إلى وهم يعيشون فيه يظنونه الحقيقة، فصدق عليهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول : (ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) [رواه البخاري ومسلم وابن حبان واللفظ له].
وانظر إلى كلمة (يتحرى الكذب) أي أنه يعشقه ويسر به ويتتبعه وينشئه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم أأجرنا في مصيبتنا، ويقول صلى الله عليه وسلم : (وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) [رواه البخاري والترمذي واللفظ له] وفي لفظ البخاري : [يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب] وذلك لما يترتب عليها من إساءة ومن ضرر على المستوى العام والخاص.
وتؤدي بنا هذه الحالة إلى شيوع الفوضى وضياع الحقائق، وضياع مكانة الناس، وهذا لا يصلح الناس أبدا، وصدق الشاعر إذ يقول :
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُمْ ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا
إذا تَوَلَّى سَراةُ القومِ أَمْرَهُـــمُ نَما على ذاك أَمْرُ القومِ فازْدادُوا
والكذب فيه اعتراض على الله تعالى، فالكذاب يخالف الواقع بكلامه لعدم رضاه به، وهو يتمنى تلك الصورة التي يحكيها مخالفة له، وهذه نقطة مهمة ولذا فمن رضي بالله وأمره وقدره لا تراه يكذب، لأنه لا يسخط على الواقع فيحكيه كما هو، بل يرضى بفعل الله في كونه، ويعلم أنه الملك الحق المبين فيرضى به حاكما، ويعترف بنفسه محكوما في هذا الكون.
ومن هنا كانت قيمة الصدق بأنواعه قيمة إسلامية قيمة يأمر بها الإسلام في حضارته وليس في دينه فقط، يأمر بها العاملين، ونحن نرشد أولئك الذين تصدروا من قبل أن يتعلموا وأفسدوا في الأرض، وهم يريدون علوا فيها، فيهرفون بما لا يعرفون لأنهم ليسوا صادقين.
فالصدق منجاة، ولو ظن الإنسان أن فيه هلاكه، والصدق بركة، ولو ظن خسارته، والصدق قوة، ولو ظن أن فيه ضعفه، وهو ينشئ المسلم القادر على أن يجاهد في سبيل الله الجهاد الأكبر والأصغر.
تتوافق فطرة الإنسان مع الدين، وتصبوا إليه، وتسعد بالطاعة، وتشقى بالمعصية، وإن كانت لاهية ومشغولة بها وقت وقوعها فيها، لكنها تكتئب بعد ذلك وتعود إلى النفس اللوامة، وهذا ما يوضحه ربنا في مطلع سورة الحجر حيث يقرر تلك الحقيقة التي تبين نفس المسلم، والفرق بينها وبين نفس الكافر.
فتتفتح السورة بحروف مقطعة كما افتتحت غيرها من السور، وهذه الحروف تثبت أن القرآن أكبر من الناس، وأنه لا يزال غضا طريا وكأنه نزل اليوم، وأنه يحتاج إلى تدبر وتأمل ويحتاج إلى علم في قراءته، وأنه لا يغلق معانيه عمن استهدى بالله، وأنه هدى للمتقين، وعمى على الكافرين.
تلك الحروف التي لو جمعت لكونت جملة تصف معناه وتمدحه، وهي : نص حكيم قاطع له سر. فهو نص حكيم، وحكيم على وزن فعيل، وصيغة فعيل تأتي للدلالة على اسم الفاعل واسم المفعول، فهو حكيم في نفسه، ومحكم كذلك قال تعالى : ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت :42]. وهو قاطع في هدايته، وقاطع في ثبوته، وقاطع في كونه كتاب حياة. وهو له سر، ومن أسراره تلك الحروف التي ذهب المفسرون كل مذهب في تفسيرها، ولا يزال الإنسان وهو يقرؤها يشعر بصغاره من بعد تحصيله علوما شتى أمام كلام الله سبحانه وتعالى، والكلام واضح لا خفاء فيه، والعلو واضح والفخامة واضحة، والعظمة بادية على كتاب الله سبحانه وتعالى من أول حرف تقرأه.
تبدأ سورة الحجر بقوله تعالى : ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ المُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ [الحجر :1 : 15].
فقوله تعالى : ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ فرب للتقليل كما أن «كم» للتكثير، وكأن المعنى أن قلة من الكافرين يتمنون بقلوبهم أن يكونوا مسلمين، وذلك يعني أن هناك حجابا كثيفا بين الكافرين وبين المؤمنين المسلمين يحول عن إسلامهم وعن تمنيهم الإسلام.
بعض المفسرين حمل هذه الآية على التكثير، وبعضهم حملها على تكثير ذلك يوم القيامة، وهم يرون عصاة المؤمنين يخرجون من النار، فيود الكافرون لو أنهم كانوا مسلمين في الدنيا فيخرجون كما خرجوا.
ولأن القرآن كتاب هداية نسق مفتوح نرى أن هذه الآية وكأنها تنطبق على واقعنا الذي نحياه، فبعض الناس ينكرون ما أنزل الله، ويدعون الإسلام، وفي نفس الوقت هم ينادون بالرذيلة والفاحشة والكفر، فهم يودون أن يكونوا مسلمين لا من أجل إيمان في القلوب، بل من أجل إفساد في الأرض، وتشويش على المسلمين وعلى عقائدهم الثابتة وأحكامهم المنقولة.
فهؤلاء يحلو لهم الدعوة إلى التغريب، ونحن لا نعرف ماذا يريدون ؟ فإن المفكرين الغربيين الذين أثروا وغيروا في مجتمعاتهم أعلنوا عن أنفسهم صراحة، فمن أراد منهم أن يكفر أعلن أنه كافر، ومن أراد منهم أن ألا يكون كذلك أعلن عن نفسه كما هو، ولكننا نرى الآن أن الكافر يكفر بما عليه الإلحاد الأسود في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ثم يريد أن يسمي نفسه مؤمنا، ولا يستطيع ولا يريد أن يسمي نفسه كما هو، فإذا ما وصفه أحدهم بأنه كافر عد هذا من باب الإرهاب الفكري والتحريض عليه، في حين أن الآخرين أعلنوها صراحة وتحملوا تبعتها، لكن هؤلاء يريدون المواربة والتدليس واللف والدوران، ولذلك لا يكون لهم أي أثر فيمن حولهم.
فالجهل العلمي، والجبن الفكري، والضجيج المستمر، وحب الظهور، يخالف تماما الصفات التي يمكن بها التغيير، أي تغيير للخير أو للشر.
وقد يفهم بعضهم مني الرضا بالعلمانيين وأنني أرسم لهم الطريق الصحيح لما أعده فسادا في ذاته، والأمر ليس كذلك، بل إنني أحاول أن أكشفهم أمام أنفسهم، وأمام الناس، وأن أضع النقاط فوق الحروف وتحتها، وأن ألفت النظر إلى التجربة المصرية التي وضعت أسس للتعايش بين سائر الأفكار المختلفة حتى التي في نهاية التطرف العلماني أو التغريبي ووضعت أسسا للحضارة التي تنتمي إليها وهي حضارة الإسلام وكيفية مشاركتها في الحضارة العالمية، وأن يكون لها موطئ قدم في الحضارة الإنسانية.
فنرى الشذوذ الجنسي يشيع بإلحاح غبي في أيامنا هذه، وهو أمر تأباه النفس ويرفضه العقلاء، نرى بعضهم ينشرون بلا حياء أن الشذوذ من الدين !! هل نرد عليهم ؟ هل هذا يحتاج إلى رد ؟ هل نتركهم يضلون الشباب ؟ إنه فتنة لا يزال الحليم فيها حيران إذا تكلمنا يقال يتكلمون فيما لا يعنينا ولا يخطر ببالنا من فساد قبيح تأباه الفطرة، وتعافه النفس، وإن سكتنا يقولوا أين علماء الدين من توضيح الأمور ؟ ذلك بالرغم من أنه من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.
بل إنه لم يتفق على هذا الشذوذ في الأمم المتحدة ولم يقر كحق من حقوق الإنسان، فهو ليس كذلك، وأنا أتسائل : من أين سرت لحقوق الإنسان قضية الشذوذ الجنسي ؟ من الذي جعل الشذوذ المقرف المخالف لكل دين على وجه الأرض عرفته البشرية، ذلك الشذوذ المسبب لدخول الإنسان في حياته حجيما لا يستيطع الفكاك منه، ونارا لا يستطيع أن يخرج منها، فيصاب بالاكتئاب والأمراض ؟ من الذي دسه وسط حقوق الإنسان ؟ ما نظريته أو فلسفته ؟ إنها محض غوغائية وصوت عال متشنج يقول (اتركوا الإنسان في حياته الشخصية هو حر فيها) وهل هو حر في الانتحار ؟ وهل هو حر في ممارسة الخيانة العظمى ضد دولته ووطنه ومجتمعه ؟ وهل هو حر في تناول المخدرات وممارسة الدعارة والقتل للملل والقتل للمرض والقتل بالاتفاق ؟ إلى آخر هذه القائمة التي أباحها بعضهم في مجتمعاتهم. فهل إباحة بعض الناس لهذا الهراء يدخله في حقوق الإنسان التي يجب عليه أن يلتزم بها العالم كله ؟ إن أول شروط حقوق الإنسان أن يكون متفقًا عليها.
فماذا يريد هؤلاء المنافقين، لماذا يظهرون الإسلام ويحتمون به، ويبطنون الكفر ويفرحون به ؟ ويسلي قلوبنا قوله تعالى : ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر :3].
آية تحدد صفات ثلاث؛ أولها : الأكل، والأكل يحدث من المؤمن والكافر، إلا أنه يكون من الكافر مع اللهو وبغير التزام الآداب، وبغير شكر ولذا قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ [محمد :12].
والصفة الثانية : التمتع، والتمتع يحدث كذلك من المؤمن والكافر، ولكنه يكون من الكافر بانفتاح على شهوات دون الالتفات إلى أي ضوابط أو شرائع، ويكون للكافر مؤقتا بالحياة الدنيا، وفي الآخرة ينتظره الوعيد، كما قال تعالى للذين عقروا الناقة : ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود :65]. والمتعة في هذا متعددة بحسب الحال، فهي جامعة تشمل متع الجنس، ومتع الجاه، ومتع المال، إلا أنها متعلقة كلها بالدنيا وبالشهوات.
والصفة الثالثة : يليهم الأمل، فهم موهمون يأملون بأن تمتد بهم الحياة، ولا يسوء بهم الحال، فلا يتصورون لحظة أنهم قد يتغير حالهم، ولا يتخيلون أن الحياة تنقضي ويلاقوا يومهم الذي كانوا يوعدون. وطول الأمل يتسلل لقلوب الناس كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنتان الأمل وحب المال» [رواه البخاري ومسلم]. وطول الأمل من المهالك التي يهلك بها آخر هذه الأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» [رواه أحمد في الزهد، والطبراني في الأوسط]. فهم يأملون في هذه الحياة الدنيا، ولا ترى واحدا منهم يذكر الموت، وتراه يأباه ويكرهه، ويكره لقاء الله، فكره الله لقاءهم.
ثم تختم الآية بوعيد يفتح لهم آفاق التخيل لما يمكن أن يخبأه الله لهم من العذاب، فيقول سبحانه ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ يقول ابن كثير في هذه الآية : «وقوله : ذرهم يأكلوا، ويتمتعوا، تهديد شديد لهم، ووعيد أكيد، كقوله تعالى : ﴿قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار﴾ وقوله : ﴿كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون﴾؛ ولهذا قال : ﴿ويلههم الأمل﴾ أي عن التوبة والإنابة ﴿فسوف يعلمون﴾ أي عاقبة أمرهم. [ابن كثير 2/548].
ثم يخاطب الله المؤمنين بأن لا يعجلوا على هؤلاء، ويدعوهم إلى معرفة سنته في مثلهم، فيعرفهم الحقيقة الثابتة والتي تتمثل في قوله تعالى : ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف :34]. لذا قال تعالى : ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ [الحجر : 4، 5]. وربنا يخبرنا بأن إهلاك القرى الظالمة كان في وقت قد وقته لهم لم يقدم هذا الوقت من أجل أحد، ولم يؤخر من أجل أحد كذلك.
فالأمر بيد الله، وما علينا إلا الإنكار على أمثال هؤلاء في عصرنا، والاجتهاد في تربية أولادنا على الصالحات، والتحذير من هذا البلاء، وعلينا أن نقوم بعبادة الله، وعمارة الأرض، وتزكية النفس.
وهؤلاء جمعوا بين الكفر وقلة الحياء، فكان الحياء يمنع صاحبه من إظهار السوء وإن ظهر يمنعه من الاستمرار فيه وإن تكرر يمنعه من البقاء عليه أو الاستهانة بمن حوله بشأنه ولكن قلة الحياء مكنت هؤلاء من ذلك كله.
وقد جاء الدين وحث على الحياء باعتباره خلقًا محمودًا، على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع حتى شاع الذم بعبارة (قليل الحيا) في الاستعمال اليومي، وفي الحديث النبوي الشريف عندما عاتب أحدهم آخاه على كثرة حيائه قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (الحياء خير كله) [رواه مسلم] وقال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [رواه البخاري].
فالحياء ينشئ ثقافة كانت سائدة، تمنع من الانحراف، وتضبط إيقاع العمل على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي، وانعدام الحياء يوصلنا إلى فقد المعيار الذي به التقويم، والذي به القبول والرد والذي به التحسين والتقبيح، وفقد المعيار هذا يؤدي إلى ما يشبه الفوضى وهي الحالة التي إذا استمرت لا يصل الإنسان إلى غايته، ويضيع الاجتماع البشري وتسقط الحضارات في نهاية المطاف حيث لا ضابط ولا رابط.
ونحمد الله أن الشعب المصري في مجمله لا يقبل هذا الهراء، فهو يحب الدين، ويرفض أن يعيش من غيره، بل ويرفض أيضا أن يعيش مع الدين وهو في الهامش، بل يريد أن يعيش في الدين وبالدين، والإخوة العلمانيون يتعجبون من ذلك، حتى إن عجبهم قد أثار حفيظتهم، وغبش عليهم رؤية الواقع، فمعنى هذه الحقيقة أن مشروعهم قد فشل بالرغم من أنهم قد بذلوا كل ما في وسعهم. ومن هنا تراهم يبحثون عن أسباب وهمية تتعلق بسلطة رجال الدين، وبتأثير المؤسسة الدينية، وبأوهام الدولة الدينية إلى آخر ما هنالك مما نسمعه ليل نهار.
وعلى ذلك فمن العبارات الشائعة وهي خطأ قولهم (لا حياء في الدين) والعبارة الصحيحة التي حرفت من أصلها إلى هذه العبارة الجديدة الخاطئة هي (لا حرج في الدين) وهناك فارق كبير بينهما، فصحيح أنه لا حرج في الدين، فإن اليسر يغلب العسر، ومن طبق الدين لا يجد فيه ضيقًا ولا تضيقًا فقد قال الله تعالى : (فإن مع العسر يسراً * إن المعسر يسرا) [الشرح : 5،6] وفي الحديث الشريف : ( أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما) [رواه مسلم]. والقاعدة الفقهية الأم (المشقة تجلب التيسير). أما الحياء فهو في الدين، بل الدين كله حياء، والحياء خلق أصيل فيه.
إن الرهان من قبل العلمانيين، هو أن تؤدي هذه الحالة -التي يثيرونها من التشكيك في الثوابت العقائدية والأخلاقية- إلى زعزعة حب الدين، وعدم القدرة على العيش معه وبه عند الشعب المصري، وإلى تنحية الدين، والمتوقع مع رسوخ حب الدين في قلوب المصريين مسلمين ومسيحيين هو عدم التأثر بمثل هذه الحالة، وأن الدين لن يتزعزع في قلوبهم، ولن يخرجوه إلى هامش الحياة، ولا إلى مرتبة مستوى الشخص، فالشعب المصري شعب في غاية الذكاء والشفافية ينظر إلى أولئك نظرة تصاحبها ابتسامة ساخرة لأنهم يريدون قيادة الشعب إلى أوهام سوداء وإلى انسلاخ من الهوية ومن الحياة الطيبة التي يعيشها المصري والتي تعود عليها وهو إنسان الحضارة وعمارة الأرض وتزكية النفس والتي علمها العالم عبر القرون ومن مئات السنين وآلافها، فشعب مصر يعرف من هو، وهو الذي قاوم كل محتل وقاوم كل مختل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا في المقال السابق عن الفتنة وعلمنا أنه ضد الفرقان، إذ الفرقان القدرة على رؤية الحق والباطل بوضوح، والفتنة هي لبس وخلط في الرؤية، وتكلمنا كيف يواجه المسلم الفتنة للخروج منها بسلام، فذكرنا الفرار من الفتنة، وعدم المشاركة فيها.
وذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أحب شيء إلى الله تعالى الغرباء. قيل : ومن الغرباء ؟ قال : الفرارون بدينهم يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى بن مريم عليهما السلام» [رواه أبو نعيم في حلية الأولياء].
وقول الإمام علي ناصحا الناس في الفتن : «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب» [نهج البلاغة].
وعلمنا أن ذلك لا يعني أن يعتزل المسلم المجتمع، وإنما معنى ذلك أن لا يعطي نفسه شيئا للفتنة ولا ينجر إليها ويستدرج فيها، فهذا أول ما يجب على المسلم تجاه الفتنة أن يفر منها ولا يشارك فيها. فثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن» [رواه أبو داود]
ثم عليه أن يتعوذ بالله منها حتى تنجلي ويعود الصفاء في الرؤية والنفس مرة أخرى، وقد ورد في الدعاء الذي عمله النبي أصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم : « اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا» [رواه أحمد].
وبعد تجنب الفتن والفرار منها، والتعوذ بالله من شرها وصدق الالتجاء إليه في أن يجنبه الله شرها، على المسلم أن يراعي تقوى الله في كل أوقاته حتى يتبين له الأمر وذلك مصداقا لقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الأنفال :29].
وحقيقة التقوى هي التباعد عن كل مضر في الآخرة، وقد ذُكر في معناها أيضا : أنها عبارة عن حجاب معنوي يتخذه العبد بينه وبين العقاب ، كما أن الحجاب المحسوس يتخذه العبد مانعا بينه وبين ما يكرهه.
وكثرت آيات القرآن الكريم التي تحث المسلمين على تقوى الله سبحانه وتعالى، وتنوعت أشكال الجزاء عليها، فتارة يعلمنا الله أنها سبب الفلاح، فيقول سبحانه ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة : 189]. وتارة يأمرنا بربنا بملازمة المتقين فيقول تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [البقرة : 194]. وتارة يعلمنا ربنا أنها معيار تقويم الناس عنده سبحانه فيقول : ﴿ِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات : 13].
وكانت التقوى وصية الله لجميع الأمم، ووصيته للذين أوتوا الكتاب من قبلنا، كما أنها وصية الله لنا كذلك قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِياًّ حَمِيداً ﴾ [النساء : 131].
وعلى المؤمن أن يكثر من أعمال الخير بشكل عام ليعينه الله بذلك على الخروج من الفتن، وأن يبادر بتلك الأعمال استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول : «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا» [رواه مسلم]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «العبادة في الهرج وفي رواية في الفتنة كهجرة إلي». [رواه مسلم] يعني بذلك أن لها ميزة وفضل وأجر عظيم في أوقات الفتن.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله معلقاً على هذا الحديث : «وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهوائهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ،متبعاً لأوامره مجتنباً لنواهيه»
ومن أهم ما يعين المسلم على الخروج من تلك الفتن كتاب الله عز وجل كما وصفه بذلك الصادق المصدوق فيما ورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إنها ستكون فتنة، قال : قلت فما المخرج ؟ قال : كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، من ابتغى الهدى (أو قال العلم) من غيره أضله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي تناهى الجن إذ سمعته حتى قالوا : (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعى إليه هدي إلى صرط مستقيم» [رواه البيهقي في الشعب].
ذلك فيما يخص الفتن التي تصيب الإنسان فتغبش على الرؤية، أما النوع الثاني من الفتن وهو اختلاط أهل الحق وأهل الباطل فيصعب التمييز بينهم فقد أشار القرآن إلى هؤلاء المندسين الذين يتسببون في فتنة المجتمع وأنهم لا يخفون عليه سبحانه فقال تعالى : ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا﴾ [الأحزاب :18].
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الزمان الذي يختلط فيه أهل الحق بأهل الباطل، ويظن الناس أن الكاذب صادق، والصادق كاذب حيث قول صلى الله عليه وسلم : «يأتي على الناس سنوات جدعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيهم الرويبضة. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» [أحمد وابن ماجة والحاكم].
وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وهو حديث طويل عبارة (ولن يكون ذلك كذلك حتى تروا أمورًا عظامًا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا) [أخرجه ابن حبان في صحيحه]
ويبدو أننا نعيش في تلك الحالة الثقافية التي لم تستقر بعد، ولم تتحدد مفاهيم كثيرة منها، والتي خرج الرويبضة ليساهم فيها ويتكلم في الشأن العام، من التصدر للنصيحة حتى الطبية منها، إلى الإفتاء ولو بغير علم مع أنه لم يحفظ آية كاملة إلا في قصار السور، إلى تولي المناصب العامة، إلى الكلام في الشيوعية البائدة أو الفن الجديد، إلى من يريدنا أن ننسلخ عن أنفسنا وديننا وتاريخنا إلى من يريد إرهابًا فكريا، إما هو وإما الجحيم، ثم جحيمه هي الجنة، وأن جنته هي الجحيم؛ لأنه دجال من الدجاجلة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الدجال : (يخرج الدجال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره) [أخرجه أحمد وأبو داود].
والمخرج من ذلك كله هو الصبر والتأكيد على الحرية الملتزمة وترك الرويبضة يكتشفه الناس في تفاهته وفي هشاشة تفكيره، والاستمرار في بناء الإعلام الجاد الملتزم الذي سوف يطرد الهش والغث والذي سيجعل التافه يتعلم أو يستحي أو يتوارى أو يسير مسار الجادين أو يحاول حتى لو لم يصل إلى مستواهم وأنا مستبشر خيرًا أن هذه الحالة من الكسل والتفاهة سوف تنتهي فقد ظهرت صحافة الإثارة في أمريكا سنة 1830 ثم استقر الأمر الآن، وأصبح من دواعي الاشمئزاز عند الطبقة المثقفة هناك أن يرى أحدهم صحيفة من هذه الصحف في يد قارئ مسكين وكأنه يقول له بنظرته العاتبة : (هل ما زلت هنا لم تتعلم ؟) إن هذه الثقافة لن تأخذ كثيرا من الوقت، وذلك بسبب التطور الهائل من الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا.
وحتى نصل إلى هذه الحالة علينا أن نصبر (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف :18] وأن نتصدق بعرضنا على الناس (عن أبي هريرة أن رجلا من المسلمين قال اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به وإني جعلت عرضي صدقة قال فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له) [رواه الطبراني في الكبير] وأن نهجرهم هجرا جميلا قال تعالى : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل :10] وأن نتمسك بصفات عباد الرحمن قال تعالى : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) [الفرقان :63 : 65].
والشرع يأمر أن نرجع إلى الحقائق لا إلى الأوهام، وإلى الواقع لا إلى الخيال المريض قال تعالى وهو ينهانا عن الفتنة بكل أشكالها كلامًا وفعلاً وسلوكًا : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوَهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [لقمان :20، 21].
وقال تعالى : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [لقمان :6] وقال : ﴿أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ [النجم :59، 61]، وسامدون أي تغنون بالباطل من القول. وقال تعالى : ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام :116].
وبالنظر إلى الفتنة ومبعثها في النفس الإنسانية يمكن أن نقسم الفتنة إلى قسمين الأول : فتنة الشبهات. والثاني : فتنة الشهوات. وفتنة الشبهات : كالتشكيك في صحيح العقيدة، والدعوة إلى الغلو والتطرف، وهذا النوع من الفتن يزول بالعلم.
وأما فتنة الشهوات: وهي الغالبة على عامة البشر كالافتتان بالنساء أو بالمال الحرام أو بالمنصب أو بالجاه، وتزول هذه الفتن بالتقوى.فبالعلم والتقوى ينجو الإنسان من كل أشكال الفتن، وبغياب العلم والتقوى تظهر الفتن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : :«يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ» [رواه البخاري].
وفي رواية أخرى : «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ» [رواه البخاري].
والفتنة التي هي الابتلاء والامتحان تكون بالخير والشر، يقول تعالى : ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون﴾َ [الأنبياء :35].
والفتنة ليست شرا من كل الوجوه بل فيها أوجه للخير، ولا يعني ذلك أننا نسعى إليها أو أن نطلبها ولكننا لابد أن نستفيد منها إذا حدثت من هذا الخير التمييز بين الخبيث والطيب، قال تعالى : ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ﴾ [آل عمران :179]. وقال تعالى : ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال :37].
وقال عز وجل : ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت :2 ، 3]
وفي الفتنة تقوية لإيمان المؤمنين وتدريب لهم على الصبر والجلد، وتمحيص لما في قلوبهم من الإيمان قال تعالى : ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ﴾ [آل عمران :140، 141]. وقال سبحانه : ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور﴾ِ [آل عمران :154].
كما أنها سنن الذي سبقوا وعلامة على اصطفاء الله لعباده، قال تعالى : ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة :214].
هذا فيما يخص الفتن وكيفية الخروج منها بفرقان الله عز وجل، وكان الفرقان هو الخطوة الثالثة من خطوات الخروج من المحرمات والشهوات التي تناولنها في تلك المقالات الخمس، فذكرنا أن أولى تلك الخطوات أن يجعل المسلم النبي صلى الله عليه وسلم أبا له، والثانية أن يكثر ذكر الله عز وجل، والثالثة أن يهتدي ويفرق بين الحق والباطل بفرقان ربه.
رزقنا الله نجاة من الفتن ما ظهر منا وما بطن ورزقنا الهداية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.