حكم التفجيرات والأعمال الانتحارية
المبـــــــادئ
1- الجهاد يكون فرض عين في البلاد التي يُعتَدَى فيها على حرمات المسلمين أو مقدساتهم مِن قِبَل الغزاة البغاة.
2- دلت النصوص الشرعية على وجوب الوفاء بالعهود التي منها ثبوت الأمان للمستأمن ووجوب الحفاظ على نفسه وماله وعرضه.
3- التعرض للسائحين المستأمنين والهجوم عليهم وقتلهم حرام بالإجماع، وهو افتئات على الأمة كلها وخرق لذمتها.
4- من المقرر شرعا أنه لا يجوز الإقدام على قتل المدنيين رجالا أو نساءً.
5- اتفق العلماء على أنه لو تعارضت المصلحة مع المفسدة فإن دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 1637 لسنة 2009م المتضمن:
يتردد في هذه الآونة الكلام عن الجهاد، وأنه فريضة معطَّلة، ويُروَّج لتبرير الأعمال الشنيعة تحت دعوى إحياء فرض الجهاد الإسلامي؛ كقتل السائحين الداخلين إلى بلاد المسلمين بتأشيرات دخول، والتفجيرات والأعمال الانتحارية ببلاد غير المسلمين، وذلك بحجة أن تأشيرة الدخول ليست بأمان، ومِن ثَمَّ يُجَوِّزون قتل السياح الذين دخلوا بلاد الإسلام، كما يُجَوِّزون لمن دخل بلاد غير المسلمين أن يقوم بأعمال انتحارية. فهل فرض الجهاد معطل؟ وهل تُعَدُّ تأشيرةُ الدخول أمانًا يعصم الدماء والأموال؟ وما حكم هذه التفجيرات والأعمال الانتحارية؟
الجــــــــــواب
أما الدعوى بأن الجهاد معطل فينبغي ابتداءً أن نؤكد على أن الجهاد حق وفريضة محكمة لا يملك أحد تعطيله ولا منعه، ولكنه إذا تفلت من الضوابط الشرعية ولم تطبق فيه الأركان والشروط والقيود التي ذكرها علماء الشريعة خرج عن أن يكون جهادًا مشروعًا، فتارة يصير إفسادًا في الأرض، وتارةً يصير غدرًا وخيانة، فليس كل قتال جهادًا، ولا كلُّ قتل في الحرب يكون مشروعًا. وهذا يستلزم أن نفرق هنا بين مفهومين مهمين: "الجهاد" و"الإرجاف": فمصطلح "الجهاد في سبيل الله" هو مصطلح إسلامي نبيل له مفهومه الواسع في الإسلام، فهو يطلق على مجاهدة النفس والهوى والشيطان، ويطلق على قتال العدو الذي يُراد به دفعُ العدوان وردعُ الطغيان، وهذا النوع من الجهاد له شروطه التي لا يصح إلا بها، من وجود الإمام المسلم الذي يستنفر المسلمين من رعيته للجهاد، ووجود راية إسلامية واضحة، وتوفر الشوكة والمنعة للمسلمين؛ فهو من فروض الكفايات التي يعود أمر تنظيمها إلى ولاة الأمور والساسة الذين ولاهم الله تعالى أمر البلاد والعباد وجعلهم أقدر من غيرهم على معرفة مآلات هذه القرارات المصيرية، حيث ينظرون في مدى الضرورة التي تدعو إليه من صدِّ عُدوان أو دَفع طُغيان، فيكون قرار الجهاد مدروسًا من جميع جوانبه ومآلاته دراسة علمية وواقعية فيها الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد بلا جبن أو خور أو ضعف، وبلا سطحية أو غوغائية أو عاطفة خرقاء لا يحكمها خطام الحكمة أو زمام التعقل، وهم مثابون فيما يجتهدون فيه من ذلك على كل حال، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، وإن قصروا فعليهم الإثم، وليس لأحد أن يتورك عليهم في ذلك إلا بالنصيحة والمشورة إن كان من أهلها، فإن لم يكن من أهلها فليس له أن يتكلم فيما لا يحسن، ولا أن يبادر بالجهاد بنفسه وإلا عُدَّ ذلك افتئاتًا على الإمام، وقد يكون ضرر خروجه أكثر من نفعه فيبوء بإثم ما يجره فعله من المفاسد. ولو كُلِّف مجموع الناس بالخروج فُرادَى من غير استنفارهم مِن قِبَل ولي الأمر لتعطلت مصالح الخلق واضطربت معايشهم، وقد قال تعالى: { وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗ} [التوبة: 122]، مع ما في هذا التصرف مِن التَّقَحُّم في الهلكة، وإهمال العواقب والمآلات، والتسبب في تكالب الأمم على المسلمين، وإبادة خضرائهم، والولوج في الفتن العمياء والنزاعات المهلكة بين المسلمين والتي تفرزها قرارات القتال الفردية الهوجائية هذه، ومن المعلوم شرعًا وعقلا وواقعًا أن التشتت وانعدام الراية يُفقِد القتال نظامه من ناحية، ويُذهِب قِيَمَه ونُبلَه ويشوش على شرف غايته من ناحية أخرى.
وقد نقل الإمام القرطبي في أحكام القرآن -5/ 259- عن الإمام سهل بن عبد الله التُّستَري -رحمه الله تعالى- أنه قال: "أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد". اهـ.
وقال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في أحكام القرآن -1/ 581 ط: دار الكتب العلمية-: "أمر الله سبحانه الناس بالجهاد سرايا متفرقة أو مجتمعين على الأمير، فإن خرجت السرايا فلا تخرج إلا بإذن الإمام; ليكون متحسسًا إليهم وعضدًا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه". اهـ.
وجاء في مواهب الجليل للإمام الحطاب المالكي -3/ 349 ط: دار الفكر-: "قال ابن عَرَفة الشيخ عن الموازية: أيغزى بغير إذن الإمام؟ قال: أما الجيش والجمع فلا إلا بإذن الإمام وتولية وال عليهم". اهـ.
وفيه أيضًا -3/ 350- عن سيدي أحمد زروق من فقهاء المالكية الكبار ومن الصالحين الكُمَّل أنه قال: "التوجه للجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم فإنه سُلَّم الفتنة، وقلما اشتغل به أحد فأنجح". اهـ.
وقال إمام الحرمين في كتابه "غِيَاث الأُمَم في الْتِيَاث الظُّلَم" -155، 156-: "ومما يجب الإحاطةُ به أنَّ مُعظَمَ فروضِ الكفاية مِمَّا لا تتخصص بإقامتها الأئمةُ، بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يُغفِلُوه ولا يَغفُلُوا عنه؛ كتجهيز الموتى ودفنهم والصلاة عليهم، وأما الجهاد فموكول إلى الإمام". اهـ.
وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني -9/ 166 ط: دار إحياء التراث العربي-: "وأمرُ الجهاد مَوكولٌ إلى الإمام واجتهاده، ويَلزم الرعيةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك". اهـ.
ومن جهة أخرى فإن مصطلح الجهاد في الشرع لا يعني القتال فقط، بل إن من الجهاد إعداد الجيوش وحماية الحدود وتأمين الثغور، فهذه مِن فرض الكفاية في الجهاد، فإذا تم ذلك حسب الاستطاعة فلا يقال حينئذ: إن الجهاد قد عُطِّل، وقد نص السادة الشافعية على أنه: "يحصل فرض الكفاية يعني في الجهاد بأن يشحن الإمام الثغور بمكافئين للكفار مع إحكام الحصون والخنادق وتقليد الأمراء، أو بأن يدخل الإمام ونائبه دار الكفر بالجيوش لقتالهم". مغني المحتاج 4/ 210 ط: الحلبي.
كما أن إعداد "قوة الردع" أهم من ممارسة القتال نفسه؛ لأن فيها حقنًا للدماء، وقد أشار القرآن الكريم إليها في قوله تعالى: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ} [الأنفال: 60]. بل أكد الإمام الشافعي -رضي الله عنه- على أن تأمين الثغور وحدود الإسلام أولى من غزو بلاد الكفار، وأن غزوهم آنذاك مشروط بعدم التغرير بالمسلمين، وأن يرجو الظفر، ومنه يعلم أن مثل هذه العمليات الانتحارية التي تتسبب في مهلكة المسلمين أكثر مما أصابت من غير المسلمين غير جائزة بحال، لِمَا تتسبب فيه من الهلاك للمسلمين وجر الوبال عليهم دون ظفر بعدو، فقال -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 91- 92-: "والواجب أن يكون أول ما يبدأ به سد أطراف المسلمين بالرجال وإن قدر على الحصون والخنادق وكل أمر دفع العدو، وقبل انتياب العدو في ديارهم حتى لا يبقى للمسلمين طرف إلا وفيه من يقوم بحرب من يليه من المشركين... فإذا أحكم هذا في المسلمين وجب عليه أن يدخل المسلمين بلاد المشركين في الأوقات التي لا يغرر بالمسلمين فيها، ويرجو أن ينال الظفر من العدو". اهـ.
ثم يؤكد الإمام الشافعي على أنه لا يجوز حمل المسلمين في الجهاد على ما فيه مهلكتهم فيقول في "الأم" -4/ 91، 92-: "ولا ينبغي أن يولي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه شجاعا في بدنه حسن الأناة عاقلا للحرب بصيرا بها غير عجل ولا نزق، وأن يقدم إليه وإلى مَن ولاه أن لا يحمل المسلمين على مهلكة بحال، ولا يأمرهم بنقب حصن يخاف أن يشدخوا تحته، ولا دخول مطمورة يخاف أن يقتلوا ولا يدفعوا عن أنفسهم فيها، ولا غير ذلك من أسباب المهالك، فإن فعل ذلك الإمام فقد أساء". اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة" -1/ 393-: "وهو من فروض الكفايات دون الأعيان، فمن قام به سقط به الفرض عن الباقين، ووجه القيام به أن تحرس الثغور وتعمر وتحفظ بالمنعة والعدد". اهـ.
وقال الإمام ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" -ص126- في حكمه -أي الجهاد-: "وهو فرض كفاية عند الجمهور... تفريع: إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور سقط فرض الجهاد وبقي نافلة". اهـ.
ومن خلال هذه النصوص يعلم أن فرض الكفاية في الجهاد بتأمين الثغور حاصل على درجات متفاوتة في كثير من البلدان الإسلامية بصفة عامة، وليست فريضة الجهاد من هذا الجانب معطَّلة كما يدعي هؤلاء. والجهاد يكون فرض عين في البلاد التي يُعتَدَى فيها على حرمات المسلمين أو مقدساتهم مِن قِبَل الغزاة البغاة، ويتعين على أهلها الدفاعُ عنها، ولا يلزم الجهاد حينئذ كل أحد من المسلمين، وإنما يصير على من كان خارجها فرض كفاية كما نص عليه الفقهاء.
قال العلامة الشربيني الخطيب في الإقناع من كتب الشافعية -4/ 254، 255 مع حاشية البجيرمي، ط: دار الفكر-: "والحال الثاني من حالي الكفار أن يدخلوا بلدة لنا مثلا، فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم. ويكون الجهاد حينئذ فرض عين... ومَن هو دون مسافة القصر مِن البلدة التي دخلها الكفارُ حكمُه كأهلها وإن كان في أهلها كفاية; لأنه كالحاضر معهم. ويلزم الذي على مسافة القصر المضيُّ إليهم عند الحاجة بقدر الكفاية؛ دفعًا لهم وإنقاذًا من الهلكة، فيصير فرض عين في حق من قَرُب وفرض كفاية في حق من بَعُد". اهـ. بتصرف.
فعُلِم من هذا أنَّ الجهاد في حق من هو خارج الأرض المعتدى عليها تابع لمدى حاجة من هم داخلها من أهلها، وأنه يُلحق بهذه الأرض في وجوب الدفع عنها ما كان داخلا في مسافة القصر من جميع أطرافها، فإن لم يَف ذلك أُضيف إلى هذه المسافة مثلها وهكذا. ولكن تنفيذ الحكم الشرعي بهذه الطريقة أيضًا لا بد فيه مِن سلوك الطرق الصحيحة التي هي مِن اختصاص الجهات المضطلعة بواقع الأمور حربيا وسياسيا وواقعيا والمشرفة على تقدير الحاجة من عدمها، والتي تراعي حساب المآلات والنتائج والمصالح والمفاسد المتعلق بالاعتبارات الإقليمية والمعاهدات الدولية ومعرفة موازين القوى العالمية، وكل ذلك يحتاج إلى موازنات خاصة ودراسات حربية وسياسية دقيقة يتم فيها مراعاة استنفاد الخيار السلمي الذي أشار الله تعالى إليه بقوله سبحانه: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ } [الأنفال: 61]، والحفاظ على أمن الدول الإسلامية ورعاياها ومصالحها من جهة أخرى، وقدرتها على المواجهة وتحمل خيار الحرب من جهة ثالثة، وليتم الأمر بشكل رسمي محدد المعالم يُؤمَن فيه على مريدي الجهاد من أن يقعوا فريسة لجهات مشبوهة تستغل عواطفهم وتوظف حماسهم لخدمة أهداف خارجية باسم الجهاد من جهة رابعة، وكلها أمور واعتبارات متعلقة بفقه الأمة ولا يستطيع الاضطلاع بها إلا الأنظمة والجيوش والكيانات الضخمة، ولا علاقة لها بفقه الأفراد ولا مجال لهم في حسم مصائر الأمم فيها، والمسؤول عن ذلك هم ولاة أمور المسلمين، وحتى لو قصروا فيه فإن تقصيرهم لا يجعل فريضة الجهاد معطَّلة مع وجود تأمين الثغور وحماية الحدود، ولا يبرر بحال من الأحوال الخروج عن النظام العام لجماعة المسلمين؛ لتصبح قرارات الحرب فردية هوجائية يذهب فيها الأخضر واليابس، فضلا عن مثل هذه العمليات التفجيرية التي لا علاقة لها بجهاد إسلامي ولا بحرب شريفة. ثم إن الجهاد بمعنى القتال ليس مقصودًا في نفسه، ولا قتل غير المسلمين مقصودًا في نفسه على خلاف ما تصوره تيارات البغي والإرجاف التي جعلت الأصل في غير المسلمين أنهم مباحو الدم، بينما بَيَّنَ علماء الشريعة أنه متى قام المسلمون بفرض الكفاية من سد الثغور وحماية حدود بلاد الإسلام، فإن الدعوة تكفي عن الجهاد بغزو بلاد غير المسلمين، بل متى ما صلحت الدعوة لم يُلجَأ إلى الجهاد، وأن قتل الكفار ليس بمقصود، والجهاد وسيلة وليس مقصودًا بالذات، فقالوا: ووجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد، إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة، وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد. انظر: مغني المحتاج 4/ 210.
أما ما يروج له هؤلاء فهو "الإرجاف" وليس الجهاد، وهو مصطلح قرآني ذكره الله تعالى في قوله سبحانه: {لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا ٦٠ مَّلۡعُونِينَۖ أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلٗا ٦١ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا} [الأحزاب: 60- 62]، وهي كلمة لها مفهومها السيئ الذي يعني إثارة الفتن والاضطرابات والقلاقل باستحلال الدماء والأموال بين أبناء المجتمع الواحد تحت دعاوى مختلفة منها: التكفير للحاكم أو للدولة أو لطوائف معينة من الناس، ومنها استحلال دماء المسلمين تحت دعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو استحلال دماء غير المسلمين في بلادهم أو أولئك الذين دخلوا البلاد الإسلامية بدعوى أن دولهم تحارب الإسلام. إلى آخر ذلك من دعاوى الإرجاف التي يسولها الشيطان للمرجفين، والتي كان بعضها سببًا لظهور الخوارج في زمن الصحابة ومن جاء بعدهم، وشُبهًا يبررون بها إفسادهم في الأرض وسفكهم للدماء المحرمة. وحينئذ فإن الحكم يختلف تبعًا لاختلاف المفهوم، فما تفعله هذه التيارات في بلاد المسلمين من قتل للسائحين، أو في بلاد غير المسلمين من عمليات انتحارية، أو غير ذلك من أفعال التخريب التي أفرزتها مناهج الإرجاف الضالة، فهذا كله حرام، وهو نوع من البغي الذي جاء الشرع بصده ودفعه بل وقتال أصحابه إن لم يرتدعوا عن إيذائهم للمسلمين ولغير المسلمين مواطنين ومستأمنين، وتسميته جهادًا ما هو إلا تدليس وتلبيس حتى ينطلي هذا الفساد والإرجاف على ضعاف العقول، وهذا بَغْيٌ في الأرض بغير الحق يُعَدُّ أصحابُه بغاةً يُقاتَلون إن كانت لهم منعة وشوكة حتى يرجعوا عن بغيهم وإرجافهم. ويتضح هذا ببيان حكم المستأمَنينَ وتوصيف تأشيرة الدخول وآثارها شرعًا، فالسائحون في عصرنا الحاضر هم مسافرون إلينا من الرجال والنساء دخلوا بلادنا بأمان، وحكمهم في ذلك حكم المستأمنين، والمستأمَن في اللغة: هو من أُعطِيَ الأمان، وفي اصطلاح الفقهاء: من يدخل إقليم غيره بأمان مسلمًا كان أم حربيًّا. اهـ. الدر المختار للإمام الحصكفي الحنفي مع حاشية ابن عابدين عليه 4/ 166.
والأمان عهد شرعي وعقد يوجب لمن ثبت له حرمة نفسه وماله، وقد أمر الشرع بالوفاء بالعهود، وجاءت الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الوفاء بها عامةً في كل عهد. قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 106، ط: دار الشعب-: "جماع الوفاء بالنذر وبالعهد كان بيمين أو غيرها في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ} [المائدة: 1]، وفي قوله تعالى: { يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ } [الإنسان: 7]، وقد ذكر الله عز وجل الوفاء بالعقود بالأيمان في غير آية من كتابه. وظاهره عام على كل عقد". اهـ.
فحكم المستأمن: هو ثبوت الأمان له ووجوب الحفاظ على نفسه وماله وعرضه، شأنه في ذلك كشأن أهل البلد ومواطنيها، فإذا وقع الأمان من الإمام أو من غيره للمستأمَن وجب على المسلمين جميعًا الوفاء به، فلا يجوز قتله ولا أسره، ولا أخذ شيء من ماله، ولا التعرض له، ولا أذيته.
قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 107-: "وإذا كان ذلك، يعني إذا وادع الإمام قوما أو أخذ منهم الجزية فليس لأحد من المسلمين أن يتناول لهم مالا ودما". اهـ.
وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" -7/ 474-: "وإذا انعقد الأمان، صار المؤمَّن معصومًا عن القتل والسبي". اهـ.
والأمان ينعقد شرعًا بكل ما يفيده لفظًا وكتابةً وإشارةً وعرفًا، وبكل ما يفيد الغرض صريحًا أو كنايةً، وبأي لغة كانت، بل إن الأمان يُعطَى شرعًا لمن ظنَّ أنه أُمِّن ولو على جهة الخطأ ولا يجوز لنا الغدر به، حيث صرح علماء الشريعة بأن مجرد اعتبار غير المسلم لأمر ما أنه أمان له، فإن ذلك يوجب عصمة دمه وماله.
قال الإمام ابن الحاجب في "جامع الأمهات" من كتب السادة المالكية -246، 247، ط1 دار اليمامة-: "ولو ظن الحربي الأمانَ فجاء، أو نَهَى الإمامُ الناسَ فعَصَوْا أو نسوا أو جَهِلُوا، أُمضِيَ أو رُدَّ إلى مأمنه". اهـ.
وقال الإمامُ ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" -ص134 ط: دار الفكر-: "ولو ظن الكافر أن المسلم أراد الأمان والمسلم لم يُرِدْه فلا يُقتَل، وإذا شرط الأمان في أهله وماله لزم الوفاء به. ومَن دخل سِفَارةً لم يفتقر إلى أمان بل ذلك القصد يؤمنه". اهـ.
وقال الشيخ الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" من كتب السادة الشافعية -6/ 52 ط: الحلبي-: "... "ويصح" إيجاب الأمان "بكل لفظ يفيد مقصوده" صريحًا؛ كأَجَرْتُك وأَمَّنْتُك أو لا تفزع كأنت على ما تحب، أو كن كيف شئت "و" يصح "بكتابة"...". اهـ.
بل نص الفقهاء على أن مجرد الإذن لغير المسلم بالدخول إلى بلاد المسلمين هو إعطاءٌ للأمان لا يجوز نقضه: يقول الحافظ أبو عمر بن عبد البر المالكي في "الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار" -5/ 35-: "كل ما اعتبره الحربي أمانًا من كلام أو إشارةٍ أو إذنٍ فهو أمانٌ يجب على جميع المسلمين الوفاءُ به". اهـ.
وفي عصرنا الحاضر نُظِّم دخول البلاد رسميًّا في صورة تأشيرة الدخول أو المرور، وهي تقتضي بذاتها للحاصل عليها في المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية الإذنَ بدخول البلاد والأمنَ على النفس والمال، بل إن مجرد الإذن بالدخول مفيد للأمان، وقد صح أن الأمان ينعقد بأي شيء يفيده، فثبت بذلك أن تأشيرة الدخول أمان، ويصبح ما تقتضيه هذه التأشيرة من العهود التي يجب الوفاء بها، والعهد ينعقد بكل ما يدل عليه، فإذا دخل بها غيرُ المسلم بلادَ المسلمين لأي غرض من الأغراض سياحةً أو غيرَها فهو مُسْتَأمَنٌ لا يجوز التعرض له في نفسه ولا في ماله، كيف وقد أفاد كلام العلماء أن اعتقاد الأمان يوجبه لصاحبه ولو كان حربيًّا، ولو على سبيل الخطأ. وعقد الأمان العام يعقده ولاة الأمور، أما عقد الأمان لعدد محصور كوفد سياحي أو تجاري مثلا فيعقده كل مسلم حر عاقل بالغ بالاتفاق، وليس مقصورًا على ولي الأمر وحده، بل متى عقد مسلمٌ الأمانَ لغير مسلم وجب على جميع المسلمين الوفاءُ بذلك ولا يجوز الغدر بأهله، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ذِمَّةُ المُسْلِمينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفا وَلا عَدْلا». متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذمة المسلمين» أي: عهدهم، وقوله: «يسعى بها أدناهم» أي: يتولى ذمتَهم أقلُّهم شأنًا أو عددًا؛ فإذا أعطى أحد المسلمين -فضلا عن ولي أمرهم- عهدًا لم يكن لأحدٍ نقضُه، وقوله: «من أخفر» أي: نقض العهد، وقوله: «صرف ولا عدل» أي: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" -4/ 86، ط: السلفية-: "والمعنى: أن ذمة المسلمين سواءٌ صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أمَّن أحدٌ من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمةً لم يكن لأحد نقضُه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة". اهـ.
وعلى ذلك تواردت نصوص الأئمة الفقهاء: قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 196-: "فإذا أمن مسلم بالغ حر أو عبد يقاتل أو لا يقاتل أو امرأة فالأمان جائز. وإذا أشار إليهم المسلم بشيء يرونه أمانًا فقال: أمنتهم بالإشارة فهو أمان". اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة على مذهب عالم المدينة" -1/ 408، ط: دار الكتب العلمية-: "أمان الحر المسلم العاقل البالغ لازم لا يجوز نقضه ذكرًا كان أو أنثى". اهـ.
وقال الإمام ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" -ص134، ط: دار الفكر-: "التأمين ثلاثة أضرب: على العموم وينفرد بعقدهما السلطان، وهما الصلح والذمة، والثالث: خاص بكافر واحد أو بعدد محصور ويصح من كل مسلم مميز، فيدخل في ذلك المرأةُ عند الأربعة -أي المذاهب الأربعة- والعبدُ عند الثلاثة يعني ما عدا المذهب الحنبلي". اهـ.
وقال الإمام ابن الحاجب المالكي في "جامع الأمهات" -246، 247-: "ويجوز لأمير الجيش إعطاء الأمان مطلقًا ومقيدًا. وكذلك كل ذكر حر مسلم عاقل بالغ أو مُجازٍ، يعني أجازه الإمام. وأمان المرأة والعبد والصبي إن عقل الأمان مُعتبَرٌ على الأشهر". اهـ.
وهؤلاء السائحون من غير المسلمين قد أمَّنهم ولي الأمر بالتأشيرة، والذين تعاقدوا مع هذه الوفود السياحية ونظموا لهم رحلاتهم واستوفدوهم إلى بلاد المسلمين قد أمَّنوهم، ومن سافر بهم من المسلمين وأوصلوهم إلى بلادهم فقد أمَّنهم، ومَن استقبلهم بالمطار وأدخلهم البلاد فقد أمَّنهم، فكل ذلك له حكم الأمان الذي يعصم دماءهم وأموالهم. بل إن أمّنهم مَن لا يجوز أمانُه عندنا كغير البالغ والمعتوه فظنوه أمانًا فدخلوا بلادنا فليس لنا أن نعرض لهم بل نبلغهم مأمنهم؛ لعدم تمييزهم بين من يجوز أمانه ومن لا يجوز.
قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 196-: "وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أو لم يقاتلوا لم نجز أمانهم، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أو لم يقاتل لم نجز أمانه، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا بأمان فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز". اهـ.
فما تفعله هذه الطوائف الباغية من التعرض للسائحين والهجوم عليهم وقتلهم، هو افتئات على حكام المسلمين بل هو افتئات على الأمة كلها وخرق لذمتها بما يفقدها مصداقيتها. واستدلال هؤلاء على جواز العمليات التفجيرية بما ثبت في السنة الشريفة من جواز تبييت المشركين والغارة عليهم إنما هو مغالطة مفضوحة وقياس فاسد؛ لأن التبييت والغارة لا يكونان إلا مع نبذ العهد والأمان أو ما يعرف في عصرنا الحالي بـ "حالة إعلان الحرب"، ولا تجوز الغارة والتبييت أبدًا مع وجود العهد والأمان.
قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 107-: "قال الله تبارك وتعالى: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ } [الأنفال: 58]... قال الشافعي: فإذا جاءت دلالة على أن لم يوف أهل هدنة بجميع ما هادنهم عليه فله أن ينبذ إليهم، ومَن قلت: له أن ينبذ إليه فعليه أن يُلحقه بمأمنه ثم له أن يحاربه كما يحارب من لا هدنة له... إلى أن قال -4/ 108-: وإذا كان أهل الهدنة ممن يجوز أن تؤخذ منهم الجزية فخيف خيانتهم نبذ إليهم. وللإمام يعني بعد نبذ العهد لهم وإعلان الحرب عليهم أن يغزو دار من غدر من ذي هدنة أو جزية ويغير عليهم ليلا ونهارا ويسبيهم إذا ظهر الغدر والامتناع منهم". اهـ.
وقياس ما يفعله الانتحاريون على الخديعة الجائزة في الحرب قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ فإن هناك فارقًا كبيرًا وبونًا شاسعًا بين خيانة عهد الأمان اللازم وبين الخديعة المباحة في الحرب، وفي ذلك يقول الإمام ابن جزي في "قوانينه" –ص135- مؤسسًا لهذا الفرق: "الفرق بين الأمان اللازم وبين الخديعة المباحة في الحرب: أن الأمان تطمئن إليه نفس الكافر، والخديعة هي تدبير غوامض الحرب بما يوهم العدوَّ الإعراض عنه أو النكول حتى توجد فيه الفرصة فيدخل في ذلك التورية والتبييت والتشتيت بينهم، ونصب الكمين والاستطراد حال القتال، وليس منها أن يظهر لهم أنه منهم أو على دينهم أو جاء لنصيحتهم حتى إذا وجد غفلة نال منهم، فهذه خيانة لا تجوز". اهـ.
وقال الإمام النووي: "اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز". اهـ انظر: فتح الباري 6/ 183.
هذا من جهة إثبات حرمة دماء غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم بدخولهم مستأمَنين إلى بلاد المسلمين، فلا يجوز حينئذ التعدي عليهم بحال. وكذلك الحال في دخول المسلم إلى بلاد غير المسلمين بتأشيرة الدخول، فكما أنه لا يجوز الغدر بغير المسلمين متى دخلوا بلاد الإسلام مستأمَنين، فكذلك الحال بالنسبة للمسلم إذا دخل بلاد غير المسلمين بتأشيرة دخول ونحوها فإنه يكون مستأمَنًا، ولا يجوز له حينئذ أن يقوم بأي انتهاك لحرماتهم أو تَعَدٍّ عليهم، ودماؤهم وأموالهم وأعراضهم عليه حرام ولو تعدَّى على شيء من ذلك كان غدرًا وخيانة منه على ما ذكر العلماء؛ لأنا ذكرنا أن تأشيرة الدخول لغير المسلمين إلى بلاد المسلمين عقدُ أمان، وكذلك هي بالنسبة لدخول المسلم إلى بلاد غير المسلمين؛ لأنهم لم يُعطُوه إياها إلا بشرط ترك خيانتهم وأمنهم على أنفسهم منه، وهذا إذا لم يكن مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى كما يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني"، وسيأتي نص كلامه، وعقد الأمان يقتضي الاستئمان لطرفي العقد وأن كلا منهما جعل الآخر منه في أمان، فليس للمسلم حينئذ خيانتهم ولا الغدر بهم.
قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 164، 165، 188-: "فإن أمّنوه أو بعضُهم وأدخلوه في بلادهم بمعروف عندهم في أمانهم إياه، وهم قادرون عليه، فإنه يلزمه لهم أن يكونوا منه آمنين. فأمانهم إياه أمانٌ لهم منه، فليس له أن يغتالهم ولا يخونهم. إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم. ولا نعرف شيئًا يُروَى خلاف هذا". اهـ.
وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "السير الكبير مع شرح السرخسي" -2/ 66، 67، ط: دار الكتب العلمية-: "ولو أن رهطًا من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب فقالوا: نحن رسل الخليفة، وأخرجوا كتابًا يشبه كتاب الخليفة أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعةً منهم للمشركين، فقالوا لهم: ادخلوا، فدخلوا دار الحرب، فليس يحل لهم قتلُ أحد من أهل الحرب ولا أخذُ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم". اهـ.
قال شارحه: لأنه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين المسلمين حقيقةً، وإنما يُبنَى الحكمُ على ما يُظهرون؛ لوجوب التحرز عن الغدر، وهذا لِمَا بيّنا أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي. اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" -12/ 587، ط: دار الحديث-: "مسألة: مَن دخل إلى أرض العدو بأمان لم يَخُنْهم في مالهم. وأما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتَهم وأمنِه إياهم مِن نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى". اهـ.
ومن هنا يتبين لنا أيضا مدى جسامة خطأ ما يفعله هؤلاء البغاة في بلاد غير المسلمين مِن عمليات انتحارية غادرة يفجؤون ويفجعون بها مَن استأمنوهم وأدخلوهم إلى بلادهم، وأن هذه العمليات لا تجوز مطلقًا، بل هي متنافية مع تعاليم الإسلام ونبله الذي ينهى عن الغدر والخيانة خاصة بمن أدخلونا مستأمَنين إلى بلادهم. وما يبرر به هؤلاء إرجافهم وفسادهم مِن أنهم إنما يقومون بالتفجيرات في بلادٍ تحارب المسلمين أو ضدَّ رعايا بلاد تحارب المسلمين مردودٌ بأن هذه العمليات الغادرة لا تفرق بين مدني وعسكري.
ومن المقرر شرعا أنه لا يجوز الإقدام على قتل المدنيين رجالا أو نساءً، وإذا أُعلِنَت راية الجهاد فيجب أن يكون القتال فيه قائمًا على التمييز بين المحارب وغيره، خاصة إذا علم أنه كثيرًا ما ترفض الشعوب في بلاد غير المسلمين الديمقراطية ما تقوم به حكوماتُهم من حروب ضد بعض البلاد الإسلامية، وتقوم المظاهرات المعارضة لتلك الحروب، سعيًا إلى إسقاط الحكومات التي أعلنت الحرب، مما يعني أن أفراد الشعوب بإطلاق ليست كلها محاربة تبعًا لحكوماتها، فأما تعميم القتال والقتل بلا تمييز بين المحاربين والمدنيين فليس هذا من الإسلام في شيء، وقد تقرر في كليات الشرع الشريف وأصوله أنه لا يؤاخذ إنسان بذنب غيره، قال تعالى: { وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ} [الأنعام: 164].
قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 108-: "فإن تميزوا أو يخالفهم قوم فأظهروا الوفاء وأظهر قوم الامتناع كان له غزوهم ولم يكن له الإغارة على جماعتهم، وإذا قاربهم دعا أهل الوفاء إلى الخروج، فإن خرجوا وفى لهم وقاتل من بقي منهم، فإن لم يقدروا على الخروج كان له قتل الجماعة ويتوقى أهل الوفاء، فإن قتل منهم أحدا لم يكن فيه عقل ولا قود؛ لأنه بين المشركين وإذا ظهر عليهم ترك أهل الوفاء فلا يغنم لهم مالا ولا يسفك لهم دمًا". اهـ.
فيتضح من قوله: "ولم يكن له الإغارة على جماعتهم" أنه طالما كان فيهم من لم يحاربنا وهم كثير من أفراد شعوب العالم غير المسلمين الذين يرفضون الحروب التي تشنها حكوماتهم على بعض بلاد الإسلام فليس لنا الإغارة على جماعتهم بالعمليات التفجيرية أو الانتحارية، ومن كلام الشافعي يُعلم بطلان استدلال هؤلاء بجواز الإغارة على جواز العمليات الانتحارية ضد غير المسلمين في غير حالة الحرب المعلنة بلا تمييز بين محارب وغيره.
وبناء على ما سبق فإن التعرض للسائحين الأجانب الذين يأتون لبلاد المسلمين بالقتل أو بالأذى منكرٌ عظيم وذنب جسيم؛ لتعارضه مع مقتضى تأميننا لهم الذي ضمناه لهم بسماحنا لهم بدخول بلادنا بالطرق الشرعية، وكذلك الحال في التعرض لغير المسلمين في بلادهم بالعمليات الانتحارية أو التفجيرية فإنه حرام لا مرية فيه أيضًا؛ لتعارضه مع مقتضى إعطائهم الأمان من أنفسنا بطلبنا دخول بلادهم بطريقة شرعية، وقد أمرنا الشرع الشريف بالالتزام بالعقود والعهود والمواثيق، فقال تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ } [المائدة: 1]، وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر»، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» أخرجه الحاكم في المستدرك والدارقطني في سننه والبيهقي في السنن الكبرى.
وقد توعد الشرع أمثال هؤلاء الذين ينقضون عهود الأمان مع مَن أمَّنوهم وأدخلوهم إلى بلادهم أو باستهداف من أمَّنهم المسلمون وأدخلوهم إلى ديارهم بحمل لواء الغدر يوم القيامة، فروى ابن ماجه عن عمرو بن الحمق الخزاعي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أمّن رجلا على دمه فقتله فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة». كما أن هذه الأفعال من كبائر الذنوب؛ لأنها سفك للدم الحرام وقتل لنفوس الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق، وقد عظَّم الشرع الشريف دم المسلم ورهَّب ترهيبًا شديدًا من إراقته أو المساس به بلا حق، قال تعالى: { وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا } [النساء: 93]، وروى النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم»، كما حرم الله قتل النفس مطلَقًا بغير حق فقال عز وجل: { وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ} [الأنعام: 151]، بل جعل الله تعالى قتل النفس مسلمة أو غير مسلمة بغير حق قتلا للناس جميعًا، فقال سبحانه: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا} [المائدة: 32]. كما أن فيها قتلا للغافلين، وقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يفتِك المؤمن، الإيمان قيد الفَتك». قال ابن الأثير في النهاية: الْفَتْك أَنْ يَأْتِي الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ غَارٌّ غَافِل فَيَشُدَّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ. اهـ.
ومعنى الحديث أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يفتك المؤمن» هو نهي، أو خبر بمعنى النهي. ومن المؤكد شرعًا في أحكام الجهاد أنه لا يجوز قتل من لم تبلغه الدعوة حتى وإن كان محاربًا غير مستأمن، وأنه تجب ديته على من قتله.
قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 157-: "فإن قتل أحد من المسلمين أحدًا من المشركين لم تبلغه الدعوة وَدَاه". اهـ.
فكيف بمن قتل المستأمنين وغدر بهم، وخان ذمة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذمة المسلمين وولاتهم. كما أن هذه الأفعال منافية لمقاصد الشرع الكلية: فالشرع الشريف جاء وأكَّد على وجوب المحافظة على خمسة أشياء أجمعت كل الملل على وجوب المحافظة عليها، وهي: الأديان، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، وهي ما تسمى بالمقاصد الشرعية الخمسة. ومن الجليِّ أن التفجيرات المسؤول عنها تَكِر على بعض هذه المقاصد الواجب صيانتها بالبطلان، ومنها مقصد حفظ النفوس؛ فالمقتول إن كان هو الانتحاري القائم بعملية التفجير الذي يقحم نفسه في الموت إقحامًا بتلغيم نفسه أو نحو ذلك فهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ في الدُّنْيا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه. وإن كان غيره، فإن كان المقتول مسلمًا فقتله عمدًا عدوانًا كبيرةٌ ليس بعد الكفر أعظم منها، وفي قبول توبته وعدمه خلاف بين الصحابة ومن بعدهم، وإن كان غير مسلم فإن كان في بلادنا فهو مستأمَن، وإن كان في بلاده فهو مواطن غافل لا جريرة له، وفي جميع الأحوال فإن نفوس هؤلاء مصونة يحرم التعدي عليها ويجب صيانتها. كما تكر هذه التفجيرات بالبطلان أيضًا على مقصد حفظ الأموال؛ فلا يخفى ما ينتج عنها من إتلاف للأموال والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وإتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه، وتزداد الحرمة وتتضاعف إذا كان هذا المال المتلَف ليس مملوكًا للمتلِف بل هو مملوك لغيره كما هو الحال هنا، فتتعلق الحرمة بمخالفة نهي الشرع من جهة وبحقوق المخلوقين من جهة أخرى. كما أنه يلزم عنها مضار ومفاسد شنيعة، فمدار الشريعة المطهرة على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتعطيلها، ولا يخفى على كل ذي لُبٍّ ما تجره هذه الأعمال التخريبية من مفاسد على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ منها أنها تستعمل تُكَأَةً وذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد الإسلامية والتسلط عليها واستغلال خيراتها وانتهاب مواردها بحجة ملاحقة الإرهاب أو المحافظة على المصالح الاقتصادية أو تحرير الشعوب، فمن أعان هؤلاء على تحقيق مقصدهم وبلوغ مأربهم بأفعاله الخرقاء فقد فتح على المسلمين وبالا وشرًّا، وفتح للتسلط على بلاد الإسلام ثغرًا، وأعان على انتقاص المسلمين وضعف قوتهم، وهذا من أعظم الإجرام. ومن المفاسد العظيمة أن هذه الأفاعيل الدنيئة الخارجة عن تعاليم الإسلام ونبله تزيد من ترسيخ الشائعات والاتهامات الباطلة التي يلصقها أعداء المسلمين بدين الإسلام ويريدون بها تشويه صورته مِن أنه دين همجي دموي غايته قهر الشعوب والفساد في الأرض، وهذا كله من الصد عن الله وعن دين الله. ومن المفاسد العظيمة أيضًا ما يترتب على ذلك من تعريض المسلمين الموجودين في بعض البلدان الأجنبية للاضطهاد والتنكيل من قِبل المتعصبين، فيتعرضون للإيذاء الشديد في أنفسهم وذويهم وأموالهم وأعراضهم، وقد يضطر بعضهم إلى الإسرار بدينه أو التخلي عن بعض الشعائر والفرائض، كل هذا بسبب هذه الأعمال الخرقاء التي قام بها هؤلاء الجهلة الذين لا يدرون ما يريدون ولا ما يراد بهم، ويتقحمون موارد الهلكة وهم يظنون أنهم يطبقون الشرع، وهم بذلك ينالهم نصيب من قول الله تعالى: { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا } [الكهف: 104]. وقد نص العلماء [على] أنه لو تعارضت المصلحة مع المفسدة فإن دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، وكلام علمائنا هذا في المصالح المحققة فكيف إذا كانت المصلحة متوهَّمة أو معدومة؟ أما ما يقوله هؤلاء الأغرار من أن هذه الأعمال من باب الجهاد والنكاية في العدو وقد يسميها بعضهم بالغزوات فهو محض جهل ومغالطة؛ فالجهاد المشروع في الإسلام هو ما كان تحت راية وبإذن الإمام، وإلا لآل الأمر للفوضى وإلى إراقة برك الدماء بغير حق بحجة الجهاد، والجهاد في الإسلام إنما هو لتحقيق غايتين اثنتين:
الأولى: الدفاع عن المسلمين، قال تعالى: { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ } [البقرة: 190].
الثانية: الدفاع عن حرية الناس في الإيمان بالإسلام أو البقاء على ما هم عليه، وهذه هي الفتنة التي أُمرنا أن نقاتل حتى نرفعها عن الناس؛ ليختاروا دينهم بحرية كاملة، قال تعالى: { وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ } [البقرة: 193].
ومن الواضح أن الجهاد لتحقيق هاتين الغايتين لا يكون إلا ضدَّ عدو خارجي. أما استعمال القتل والترويع وتدمير الممتلكات داخل المجتمع المسلم، كما هو الحال في الأعمال التفجيرية في بلاد المسلمين فيسمى عند الفقهاء بـ"الحرابة"، والحرابة بغي وإفساد في الأرض، والمتلبس بها مستحق لأقصى عقوبات الحدود من القتل والسرقة والزنا؛ لأنه إفساد منظَّمٌ يتحرك صاحبه ضد المجتمع. قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. ولا يجوز ذلك أيضًا في الدول والمجتمعات غير المسلمة، فإذا انضاف إلى ذلك وجود المعاهدات الدولية بينهم وبين المسلمين وأنهم يفتحون باب الدعوة للمسلمين كما يفعلون ذلك مع غير المسلمين فإن القيام بهذه العمليات الإجرامية أشد حرمة وأكثر فسادًا، بل إنه حتى مع قيام الحرب الفعلية فإن التعميم في القتال غير جائز؛ إذ لا يجوز قتل النساء غير المقاتلات والأطفال والشيوخ العجزة والعُسَفَاء وهم الأُجَراء الذين يعملون في غير شؤون القتال، قال تعالى: { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ } [البقرة: 190]، وقد نقل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هذه الآية محكمة لم تنسخ، قال: لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيؤون لقتالكم، أي: لا تقاتِلوا الشيوخ والنساء والصبيان. اهـ.
وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث أميرًا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا». وروى أحمد في مسنده عن المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع أخي حنظلة الكاتب أنه أخبره «أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما كانت هذه لتقاتل، فقال لأحدهم: الحق خالدًا، فقل له: لا تقتلن ذرية ولا عسيفًا». وقال الإمام النووي في شرح مسلم: أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا. اهـ.
وإذا اعتبرنا أن العلة في القتال هي المحاربة فإن كل من لا يقاتل يلحق بما ورد ذكره في النصوص الشرعية كالأعمى والمريض المزمن والمعتوه والفلاح وأمثالهم، وهؤلاء هم ما يسمون في المصطلح المعاصر بـ "المدنيين" فلا يجوز إذايتهم ولا إتلاف أموالهم فضلا عن قتلهم، فقتل المدنيين من الكبائر. ومن مغالطات هؤلاء البغاة وشبههم التي يبررون بها فسادهم وإفسادهم: قياس قتل السياح بما فيهم من النساء والأطفال على مسألة التترس التي يذكرها العلماء. وهذا قياس فاسد؛ لأن الفرق واضح بين صورة التترس التي ذكرها الفقهاء والصورة التي يحاول فيها هؤلاء تبرير أفعالهم الإجرامية، فحالة الحرب التي يقوم أثناءها العدو بالتترس بالنساء والصبيان أو المسلمين لمنع قوات المسلمين من مهاجمتهم إنما هي حالة ضرورة، ومع هذا إذا لم تدع ضرورة لقتل الترس تركنا قتله، والضرورة لها ضوابط واضحة وقاطعة ذكرها الفقهاء، وأما القصد ابتداءً إلى جماعة من السياح فيهم رجال ونساء وأطفال وقتلهم قتلا عامًّا خيانةً وغدرًا دون تترس ولا ضرورة لقتلهم، فهو عدوان محض لا تتحقق فيه صورة التترس ولا شيء من المعاني المراعاة فيه، ولو تركوهم كلهم لأجل مَن فيهم من النساء والأطفال فلن يتسبب ذلك في منع الجهاد ولا في جعله طريقا إلى الظفر بالمسلمين. وكلام علماء الشريعة في مسألة التترس بالمسلمين إنما هو إذا دعت الضرورة، وكان ذلك حال التحام القتال، ولا علاقة لذلك بما يروج له البغاة والمرجفون. وهؤلاء الذين يقومون بتلك الأعمال الانتحارية هم في الحقيقة يتلاعبون بالدين والشريعة وقواعدها المستقرة، ويعتمدون على المغالطات الفقهية والتلبيس على الناس، مع الجهل الفاضح بأصول الاستدلال والترجيح بين الأدلة الشرعية، واتباع الهوى في فهم الشريعة تقييدًا وإطلاقا خلافًا لِمَا جرى عليه علماء الشريعة. وفكرهم فكر فاسد ومنحرف يسعى لتأصيل الإسراف في سفك الدماء التي عصمتها الشريعة الإسلامية. ورغم الدعاوى العريضة بالجهاد وتوزيع الاتهامات الجزافية على من يخالفهم في الرأي، فإن نتيجة ما يقوم به هؤلاء البغاة إنما هي سقوط الدول الإسلامية تحت نِير الاستعمار العسكري، ومَلْءُ القبور والسجون من المسلمين الأبرياء، وأعمالهم الفاسدة هذه تصب في صالح أعداء الأمة الإسلامية، وقد جرَّت الوبال والمصائب التي تسببت في مقتل مئات الألوف من المسلمين، فالقول بأنهم يدافعون عن المسلمين هو مجرد دعوى كاذبة، بل هم يقتلون المسلمين ويشردونهم بأضعاف ما يفعل غير المسلمين بهم، فهم لم يدفعوا بما ادعوه من جهاد عن المسلمين عدوًّا، بل جرُّوا عداوة الأمم على المسلمين واستعْدَوْهم عليهم، وزادت الأمة بما يفعلونه ضعفا. والحقيقة التي ينبغي ألا يغفل عنها المسلمون أن هؤلاء مبتدعة وبغاة وأصحاب هوى، ومثل هؤلاء لا يؤخذ عنهم العلم أصلا ولا فرعا؛ لأنهم أصحاب بدع وأهواء ومخالفة لعقائد أهل السنة والجماعة، خاصة أنهم يدعُون إلى بدعهم وأهوائهم ويحاربون عليها، ويجب على ولاة أمور المسلمين أن يعملوا على رد الجاهل الذي لم يحمل منهم السلاح إلى رشده بالحسنى والقول السديد، أما من حمل منهم السلاح فهو باغٍ يقاتَل حتى تُكسَر شوكتُه ويكفى الإسلامُ والمسلمون شرَّه. ومما سبق وفي واقعة السؤال: يُعلَم أن تأشيرة الدخول هي عقد أمان يوجب الأمان لطرفيه، فلا يجوز الغدر ولا الخيانة من الطرفين، وأن الجهاد فريضة محكمة إلى يوم القيامة، وأن ما تقوم به الجيوش النظامية اليوم في بلاد الإسلام من حماية الحدود وتأمين الثغور وقوى الردع هو قيام بجانب فرض الكفاية فيه وأداء لما ترى أنه في استطاعتها منه، وأن ذلك يرفع عن الجهاد وصفَ الفريضة الغائبة، وحتى لو كان هناك تقصير في الجهاد مِن قِبَل حكام المسلمين فإنه لا يبرر بحال من الأحوال هذه الأعمال التخريبية التي تهلك الأخضر واليابس، وأنه إذا مُكِّنت الدعوة للإسلام ولم تُمنَع فلا يُلجَأُ إلى القتال، وأن التفجيرات والأعمال الانتحارية التي يُقصَد بها غيرُ المسلمين الذين يزورن بلاد المسلمين لأغراض غير حربية أو في بلادهم التي دخلناها بتأشيرات الدخول هي حرام وغدر وخيانة لا علاقة لها بالإسلام، وليست هي من الجهاد الشريف أو الحرب المشروعة في الإسلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم
فرقة البهائية أو البابية والقاديانية
المبــادئ
1- البهائية أو البابية مذهب مصنوع مزيج من أخلاط الديانات البوذية والبرهمية والوثنية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام ومن اعتقادات الباطنية.
2- البهائيون لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ولا بالجنة ولا بالنار.
3- أجمع المسلمون على أن العقيدة البهائية أو البابية ليست عقيدة إسلامية، وأن من اعتنقها ليس من المسلمين، ويصير بهذا مرتدا عن دين الإسلام.
4- من عقائد القاديانية الباطلة أن النبوة لم تختم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صريح.
5- القاديانية لعبة استعمارية خبيثة، تظاهرت بالانتماء إلى الإسلام والإسلام منها براء.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 593 لسنة 2004م المتضمن السؤال عن موقف الإسلام من البهائية والبابية والقاديانية.
الجــــــــــواب
سبق لدار الإفتاء المصرية أن بينت موقف الإسلام من البهائية والبابية في فتواها رقم 329 لسنة 1980م بأن:
البهائية أو البابية طائفة منسوبة إلى رجل يدعى ميرزا علي محمد الملقب بالباب، وقد قام بالدعوة إلى عقيدته في عام 1260هـ - 1844م معلنا أنه يستهدف إصلاح ما فسد من أحوال المسلمين وتقويم ما اعوج من أمورهم، وقد جهر بدعوته بشيراز في جنوب إيران وتبعه بعض الناس، فأرسل فريقا منهم إلى جهات مختلفة من إيران للإعلام بظهوره، وبث مزاعمه التي منها أنه رسول من الله، ووضع كتابا سماه "البيان" ادعى أن ما فيه شريعة منزلة من السماء، وزعم أن رسالته ناسخة لشريعة الإسلام، وابتدع لأتباعه أحكاما خالف بها أحكام الإسلام وقواعده؛ فجعل الصوم تسعة عشر يوما، وعيَّن لهذه الأيام وقت الاعتدال الربيعي بحيث يكون عيد الفطر هو يوم النيروز على الدوام، واحتسب يوم الصوم من شروق الشمس إلى غروبها، وأورد في كتابه "البيان" في هذا الشأن عبارة: "أيام معدودات وقد جعلنا النيروز عيدا لكم بعد إكمالها"، وقد دعا مؤسس هذه الديانة إلى مؤتمر عقد في بادية "بدشت" في إيران عام 1264هـ - 1848م أفصح فيه عن خطوط هذه العقيدة وخيوطها، وأعلن خروجها وانفصالها عن الإسلام وشريعته، وقد قاوم العلماء في عصره هذه الدعوة وأبانوا فسادها وأفتوا بكفره، واعتقل في شيراز ثم في أصفهان، وبعد فتن وحروب بين أشياعه وبين المسلمين عوقب بالإعدام صلبا عام 1265هـ، ثم قام خليفته ميرزا حسين علي الذي لقب نفسه بهاء الله، ووضع كتابا سماه "الأقدس" سار فيه على نسق كتاب "البيان" الذي ألفه زعيم هذه العقيدة ميرزا علي محمد، ناقض فيه أصول الإسلام، بل ناقض سائر الأديان، وأهدر كل ما جاء به الإسلام من عقيدة وشريعة، فجعل الصلاة تسع ركعات في اليوم والليلة، وقبلة البهائيين في صلاتهم التوجه إلى الجهة التي يوجد فيها ميرزا حسين المسمى بهاء الله، فقد قال لهم في كتابه هذا: "إذا أردتم الصلاة فولوا وجوهكم شطري الأقدس"، وأبطل الحج، وأوصى بهدم بيت الله الحرام عند ظهور رجل مقتدر شجاع من أتباعه، وقال البهائية بمقالة الفلاسفة من قبلهم، قالوا بقدم العالم: "علم بهاء أن الكون بلا مبدأ زمني فهو صادر أبدي من العلة الأولى، وكان الخلق دائما مع خالقهم وهو دائما معهم"، ومجمل القول في هذا المذهب -البهائية أو البابية- أنه مذهب مصنوع، مزيج من أخلاط الديانات البوذية والبرهمية الوثنية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام ومن اعتقادات الباطنية "كتاب مفتاح باب الأبواب للدكتور ميرزا محمد مهدي خان طبع مجلة المنار سنة 1321هـ."
والبهائيون لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ولا بالجنة ولا بالنار، وقلدوا بهذا القول الدهريين، ولقد ادعى زعيمهم الأول في تفسير له لسورة يوسف أنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل كتابه "البيان" على القرآن، وهم بهذا لا يعترفون بنبوة سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين وبهذا ليسوا من المسلمين؛ لأن عامة المسلمين كخاصتهم يؤمنون بالقرآن كتابا من عند الله، وبما جاء فيه من قول الله سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وقد ذكر العلامة الألوسي في تفسيره -ج22 ص41- لهذه الآية: "أنه قد ظهر في هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول"، ثم قال الألوسي: "وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب وصدعت به السنة وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر"، ومن هنا أجمع المسلمون على أن العقيدة البهائية أو البابية ليست عقيدة إسلامية، وأن من اعتنق هذا الدين ليس من المسلمين، ويصير بهذا مرتدا عن دين الإسلام، والمرتد هو الذي ترك الإسلام إلى غيره من الأديان قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]، وأجمع أهل العلم بفقه الإسلام على وجوب قتل المرتد إذا أصر على ردته عن الإسلام؛ للحديث الشريف الذي رواه البخاري وأبو داود: «من بدل دينه فاقتلوه»، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، انتهت الفتوى.
على أن القاديانية طائفة منسوبة إلى قرية قاديان إحدى قرى مقاطعة البنجاب بالهند، وقد أسسها رجل يدعى غلام أحمد القادياني وهو من الفرس أو المغول، ويقال إن آباءه من سمرقند، وقد ولد سنة 1839م في قرية قاديان، ونشأ في أسرة خائنة عميلة للاستعمار، حيث كان أبوه غلام مرتضى صاحب رابطة وثيقة بالحكومة الإنجليزية، وكان صاحب كرسي في ديوانها، وفي سنة 1851م انضم أبوه إلى معاونة الإنجليز ضد بني قومه ودينه، وأمدهم بخمسين جنديًّا وخمسين فرسًا، وبعد أن درس غلام أحمد بعض الكتب الأردية والعربية، وقرأ جانبًا من القانون شغل وظيفة في بلدة "سيالكوت"، ثم أخذ ينشر كتابه "براهين أحمدية" في عدة أجزاء، وكان قد بدأ دعوته الأثيمة سنة 1877م، وفي سنة 1885م أعلن أنه مجدد، وفي سنة 1891م ادعى أنه المهدي وأنه المسيح الموعود، وأخذ يقول: "أنا المسيح وأنا كليم الله، وأنا محمد وأحمد الذي اجتباه الله"، وفي (هذا) فوق ادعائه النبوة يزعم لنفسه أنه هو موسى وعيسى ومحمد معًا، ولذلك كان يدعي أنه أفضل من جميع الأنبياء.
ومات غلام أحمد في 26 مايو سنة 1908م في مدينة لاهور ودفن في قرية قاديان، وكان القادياني ماكرًا في مزاعمه وتضليله، فهو حين ابتدع القاديانية وحمل كبر الإثم فيها، لم يجاهر بعداوة الإسلام، ولم يصرح بالخروج عليه، بل بدأ بمظهر التجديد والتطوير، ثم انتقل إلى فكرة المهدوية، ثم انتقل إلى ادعاء أنه يوحى إليه لا على أنه نبي مستقل مرسل بل على أنه نبي متابع كهارون بالنسبة لموسى -عليهما السلام-، ثم أخذ في تأويل نصوص القرآن الكريم تأويلا منحرفًا فاسدًا؛ لتحقيق مآرب لديه، ثم تعاون تعاونًا بعيدًا مع الاستعمار والمحتلين، وأصدر فتواه الأثيمة بأن الجهاد قد انتهى وأصبح منسوخًا، ولذلك لا يجوز رفع السلاح من المسلمين ضد الإنجليز المحتلين للهند، بحجة أنهم خلفاء الله في الأرض، وقد جاء بعده ابنه وخليفته من بعده -واسمه محمود- ليروج مزاعم أبيه ويواصل مسيرة الكفر من بعده فيقول: "إننا نكفر غير القاديانيين؛ لأن القرآن يخبرنا أن من ينكر أحدًا من الرسل يكفر، وعلى هذا من ينكر أن غلام أحمد نبي رسول يكفر بالله"، وجاء ابنه الثاني ليزيد الطين بلة فقال: "كل من يؤمن بموسى ولا يؤمن بعيسى أو يؤمن بعيسى ولا يؤمن بمحمد فهو كافر، وكذلك من لا يؤمن بغلام أحمد فهو كافر"، وتزعم كتب القاديانية أن الله أوحى إلى غلام أحمد فقال له: "الذي يحبني ويطيعني وجب عليه أن يتبعك ويؤمن بك، وإلا لا يكون محبًّا لي، بل هو عدو لي، وإن أراد منكروك ألا يقبلوا هذا بل كذبوك وآذوك فنجزيهم جزاء سيئًا، وأعتدنا لهؤلاء الكفار جهنم سجنًا لهم". ومن عقائد القاديانية الباطلة أن النبوة لم تختم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بل تقول القاديانية: "نعتقد أن الله لا يزال يرسل الأنبياء لإصلاح هذه الأمة وهدايتها على حسب الضرورة"، وهذا كفر صريح مخالف لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي» رواه البخاري، ومن فسق القاديانية تهجمها على مقام الأنبياء والرسل، وعلى الخلفاء الراشدين، والصحابة الطاهرين، وتطاولها على حرمة سيِّدَي شباب أهل الجنة الحسن والحسين، فيقول مبتدع القاديانية مثلا: "يقولون عني بأني أفضِّل نفسي على الحسن والحسين، فأنا أقول: نعم، أنا أفضِّل نفسي عليهما، وسوف يُظهر الله هذه الفضيلة"، ومن ضلال القاديانية تحريفهم وتخريفهم في تأويل آيات القرآن المجيد، والأمثلة على ذلك يضيق عنها هذا المجال لكثرتها، ومنها أنهم يعلقون على الآية الكريمة من سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، فيقولون: "إن المقصود من المسجد الأقصى هنا ليس هو مسجد بيت المقدس كما أجمع أهل التفسير والتاريخ، بل المراد به هو مسجد قاديان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسري به إلى هذا المسجد الذي يقع في شرقي قاديان"، ويشبه غلام أحمد هذا المسجد ببيت الله الحرام، ويزعم أن مسجد قاديان هو الذي أنزل الله تعالى فيه قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، ومن تخريفه في تأويل القرآن الكريم أنه يتعرض لقول الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، فيزعم لنفسه أنه المراد بمحمد، فيقول المخبول: "محمد هنا هو أنا؛ لأن الله سماني في هذا الوحي محمدًا ورسولا، كما سماني بهذا الاسم في عدة مقامات أخرى"، ولم يتورع عن تسجيل هذا في كتابه "تبليغ رسالة"، ويواصل سفاهته حينما يقول: "أنا المقصود بقول القرآن: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ويقول كذلك: أنا المقصود بقول القرآن في سورة الصف: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
ومن فجور القاديانية أنها حاولت صرف أتباعها عن منزل الوحي وعن الكعبة المشرفة وعن المسجد الحرام، فاتخذت من قرية "قاديان" قبلة وكعبة لهم بدل الكعبة المطهرة في مكة، وجعلوا فريضة الحج في نحلتهم الضالة هي حضور المؤتمر السنوي للقاديانية في قرية قاديان، ويقول كبيرهم غلام أحمد: "المجيء إلى قاديان هو الحج"، وكذلك بنى القاديانيون مدينة صغيرة في باكستان الغربية وسموها "ربوة" وجعلوها مركزًا لدعوتهم، وألقوا عليها ظلالا من الهيبة والتقديس، ويزعم غلام أحمد أنه قد نزل عليه من عند الله قرآن اسمه "الكتاب المبين"، وأنه قد نزل عليه أكثر مما نزل على الأنبياء، وقد نشر طائفة من الكتب الخبيثة المليئة بالمزاعم والأوهام ومنها هذه الكتب: براهين أحمدية، وإزالة الأوهام، وحقيقة الوحي، وسفينة نوح، وتبليغ رسالة، وخطة إلهامية. ومن تضليل القاديانية أنها تسمي نفسها "الأحمدية" تمويهًا وتضليلا وإيحاءً كاذبًا بأنهم ينتسبون إلى "أحمد" الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد لجأ القادياني إلى توهين شوكة المسلمين أمام المستعمرين، وإلغاء الجهاد ضد المحتلين، ولذلك أخذ يدعو بأنه لا جهاد في الإسلام بعد الآن، ويعلل لذلك فيقول: "إن الله خفف شدة الجهاد في سبيل الله بالتدريج، فكان يبيح قتل الأطفال في عهد موسى، وفي عهد محمد ألغى قتل الأطفال والشيوخ والنساء، ثم ألغى الجهاد نهائيًّا في عهدي"، ويقول: "اليوم أُلغي حكم الجهاد بالسيف ولا جهاد بعد هذا اليوم، فمن يرفع بعد ذلك السلاح على الكفار ويسمي نفسه غازيًا يكون مخالفًا لرسول الله الذي أعلن قبل ثلاثة عشر قرنًا إلغاء الجهاد في زمن المسيح الموعود، فأنا المسيح، ولا جهاد بعد ظهوري الآن، فنحن نرفع علم الصلح وراية الإحسان"، ويعود ليقول في موطن آخر: "إني أفنيت أكثر حياتي في تأييد الحكومة الإنجليزية ومخالفة الجهاد، وما زلت أجتهد حتى صار المسلمون أوفياء مخلصين لهذه الحكومة"، ولم يكتف غلام أحمد المتنبئ القادياني بما ابتدعه واخترعه واصطنعه من تحريف للدين، بل قال كذلك إن الصلاة لا تجوز خلف أي مسلم، بل لا بد أن يكون قاديانيًّا، ونص عبارته هي: "هذا هو مذهبي المعروف، أنه لا يجوز لكم أن تصلوا خلف غير القادياني، مهما يكن ومن يكن، ومهما يمدحه الناس، فهذا حكم الله وهذا ما يريده الله، وإن المتشكك والمذبذب داخل في المكذبين، والله يريد أن يميز بينكم وبينهم"، والقاديانية تأخذ بالتقية والمخادعة، فيجيزون أحيانًا الصلاة خلف غير القادياني للمصلحة بشرط إعادة الصلاة مرة أخرى، ولقد كتب شاعر الإسلام محمد إقبال سلسلة مقالات في بيان أكاذيب القاديانية وكشف أضاليلهم وأباطيلهم، وكان ذلك في وسط الثلاثينيات من القرن الماضي، وكتب غيره من العلماء والدعاة والباحثين، ولكن القاديانية ظلت على غيها وبغيها يساندها الاستعمار، واستغلت القاديانية قلة الوعي الإسلامي وانتشار الجهل بالدين فيما حولها، وتأثير الأحوال الاجتماعية المختلفة وتهيئتها الجو المناسب لتقبل الخرافات والجهالات والأوهام.
وخلاصة القول في القاديانية: أنها لعبة استعمارية خبيثة، تظاهرت بالانتماء إلى الإسلام، والإسلام منها براء، وقد استطاع المكر الاستعماري أن يسخر هذه النحلة الضالة المضلة لتحقيق أغراضه التي كانت تعمل دائمًا على تشويه الإسلام وإضعاف المسلمين، ولكن الإسلام سيبقى على الرغم من أعدائه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
والله سبحانه وتعالى أعلم
طاعة الضابط لرؤسائه إذا أمروه بحلق لحيته
السؤال
ما مدى أحقية الجهة النظامية -كالشرطة- في إلزام الضابط أو الفرد بعدم إطلاق لحيته لتعارض ذلك مع الحياة النظامية، وضرورة إلزامه بالتعليمات التي تصدر إليه من رؤسائه إنفاذًا للقانون؟
الجواب
اللحية: هي اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين والذقن [المُحْكَم لابن سِيده 3/ 444، ط. دار الكتب العلمية].
وهي من الشعائر الدينية المطلوبة شرعًا من الرجال؛ وذلك لما رواه البخاري ومسلم -واللفظ له- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى»، وقد ورد الأمر بإعفاء اللحية في الحديث الشريف بألفاظ مختلفة، تتبعها الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم [3/ 151، ط. دار إحياء التراث العربي] فأوصلها إلى خمس روايات؛ وهي: «أعفوا»، و«أوفوا»، و«أرخوا»، و«أرجوا»، و«وفروا».
وروى مسلم أيضًا عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -أي: الاستنجاء-»، قال مصعب بن شيبة -أحد الرواة في سند الحديث-: "ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة".
وقد اتفقت المذاهب الأربعة المتَّبعة على أن أصل إعفاء اللحية مطلوب شرعي، ثم اختلفوا في درجة الطلب: هل هو طلب جازم؟ -فيكون الإعفاء واجبًا؛ بمعنى أنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه- أو هو طلب غير جازم؟ -فيكون الإعفاء مندوبًا مستحبًّا؛ بمعنى أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويكون ضِدُّه -وهو الحلق- مكروهًا؛ بمعنى أنه لا يعاقب فاعله ويثاب تاركه قصدًا.
فذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة في معتمدات مذاهبهم إلى وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها.
قال العلامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" [6/ 407 -مع حاشية ابن عابدين-، ط. دار الكتب العلمية]: "يَحْرُم على الرجل قطع لحيته" اهـ.
ولكنهم قالوا أيضًا: إن من كانت على ذقنه شعرات معدودات -وهو ما يسمى بالكَوسَج- فإن إزالها له إنسان فإنه لا يلزمه ضمانها، ويستفاد من كلامهم وتعليلهم لذلك أن إزالتها حال كونها هكذا لا حرمة فيه؛ جاء في "الهداية" وشرحها "العناية" للعلامة البابرتي [10/ 281، ط. دار الفكر]: "(ولحية الكَوسج إن كان على ذقنه شعرات معدودة فلا شيء في حلقه)؛ لأن وجوده يشينه ولا يزينه" اهـ.
قال المطرزي في "المُغرب" [ص: 407، ط. دار الكتاب العربي]: "(الكَوسَج): مُعَرَّب، وهو الذي لحيته على ذقنه لا على العارضين" اهـ.
أما المالكية: فقد قال العلامة الشيخ محمد عليش المالكي في "منح الجليل" [1/ 82، ط. دار الفكر]: "ويَحْرُم على الرجل حلق اللحية" اهـ، ومثله في حاشية العلامة الدسوقي على الشرح الكبير لسيدي أحمد الدردير [1/ 90، ط. دار إحياء الكتب العربية].
وقال الشيخ البُهُوتي في "شرح منتهى الإرادات" من كتب الحنابلة [1/ 44، ط. عالم الكتب]: "ويعفي لحيته ويحرم حلقها" اهـ.
وهذا هو اختيار جماعة من الشافعية منهم: القفال الشاشي، وتلميذه الحليمي، وابن الرِّفعة -وحكاه عن نص الأم-، والأَذرَعي، والزركشي، وكذلك العلامة ابن زياد اليماني في فتاواه، والشيخ زين الدين الملِّيباري صاحب "فتح المعين" [انظر: حاشية ابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج لابن حجر 9/ 376، 377، ط. دار إحياء التراث العربي، مختصر المُهِمّات للزركشي ل/ 136-مخطوط بمكتبة عاطف أفندي بإستنبول برقم 1050، غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد ص81 بهامش بُغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأئمة من العلماء المتأخرين كلاهما للسيد عبد الرحمن بن محمد بن عمر المشهور باعلوي مفتي الديار الحضرمية، فتح المُعين مع شرحه إعانة الطالبين للدمياطي 2/ 386، ط. دار الفكر].
وعمدة هؤلاء: حديث الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»؛ وهذا الحديث دالٌّ على الوجوب عندهم من وجهين: الأول: من حيث الأمر، والأصل في الأمر إفادة الوجوب.
والثاني: تعليل هذا الأمر بمخالفة المشركين، والتشبه بهم حرام ومخالفتهم واجبة؛ لما رواه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بقَوم فهو مِنهُم».
أما مذهب الشافعية فالمفتى به فيه هو استحباب إعفاء اللحية وكراهة حلقها؛ قال الإمام سراج الدين بن الملقن في كتابه: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" [1/ 712، ط. دار العاصمة]: "المعروف في المذهب الكراهة" اهـ.
وهذا هو ما اعتمده شيخا المذهب: الإمام أبو القاسم الرافعي والإمام محيي الدين النووي، ثم شيخا المتأخرين: الإمام شمس الدين محمد الرملي والإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي، ومعهم خلق من علماء المذهب الذين أُلقِيَت إليهم مقاليد الترجيح والاعتماد فيه، وصارت معرفة الراجح من المرجوح والمفتى به من عدمه مرهونةً بهم ومُعتَمِدةً عليهم.
قال العلامة ابن حجر في "شرح العباب": "قال الشيخان -يعني: الرافعي والنووي- يُكرَه حلق اللحية" اهـ [بواسطة حاشية ابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج لابن حجر 9/ 376 -بهامشها مع حاشية الشَّرْواني-، ط. دار إحياء التراث العربي].
وهذا هو صريح عبارة الإمام النووي في كتابه "التحقيق" [ل/7-مخطوط بمكتبة الأزهر الشريف 2820/ 104501-فقه عام] حيث قال: "ويكره تنقية شيب، وأخذ من حاجب ولحية وعنفقة، وتبييضه، وتصفيف لحية وعقدها وحلقها ونتفها -لا سيما أول طلوعها-، وحفها" اهـ.
ونحوه في "شرح مسلم" [3/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي]؛ حيث عَدّ حلقَ اللحية مِن الخصال المكروهة.
وقبل هؤلاء جميعًا: حجة الإسلام الغزالي؛ كما يستفاد ذلك من كلامه في "إحياء علوم الدين" [1/ 143، ط. دار المعرفة بيروت]؛ حيث نَصّ على أن في اللحية عشر خصال مكروهة، ذكرها، وعد منها: نتفها. والنتف في معنى الحلق، بل هو أبلغ منه؛ لأن الحلق يبقي على أصول الشعر بينما النتف يقتلعه من جذوره.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" [1/ 551، ط. دار الكتاب الإسلامي]: "(و) يكره (نتفها) أي: اللحية أول طلوعها إيثارًا للمرودة وحسن الصورة" اهـ.
قال الإمام شهاب الدين أحمد الرملي في حاشيته عليه معلقًا: "قوله: (ويكره نتفها أي: اللحية... إلخ) ومثله: حلقها؛ فقول الحليمي في منهاجه: لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه. ضعيف" اهـ.
وجاء في فتاوى الشهاب الرملي أيضًا [4/ 69، ط. المكتبة الإسلامية] أنه سئل: هل يحرم حلق الذقن ونتفها أو لا؟ فأجاب بأن: "حلق لحية الرجل ونتفها مكروه لا حرام، وقول الحليمي في منهاجه: لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه. ضعيف" اهـ.
وقال ابنه الإمام المحقق شمس الدين محمد الرملي في "نهاية المحتاج" [8/ 149، ط. دار الكتب العلمية]: "ويُندَب فرق الشعر وتسريح اللحية، ويُكرَه نتفها وحلقها" اهـ.
ونَصَّ الإمام ابن حجر في "تحفة المحتاج" [9/ 376، ط. دار إحياء التراث العربي] على أن القول بحرمة نتف اللحية وحلقها خلاف المعتمد، ويأتي نص كلامه قريبًا -إن شاء الله-.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "الإقناع" [4/ 346 -مع حاشية البجيرمي- ط. دار الفكر]: "ويكره حلق اللحية أول طلوعها إيثارًا للمرودة" اهـ.
قال مُحَشّيه العلامة البجيرمي: "قوله: (أول طلوعها) ليس قيدًا، وكذا الكبير أيضًا، أي: إن حلق اللحية مكروه -حتى من الرجل- وليس حرامًا، ولعله قَيَّد به لقوله: (إيثارًا للمرودة)" اهـ.
وقال العلامة شهاب الدين القليوبي في حواشيه المفيدة على شرح المحلي للمنهاج [4/ 205 -بهامش المحلي مع حاشية عميرة-، ط. مصطفى الحلبي]: "الأصح أنه يُكره حلقها -أي: اللحية- لنفسه من نفسه" اهـ.
ولا يُشَغَّب على كون هذا الحكم هو المعتمد ما قيل من أن للإمام الشافعي كلامًا في "الأم" يستفاد منه حرمة الحلق، أو ما تقدم من اختيار بعض علماء الشافعية، وذلك لأن هؤلاء المتأخرين إما من المتقدمين على الشيخين، وإما ممن جاء بعدهم؛ أما المتقدمون على الشيخين -كالقفال والحليمي-؛ فإن الإفتاء من كتب المتقدمين على أن ما فيها هو المذهب ممنوع.
قال الإمام النووي في "المجموع" [1/ 81، ط. المنيرية]: "لا يجوز لمُفتٍ على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين؛ لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح؛ لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي، ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفَين المذكورَين ونحوهما هو مذهب الشافعي أو الراجح منه؛ لما فيهما من الاختلاف، وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أُنْس بالمذهب، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب ومخالف لما عليه الجمهور، وربما خالف نص الشافعي أو نصوصًا له" اهـ.
على أن كلام القفال والحليمي قابلٌ لأن يكون موافقًا للقول بالكراهة إن كان بلفظ: "لا يحل"؛ حملا له على معنى عدم الحل الذي يعم المكروه؛ فإن المكروه ليس حلالا بمعنى أنه ليس مباحًا، وقد أشار إلى نحو هذا المُحَقِّق ابن حجر؛ حيث قال في "التحفة" [9/ 375، 376]: "(فرع) ذكروا هنا في اللحية ونحوها خصالا مكروهة؛ منها: نتفها وحلقها، وكذا الحاجبان، ولا ينافيه قول الحليمي: (لا يحل ذلك)؛ لإمكان حمله على أن المراد نفي الحِلِّ المستوي الطرفين. والنص على ما يوافقه إن كان بلفظ: (لا يحل) يحمل على ذلك، أو (يحرم) كان خلاف المعتمد" اهـ.
وأما المتأخرون عن الشيخين، فإن كلامهم لا يقدم على كلام الشيخين كما هو المستقر في المذهب؛ جاء في كتاب "الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية" للسيد علوي السقاف مفتي السادة الشافعية بمكة المحمية في القرن الماضي [ص: 36، ضمن مجموعة سبعة كتب مفيدة]: "قال الشيخ ابن حجر وغيره من المتأخرين: "قد أجمع المحققون على أن الكتب المتقدمة على الشيخين -يعني: الرافعي والنووي- لا يُعتَد بشيء منها إلا بعد كمال البحث والتحرير، حتى يغلب على الظن أنه راجح في مذهب الشافعي. ثم قالوا: هذا في حكم لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما، فإن تعرضا له: فالذي أطبق عليه المحققون أن المعتمد ما اتفقا عليه" اهـ.
وقال العلامة المحقق الشيخ محمد بن سليمان الكردي الشافعي في كتابه: "الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من أئمة الشافعية" [ص: 36، ط. دار الفاروق]: "الذي أطبق عليه محققو المتأخرين، ولم تزل مشايخنا يوصون به وينقلونه عن مشايخهم، وهم عمن قبلهم وهكذا: أن المعتمد ما اتفقا عليه -أي: الرافعي والنووي- أي: ما لم يُجمع متعقبو كلامهما على أنه سهو، وأَنّى به؟!" اهـ.
ويُعَيِّن كون القول بالكراهة هو معتمد مذهب الشافعية: أنه قد اعتمده شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وخاتمتا المتأخرين العلامة ابن حجر والشمس الرملي، ومعهم الخطيب الشربيني، وقد تقدم النقل عن بعضهم، وقال العلامة أبو بكر بن محمد شطا البكري الدمياطي في "إعانة الطالبين على حَلِّ ألفاظ فتح المعين" [2/ 386، ط. دار الفكر] -عند قول المليباري "ويحرم حلق لحية"-: "المعتمد عند الغزالي وشيخ الإسلام وابن حجر في التحفة والرملي والخطيب وغيرهم: الكراهة" اهـ.
قال العلامة الكردي في "الفوائد المدنية" [ص: 56]: "وإذا اجتمع شيخ الإسلام وابن حجر والشمس الرملي والشربيني فاعتمادهم لذي الرتبة أولى؛ لأن زكريا رحمه الله تعالى كان في الغاية من الاطلاع على المنقول، وابن حجر بمعرفته بالمُدرك واعتماد ما عليه الشيخان، والجمال الرملي بالتحري في النقل وتقرير كتبه من علماء الأئمة أهل مصر، ومثله الشربيني... ومثله الشهاب الرملي" اهـ.
وفي "الفوائد المكية" [ص: 37] نقلا عن الكردي أيضًا أنه قال: "علماء الزمازمة تتبعوا كلامهما فوجدوا ما فيهما عمدة مذهب الشافعي -رضي الله عنه-، وعندي لا تجوز الفتوى بما يخالفهما -أي: الرملي وابن حجر-، بل بما يخالف التحفة والنهاية، إلا إذا لم يتعرضا له فيفتى بكلام شيخ الإسلام ثم بكلام الخطيب... إلخ" اهـ.
ومن أهم أسباب تقديم كلام ابن حجر والرملي في كتابيهما: "التحفة" و"النهاية" واعتبار ما اعتمداه: هو أن هذين الكتابين قد قُرِءَا على علماء الشافعية فصححوهما وأَقَروا جملة ما فيهما من مسائل وأحكام.
قال العلامة السقاف في "الفوائد المكية" [ص: 37]: "ذهب علماء مصر أو أكثرهم إلى اعتماد ما قاله الشيخ محمد الرملي في كتبه خصوصًا في نهايته؛ لأنها قرأت على المؤلف إلى آخرها في أربعمائة من العلماء فنقدوها وصححوها، فبلغت صحتها إلى حد التواتر، وذهب علماء حضرموت والشام والأكراد وداغستان وأكثر اليمن والحجاز إلى أن المعتمد ما قال الشيخ ابن حجر في كتبه، بل في تحفته؛ لما فيها من إحاطة نصوص الإمام، مع مزيد تتبع المؤلف فيها، ولقراءة المحققين لها عليه الذين لا يحصون كثرة" اهـ.
أما ما نقله بعض المتأخرين عن الإمام نجم الدين بن الرفعة أنه ذكر في حواشي "الكفاية" أن الإمام الشافعي قد نَصَّ في "الأم" على حرمة الحلق فلا يصح أن يُعترض به على معتمد المذهب؛ وذلك لأن النص: هو اللفظ الدال في محل النطق إن أفاد معنى لا يحتمل غيره [جمع الجوامع بشرح المحلي مع حاشية العطار 1/ 308]، وابن الرفعة قد ادعى أن الشافعي قد نص على تحريم الحلق، ثم لم يُبْرِز لنا هذا النَّص، لنرى هل هو نصٌّ صريح في التحريم أو هو مجرد عبارة محتملة قد تتنازعها الأفهام؟ والشأن في مثل هذا أنه لو كان ثَمَّ نص صريح لذَكره ولاشتهر ذلك النص وتداولته الكتب، لا سيما وأنه في مسألة يُفتَرَض أن محرري المذهب قد خالفوا فيها المنصوص. ونحن لم نجد بعد التتبع نصًّا صريحًا يفيد ذلك المعنى في نسخة كتاب "الأم" التي بين أيدينا، وهي المطبوعة المدققة المحرَّرة المصحَّحة من قِبل شارحه الذي شرح ربع العبادات منه في خمسة وعشرين مجلدًا مخطوطًا في دار الكتب العامرة، وهو العلامة المحَقِّق الشيخ أحمد بك الحسيني -تلميذ شيخ الإسلام شمس الدين الإنبابي- بعد أن جمع نسخه المختلفة من الأقطار، ثم طبعه في المطبعة الأميرية عام 1326هـ؛ قال رحمه الله تعالى متحدثًا عما بذله في سبيل تصحيح متن كتاب "الأم" في مقدمة شرحه له المسمى: "مرشد الأنام إلى بِرِّ أُمِّ الإمام" [الجزء الأول من المقدمة- ل 10، مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 1522-فقه شافعي]: "فطلبتُ ذلك الكتاب -أي: الأم- من مظانّه، وركبت مطايا صدق العزيمة إلى مواضع إمكانه؛ لإحراز جواهره وجماله، والترجمة عن الحقائق الصادقة بلسانه، فلم أجد منه بالديار المصرية مع اتساع دور الكتب بها إلا بعض أجزاء مُحَرَّفة مُختَلَّة التركيب، لا يمكن فهم عبارة منها ولا التبويب، فوجهت وجهتي تلقاء غير مصر من الممالك وما فيها إلى خزائن الكتب من المسالك، فأوصلتني العناية الإلهية والرحمة الشاملة الربانية إلى غاية أحسبها غاية الغايات ونهاية أعتقدها أجمل النهايات، وهي: إحراز ذلك الكتاب على التمام؛ فلم أسمع بقطعة أو نسخة من الكتاب المذكور في جميع أقطار العالم إلا وبذلت إليها المساعي، حتى يسر الله لي نسخًا أمكن استخراج نسخة منها هي أصح النسخ، فتمت بها الأمالي، فسجدت لله شكرًا وملأت قلبي حمدًا له وذكرًا... إلخ" اهـ المراد.
أما ما زُعِم من أن نَصَّ الشافعي على التحريم: هو قوله في "الأم" [6/ 88]: "ولو حلقه حلاق فنبت شعره كما كان أو أجود لم يكن عليه شيء؛ والحِلاق ليس بجناية؛ لأن فيه نسكًا في الرأس وليس فيه كثير ألم، وهو وإن كان في اللحية لا يجوز فليس فيه كثير ألم ولا ذهاب شعر؛ لأنه يستخلف" اهـ، فهو زعم فاسد؛ لأن هذا النقل ليس بنَصٍّ في التحريم؛ وقد تقدم أن النَّصَّ: هو اللفظ الدال في محل النطق إن أفاد معنى لا يحتمل غيره، وهذا ما لا يتحقق في هذا النقل؛ لأن قوله: "وهو وإن كان في اللحية لا يجوز" يحتمل أن يراد به فعل الحلاق من حيث هو اعتداء على عضو الغير، أو يراد به خصوص الحلق من حيث هو. كما أن تعبيره بـ"لا يجوز" لا يفيد خصوص التحريم؛ لأنه صادق عليه وعلى الكراهة، فكلاهما يصح أن يوصف بأنه غير جائز.
ونظير ذلك قول الإمام الشافعي في "الأم" [1/ 281]: "ولا يجوز ترك صلاة الكسوف عندي لمسافر ولا مقيم، ولا لأحد جاز له أن يصلي بحال" اهـ.
قال الإمام النووي في "المجموع" [5/ 60، ط. المنيرية] بعد أن نقل عبارة "الأم" السابقة: "وقد يستشكل قوله: (لا يجوز ترك صلاة الكسوف)، ومعلوم أنها سُنَّة بلا خلاف. وجوابه: أن مراده: أنه يُكرَه تركها؛ لتأكدها؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة في الأمر بها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبروا وصَلُّوا وتصدقوا»، وفي رواية: «فافزعوا إلى الصلاة»، وفي رواية: «فصَلُّوا حتى يفرج عنكم»، وفي رواية: «فصَلُّوا حتى تنجلي»، وكل هذه الألفاظ في الصحيحين، فأراد الشافعي أنه يُكرَه تركها؛ فإن المكروه قد يوصف بأنه غير جائز؛ من حيث إن الجائز يطلق على مستوى الطرفين، والمكروه ليس كذلك" اهـ.
وفي موضع آخر منه حكاه عن الأصوليين مطلقًا؛ فقال [5/ 287]: "المكروه غير جائز عند الأصوليين" اهـ.
ثم إن هذا النص المُدَّعى إن سُلِّم وجوده وصراحته في الدلالة فليس أيضًا بمعتبر في نسبة ذلك القول إلى الإمام الشافعي -رضي الله عنه-، ولا يجوز اعتباره مذهبًا له ولا تقديمه على ما قاله العلماء المتقدم ذكرهم، ولا يعد ذلك تقديمًا لقول الأتباع على قول الإمام كما يظنه بعض القاصرين، بل لأن هذا من باب تعارض النقل المذهبي؛ فإن أصل المذهب ومسائله منقول بالمشافهة والتلقي طبقة بعد طبقة، وما جاء في نسخة لأحد الكتب غايتها أن تكون نسخة محررة صحيحة السند لمؤلفها، وقد تكون نسخة غير معتمدة أصلا، وعلى الاحتمالين: فإنه لا يمكن أن يعارض بمثل هذا المذهب الذي نقله الجمع عن الجمع، ومن هنا نص العلماء على أنه لا يجوز الاعتراض على الشيخين بنص "الأم"، لا لأن كلامهما مقدم على كلام الشافعي، بل لهذا المُدرَك المذكور، وهما قد اطَّلعا على نصوص الإمام وحررا أقواله ونخلا كتبه من نسخها المعتمدة بما لا يصح أن يُدفع بنص وجد في كتاب من الكتب أو نسخة من النسخ؛ قال المحقق ابن حجر في "شرح العباب" [بواسطة الفوائد المدنية للكردي ص37]: "قد أجمع المحققون على أن المفتَى به: ما ذكراه -أي: النووي والرافعي-، فالنووي، وعلى أنه لا يُفتى بمن يعترِض عليهما بنَص الأم أو كلام الأكثرين أو نحو ذلك؛ لأنهما أعلم بالنصوص وكلام الأصحاب من المعترِض عليهما، فلم يخالفاه إلا لموجِبٍ عَلِمه مَن عَلِمه وجَهِله مَن جَهِله، ومما يَدُلُّك على صحة ذلك: أنهما صَرَّحا بكراهة ارتفاع المأموم على الإمام: وعَمَّما ذلك: فلم يُقَيِّداه بمسجد ولا غيره، فجاء بعض المتأخرين واعترض عليهما بأنه نَصَّ في الأم على أن محل كراهة ذلك في غير ذلك، وتبعه كثيرون، ومِلْتُ إلى موافقتهم زمنا طويلا، حتى رأيت للشافعي -رضي الله عنه- نصًّا آخر مصرحًا بكراهة العلو في المسجد؛ فإنه كره صلاة الإمام داخل الكعبة والمأموم خارجها، وعَلَّلَهُ بعُلُوِّه عليه. فانظر كيف عَلِمَا أن له نصين أخذا بأحدهما؛ لموافقته من أن ارتفاع أحدهما على الآخر يُخِلّ بتمام المتابعة المطلوب بين الإمام والمأموم، وتركا النص الآخر؛ لمخالفته القياس المذكور، لا عبثًا؛ إذ مزيد ورعهما وشدة تحريهما في الدِّين قاضٍ بذلك، ولو أمعن تفتيش كتب الشافعي والأصحاب لظهر أنهما لم يخالفا نصًّا له إلا لما هو أرجح منه" اهـ.
وفي فتاوى الإمام شهاب الرملي [4/ 262، 263، ط. المكتبة الإسلامية]: "سئل عما إذا خالف نَصُّ الشافعي الجديدُ ما عليه الشيخان، فما المعمول به؟ إن قلتم: النص، فما بال علماء عصرنا يُنكِرون على من خالف كلام الشيخين أو ما عليه الشيخان؟ فقد صرحا بأن نَصَّ الإمام في حق المقلد كالدليل القاطع، وكيف يتركانه ويذكران كلام الأصحاب؟ فأجاب: بأن من المعلوم أن الشيخين رحمهما الله قد اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد، ولهذا كانت عنايات العلماء العاملين وإشارات من سبقنا من الأئمة المحققين متوجهة إلى تحقيق ما عليه الشيخان، والأخذ بما صححاه بالقبول والإذعان، مؤيدين ذلك بالدلائل والبرهان، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر: فالعمل بما عليه الإمام النووي، وما ذاك إلا لحسن النية وإخلاص الطوية. وقد اعترض على الشيخين وغيرهما بالمخالفة لنص الشافعي، وقد كثر اللهج بهذا، حتى قيل: إن الأصحاب مع الشافعي كالشافعي ونحوه من المجتهدين مع نصوص الشارع، ولا يسوغ الاجتهاد عند القدرة على النص. وأجيب بأن هذا ضعيف؛ فإن هذه رتبة العوام، أما المتبحر في المذهب: فله رتبة الاجتهاد المقيد، كما هو شأن أصحاب الوجوه الذين لهم أهلية التخريج والترجيح، وتَرْك الشيخين لذكر النص المذكور؛ لكونه ضعيفًا أو مُفَرّعًا على ضعيف، وقد ترك الأصحاب نصوصه الصريحة؛ لخروجها على خلاف قاعدته، وأَوَّلُوها... فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال: لم يَطَّلِعوا عليها؛ فإنها شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الشافعي، كما أن المجتهد يَصْرِف ظاهرَ نَصِّ الشارع إلى خلافه لذلك، ولا يخرج بذلك عن متابعته، وفي هذا كفاية لمن أنصف" اهـ.
ثم إن الإمام ابن الرفعة نفسه لم ينقل هذا الكلام في صلب شرحه للتنبيه المسمى بـ"كفاية النبيه"، بل ذكره في هامشه وحاشيته -على ما يستفاد من النقل عنه-، وأما الذي في متن كتاب "الكفاية" وصلبه [1/ 253، ط. دار الكتب العلمية]: فهو النقل عن النووي في "الروضة" أنه يُكرَه نتف اللحية أول طلوعها؛ إيثارًا للمرودة وحسن الصورة، ولم يتعقبه ابن الرفعة -كالمُقِرّ له- لا بنص "الأم" ولا بغيره، وكذلك لم يتعقبه الجمال الإسنوي بشيء في كتابه المسمى بـ"الهداية"، والذي صنفه خصيصًا لتعقب ابن الرفعة في "كفاية النبيه".
وقد أطلنا النَّفَس في تقرير مذهب الشافعية؛ لأن كثيرًا ممن خاض غمار الكتابة في مسألة حكم اللحية لا يحررون الصحيح فيه، ثم يسارعون بنسبة التحريم إلى المذهب ويتجاسرون على تخطئة أئمة المذهب القائلين بأن المعتمد هو الكراهة.
وقد وافق الشافعيةَ جماعةٌ من العلماء من المذاهب الأخرى التي تنص معتمداتها على التحريم؛ منهم: القاضي عياض من المالكية في "إكمال المعلم" [2/ 63، ط. دار الوفاء]؛ حيث قال: "ويكره حلقها وقصها -أي: اللحية-" اهـ، ونقله عنه العلامة الأُبِّي المالكي في شرح مسلم [2/ 39، ط. دار الكتب العلمية]، ولم يتعقبه.
وفي شرح حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى، قال الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني المصري المالكي في شرح الموطأ [4/ 529، ط. مكتبة الثقافة الدينية]: "(أَمَر) ندبًا، وقيل: وجوبًا" اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" [1/ 66، ط. دار إحياء التراث العربي]: "أما حف الوجه، فقال مهنا: سألت أبا عبد الله -يعني: الإمام أحمد- عن الحَفّ؟ فقال: ليس به بأس للنساء، وأكرهه للرجال" اهـ. وحَف الوجه: هو إزالة شعره بالموسى. [انظر: لسان العرب لابن منظور 9/ 50، ط. دار صادر].
وإطلاق الكراهة أو المكروه وإن استعمله بعض السلف في المحرم، إلا أنه حيث لم توجد قرينة على إرادة هذا، فالأصل أن يبقى على مدلوله الاصطلاحي من كونه لا يعاقب فاعله.
على أنه قد صرح بعض الحنابلة بأن الإعفاء مندوب، ولم يصرح بالوجوب أو ينص على حد هذا الإعفاء؛ فقال ابن مُفلِح الحنبلي في "الآداب الشرعية" [3/ 329، ط. عالم الكتب]: "ويُسَن أن يُعفي -أي: الرجل- لحيتَه" اهـ، والسنة وإن كانت قد تَصدُق على بعض الواجبات؛ بمعنى أنها مأثورة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن الأصل في إطلاقها الدلالة على المستحب، وبهذا صَرَّح غيره؛ فقال الإمام شمس الدين المقدسي في "الشرح الكبير على متن المقنع" [1/ 105، ط. دار الكتاب العربي]؛ فقال: "ويستحب إعفاء اللحية" اهـ.
وقال الشيخ ابن عبد القوي في منظومته: "عقد الفرائد وكنز الفوائد" [1/ 15]:
وحَفُّ الرجالِ الوجهَ يُكرَه مطلقًا |
|
وحَلقُ القفا أيضًا على النَّص فاشهدِ |
وإعفا اللحى نَدبٌ وقد قيل قدر ما |
|
يلي الحلقَ معْ ما زاد عن قُبضة اليدِ |
وجاء في "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" لابن البهاء البغدادي الحنبلي [1/ 223، ط. دار خضر ببيروت]: "ويستحب إعفاء اللحية... ويُكره الأخذ مما دون القبضة، نَصَّ عليه؛ لأن السنة إعفاء اللحية، وإنما لم نكره أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر؛ فإنه راوي الحديث وأعلم بمقصده، فيبقى فيما عداه على خلاف الفطرة" اهـ.
وقد ألف في نصرة القول بالكراهة من حيث الدليل والتعليل اثنان من علماء المغرب، وهما: السيد عبد الحي بن الصديق الغماري في كتابه: "الحُجَّة الدامغة على بُطلان دعوى من زعم أن حالق اللحية ملعون وصلاته باطلة"، وشقيقه السيد عبد العزيز -رحمهما الله تعالى- في كتابه: "إفادة ذوي الأفهام بأن حلق اللحية مكروه وليس بحرام". وسيأتي الاستدلال لهذا القول قريبًا.
وذهب بعض العلماء المتأخرين إلى أن إعفاء اللحية من قبيل العادات وليس من الأمور العبادية، وأن الأمر فيه أمر إرشاد لا أمر وجوب أو استحباب، وهو ما نَصَّ عليه الشيخ محمد رشيد رضا في فتوى له في مجلة المنار [22/ 429] جاء فيها: "الجواب عن مسألة حلق اللحى: هذا المسألة وأمثالها مما سيأتي ليست دينيةً مما يعبد الله به فعلًا أو تركًا، وإنما هي من الأمور العادية المتعلقة بالزينة والتجمل والنظافة، وقد سميت في الأحاديث الواردة فيها: سنن الفطرة، أي: العادات المتعلقة بحسن الخلقة... والأمر في مثل هذه الأمور العادية ليس للوجوب الديني، والنهي عنها ليس للتحريم كما قال الإمام الطبري، والظاهر أن الأمر فيها للإرشاد الذي يتعلق بمنافع الدنيا ومصالحها... فأما ما وصف بأنه من سنن الفطرة، فالغرض منه أن تكون الأمور الفطرية، أي: أمور الخلقة على أحسن حال في حسن المنظر والنظافة والصحة، وأما ما ذكر لمخالفة أهل الملل: فلأجل أن يكون للمسلمين مشخصات وعادات حسنة خاصة بهم من حيث هم أمة جديدة جعلها دينها إمامًا وقدوة لسائر أهل الملل في إصلاح أمور الدين والدنيا، وقد كان الفساد الديني والاجتماعي عامًّا في جميع الأمم بإجماع المؤرخين... وأما كون إعفاء اللحية من سنن الفطرة؛ فمعناه: أنه زينة خص بها الرجل الذي هو أكمل من المرأة خلقًا، فامتاز به عليها كامتياز أكثر ذكور الحيوان على إناثها... والمسألة عادية دنيوية لا دينية تتزكى بها النفس لتكون أهلًا لجوار الله وثوابه في الآخرة كما قلنا، وإن كان فعلها بنية الاتباع وتقوية رابطة الأمة مما يثاب عليه كسائر العادات والمباحات التي تحسن فيها النية، ولكون هذه المسائل غير دينية لم يُعنَ المسلمون بالخضاب وصبغ الشعر، كما عُنُوا بإرسال اللحى مع صحة الأحاديث بالأمر به، وكونه زينة ومخالفة لأهل الكتاب، بل كرهه بعضهم وحرمه آخرون بالسواد... وأما قول السائل: إذا كان الحديث صحيحًا فما حجة من يحلق لحيته من المسلمين بما فيهم من حملة الشريعة - فجوابه:... أن كل قوم يعملون بما ألِفوا واعتادوا من هذه السنن، حتى إن بعض السلف تهاونوا في بعضها" اهـ مختصرًا. ولكنه قد خالف ذلك في مواضع أخرى؛ فصرح فيها بكراهة الحلق، بل وفي أحدها أنه لا يصح أن يقال: إن ذلك من أمور العادات وليس من أمور الدين. [مجلة المنار 7/ 733، 14/ 29، 31/ 442].
وقال الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في كتابه: "الفتاوى" [ص: 229، ط. دار الشروق]: "والحَقُّ أن أمر اللباس والهيئات الشخصية -ومنها حلق اللحية- من العادات التي ينبغي أن يَنزِل المرءُ فيها على استحسان البيئة، فمن درجت بيئته على استحسان شيء منها كان عليه أن يساير بيئته، وكان خروجه عما أَلِف الناس فيها شذوذًا عن البيئة" اهـ.
ومثله الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه: "أصول الفقه" [ص: 115، ط. دار الفكر]؛ حيث اختار أن إطلاق اللحية من أمور العادات وليس من قبيل الشرعيات.
ويمكن أن يحمل على هذا الرأي ما جرى عليه الأغلب من علماء الأزهر عملا؛ لأنا ننزههم عن تحري العمل بالمكروه، فضلا عن تعمد ارتكاب المحرم والإصرار عليه؛ فهم وُرَّاث النبوة ونجوم الهدى للعالم، وقد يستأنس لهذا القول بما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" [10/ 355، ط. دار المعرفة] من أن ترك الخضاب المأمور به يكون أولى إذا كانت عادة أهل البلد تركه؛ حيث قال: "وقد اختُلِف في الخضب وتركه؛ فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم، وتَرَك الخضابَ علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع وأنس وجماعة، وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائق به كَمَنْ يُسْتَشْنَعُ شيبُه، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال صلى الله عليه وسلم لَمَّا رأى رأسه كأنها الثُّغَامة بياضًا: «غيروا هذا وجنبوه السواد»، ومثله حديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه أول باب "ما يذكر في الشيب"، وزاد الطبري وابن أبي عاصم من وجه آخر عن جابر: "فذهبوا به فحمروه". والثُّغَامة -بضم المثلثة، وتخفيف المعجمة-: نبات شديد البياض زهره وثمره. قال: فمن كان في مثل حال أبي قحافة استحب له الخضاب؛ لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومَنْ كان بخلافه: فلا يستحب في حقه. ولكن الخضاب مطلقًا أولى؛ لأنه فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة، فالترك في حقه أولى" اهـ.
وبهذا تتم حكاية الأقوال وذكرها من حيث النسبة المذهبية، أما من حيث الاعتماد والاختيار: فالذي نعتمده للفتوى: هو ما ذهب إليه الشافعية من سُنِّيَّة إعفاء اللحية وكراهة حلقها، وذلك لأمرين: أولهما: رجحان هذا القول من حيث الدليل، والثاني: عموم البلوى بمسألة الحلق. وبيان ذلك كما يلي:
أما أن القول باستحباب الإعفاء وكراهة الحلق هو الراجح، فذلك لأدلة؛ منها:
أولا: قوله عليه الصلاة والسلام: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»؛ ليس أمرًا مطلقًا، بل هو أمر مُعَلَّل بعلة مخالفة المشركين وعدم الوقوع في مشابهتهم، وهذا التعليل مقتض للقول بعدم الوجوب من حيث إن مخالفة الكفار ليست واجبة إلا في خصوص ما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية، وقد وردت أدلة كثيرة على هذا؛ منها: أن إحفاء الشارب المقترن بإعفاء اللحية في الحديث والمعلل بذات علته لم يقل أحد بوجوبه، بل كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتركه إلى حد أنه يفتله عند الغضب؛ وكان الإمام مالك يأخذ إطار شاربه ولا يحلقه ولا يحفيه، ويترك له سبلتين ويحتج بفتلة عمر لشاربه إذا همه الأمر [ترتيب المدارك للقاضي عياض 1/ 121، ط. مطبعة فضالة بالمغرب].
ومنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتغيير الشيب؛ فقال فيما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «غيروا الشيب ولا تَشَبَّهوا باليهود»، وكان عدد كبير من الصحابة لا يخضبون، ولم يُنقَل أن الخاضبين قد أنكروا عليهم بأنهم قد ارتكبوا محرمًا بتركهم الخضاب لما في ذلك من التشبه الممنوع.
وقد نقل الإمام الطبري الإجماع على أن الأمر بتغيير الشيب والنهي عن المشابهة هنا للكراهة لا للتحريم؛ فقال في "تهذيب الآثار" [ص: 518، ط. دار المأمون للتراث]: "ولمن كان في شعر رأسه ولحيته سواد تَرْك تغييره بشيء من الخضاب، من غير أن أرى تارك تغييره -وإن كان جميع ما في رأسه ولحيته من الشعر قد ابْيَضَّ- آثما بترك تغييره؛ إذ كان الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتغيير ذلك ندبًا لا فرضًا، وإرشادًا لا إيجابًا، وكذلك لا أرى مغيرَ ذلك -وإن كان قليلا ما ابْيَضَّ منه- حرجًا بتغييره؛ إذ كان النهي عن ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان تكريهًا لا تحريمًا؛ لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وأن النهي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك لو كان على وجه التحريم أو لو كان الأمر -فيما أمر به من ذلك- كان على وجه الإيجاب، لكان تاركو التغيير قد أنكروا على المغيرين، أو كان المغيرون قد أنكروا على تاركي التغيير. ولكن الأمر كان في ذلك كالذي وصفت -إن شاء الله-، فلذلك ترك بعضهم النكير على بعض" اهـ.
ومنها: ما رواه أبو داود عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم»، ولم ينقل عن أحد من الفقهاء القول بوجوب الصلاة في النعال، بل اختلفوا هل هو مستحب أو مباح أو مكروه [فيض القدير 4/ 67، ط. المكتبة التجارية الكبرى]، وقال ابن دقيق العيد: "الصلاة في النعال من الرُّخَص لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة" اهـ. [بواسطة عمدة القاري للبدر العيني 4/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي].
ومنها: ما رواه أحمد في مسنده عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن فَصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر».
والسحور مستحب، ونقل الإمام ابن المنذر الإجماعَ على ذلك في كتابه "الإجماع" [ص: 49، ط. دار المسلم]؛ فقال: "وأجمعوا على أن السحور مندوب إليه" اهـ.
ومنها: ما رواه ابن سعد في "الطبقات" [1/ 159، 160، ط. دار صادر] عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال لجعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «وأما أنت يا جعفر فشبيه خلقي وخلقي»، قام جعفر فحجل حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما هذا يا جعفر؟»، فقال: يا رسول الله، كان النجاشي إذا أرضى أحدًا قام فحجل حوله.
وهذا إقرار من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لم ينكر على جعفر ما أخذه من نصارى الحبشة، فهذا نصٌّ صريح في أن المخالفة ليست واجبة.
ومنها: ما رواه البيهقي أن أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها- كانت أول امرأة جُعل عليها النعش، جعلته لها أسماء بنت عميس الخثعمية -رضي الله عنها-؛ حيث كانت بأرض الحبشة -وهي أرض النصارى-، فرأتهم يصنعون النعش، فصنعته لزينب يوم توفيت.
ونظيره ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قد مرضت فاطمة مرضًا شديدًا، فقالت لأسماء بنت عميس: ألا ترَين إلى ما بلغت أُحمَلُ على السرير ظاهرًا؟ فقالت أسماء: ألا لعمري، ولكن أصنع لك نعشًا، كما رأيت يصنع بأرض الحبشة، قالت: فأرنيه. قال: فأرسلت أسماء إلى جرائد رطبة، فقطعت من الأسواف، وجعلت على السرير نعشًا، وهو أول ما كان النعش، فتبسمت فاطمة، وما رأيتها متبسمة بعد أبيها إلا يومئذ، ثم حملناها ودفناها ليلا. وهذا كان بمحضر من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- ولم ينقل إنكار أحدهم لصنيع فاطمة -رضي الله عنها- بأن في ذلك تشبهًا بنصارى الحبشة، فكان إجماعًا سكوتيًّا، وهو حجة.
قال في "جمع الجوامع" وشرحه للعلامة المحلي [2/ 221 -مع حاشية العطار-، ط. دار الكتب العلمية]: "(والصحيح) أنه -أي: الإجماع السكوتي- (حجة) مطلقًا" اهـ.
وممن أشار إلى أن التشبه بغير المسلمين لا يحرم بمجرده: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [10/ 98، ط. دار المعرفة] عند كلامه على الأسباب التي من أجلها حَرُم استعمال أواني الذهب والفضة؛ حيث قال: "وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم. وفي ذلك نظر؛ لثبوت الوعيد لفاعله. ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك" اهـ.
ثم إننا لو سَلَّمنا أن التشبه بغير المسلمين ممنوع في كل صوره، فإن مجرد حصول ما يشبه صنيع أهل الكتاب لا يسمى تشبهًا إلا إذا كان الفاعل قاصدًا لحصول الشبه؛ لأن التشبه: تَفَعُّل، وهذه المادة تدل على انعقاد النية والتوجه إلى قصد الفعل ومعاناته، ومن الأصول الشرعية اعتبار قصد المكلف، ويدل على ذلك أيضًا: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا، فقعدنا، فلما سَلَّم قال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم؛ إن صلى قائمًا فَصَلُّوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا»، و(كاد) تدل في الإثبات على انتفاء خبرها مع مقاربة وقوعه، وفعل فارس والروم وقع منهم فعلا، لكن الصحابة لما لم يقصدوا التشبه انتفى ذلك الوصف عنهم شرعًا. والمسلم الذي يحلق لحيته الشأن فيه أنه لا يخطر بباله التشبه بغير المسلمين، فضلا عن قصده.
قال الإمام ابن نجيم في "البحر الرائق" [2/ 11، ط. دار الكتاب الإسلامي]: "اعلم أن التشبيه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء، وإنا نأكل ونشرب كما يفعلون، إنما الحرام هو التشبه فيما كان مذمومًا وفيما يقصد به التشبيه، فعلى هذا لو لم يقصد التشبه لا يكره عندهما" اهـ.
وقال ابن عابدين في "رد المحتار" [1/ 624، ط. دار الفكر] -معلقًا على قول صاحب "الدر المختار": "(التشبه بهم -أي: أهل الكتاب- لا يكره في كل شيء)-: "فإنا نأكل ونشرب كما يفعلون... ويؤيده ما في الذخيرة قبيل كتاب التحري. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا الحديد بأسًا؟ قال: لا. قلت: سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأن فيه تشبهًا بالرهبان. فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبس النعال التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا يضر؛ فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع. اهـ. وفيه إشارة أيضًا إلى أن المراد بالتشبه أصل الفعل: أي: صورة المشابهة بلا قصد" اهـ.
فالأمر بإعفاء اللحية مُعَلَّل بذات العلة التي عللت بها الأوامر في تلك الأحاديث وما في معناها، ولما كانت هذه الأوامر محمولة على الاستحباب، كان الأمر بإعفاء اللحية مثلها؛ لأن العلة واحدة، والحكم إذا كان مبنيًّا على علة وجب اطراده معها وجودًا وعدمًا.
وفي ذلك يقول الإمام أبو سليمان الخَطّابي في "معالم السنن" [1/ 31، ط. المطبعة العلمية بحلب]: "وأما إعفاء اللحية: فهو إرسالها وتوفيرها، كُرِه لنا أن نقصها كفِعل بعض الأعاجم، وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب، فندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة" اهـ.
ثانيًا: حديث عشر من الفطرة، وقد تقدم بلفظه، وفيه ذكر اللحية من جملة العشر خصال، وباقي هذه الخصال العشر غير واجب في جملته، فكان قَرْن اللحية بها في الذِّكر دالا على أنها غير واجبة مثلها؛ ولا يقال: إن دلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين؛ لأن ضعفها مقيد بما إذا لم تكن المذكورات المقترنة داخلة تحت لفظ واحد يشملها كلها؛ ولفظة الفطرة تشمل جميع المذكورات.
قال الإمام ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" [1/ 126، 127، ط. السنة المحمدية]: "وأما الاستدلال بالاقتران: فهو ضعيف، إلا أنه في هذا المكان قوي؛ لأن لفظة (الفطرة) لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة، فلو افترقت في الحكم -أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب، وفي بعضها لإفادة الندب- لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفي ذلك ما عرف في علم الأصول، وإنما تضعف دلالة الاقتران ضعفًا إذا استقلت الجمل في الكلام، ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين" اهـ.
ثالثًا: أن اللحية كانت عند العرب قبل الإسلام من عادات الرجال وعلامات الزينة الظاهرة في حقهم، بل وكانوا يأنفون من حلق لحاهم ويعدون نتفها أو إزالتها منقصة وعارًا، وقد تقرر أن الأمر إذا تعلق بالعادات أو الآداب صُرِف عن الوجوب إلى الندب؛ والآداب: هي ما كانت متعلقة بتهذيب الأخلاق وإصلاح العادات [كما ذكر ذلك العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح التلويح 1/ 293، ط. صبيح].
جاء في فتح الباري [9/ 523] عند شرح حديث عمرو بن سلمة في الأكل باليمين: "قال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال؛ لأنها أقوى في الغالب وأسبق للأعمال وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة؛ إذ نسبهم إلى اليمين، وعَكَسه في أصحاب الشمال. قال: وعلى الجملة: فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعًا ودينًا، والشمال على نقيض ذلك. وإذا تقرر ذلك: فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق والسيرة الحسنة عند الفضلاء: اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة والأحوال النظيفة. وقال أيضًا: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة والمكارم المستحسنة، والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب" اهـ.
فبهذه الأدلة يظهر أن القول باستحباب الإعفاء وكراهة الحلق قد جمع بين الأدلة المختلفة، ولم يُعمِل أحدها ويُهمل الآخر، فتعين المصير إليه وترجيحه؛ لأن الجَمع بين الدليلين أو الأدلة وإعمالها معًا -ولو بوجه- أَولَى من إهمالها أو العمل بأحدها وإهمال الآخر. والإهمال والإلغاء خلاف الأصل، فلا يُلجأ له إلا عند التعارض وتَعَذُّر الجمع بين الدليلين أو الأدلة.
بقي أن نُجِيب على بعض المستندات الأخرى التي يرى القائلون بالتحريم أنها دالةً على مُدَّعاهم:
منها: أن حلق اللحية من تغيير خلق الله؛ وقد ذكر الله تعالى قول الشيطان الرجيم: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ [النساء: 119]، قالوا: فحلق اللحية من تغيير خلق الله، فيكون من طاعة الشيطان، فيصير محرمًا.
والاستدلال بهذه الآية على تلك الدعوى لا يُسَلَّم؛ لأننا ندعي أن: (خلق الله) فيها معناه: دين الله؛ فكأن الشيطان يقول: إنه سيأمر الناس بتغيير دين الله؛ بالكفر وبتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم الله عليها.
وقد وردت لفظة: (خلق الله) في موضع آخر من كتاب الله تعالى بمعنى: (دين الله)؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: 30]؛ أي: لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر. خبر أريد به الإنشاء [انظر: أضواء البيان للشنقيطي 1/ 308، 309، ط. دار الفكر]. فهذا الورود مُعَزِّزٌ لحَمل ﴿خَلْقَ اللهِ﴾ في آية النساء على معنى: دين الله؛ إذ القرآن يفسر بعضه بعضًا، وقد تبنى هذا التفسير غير واحد من مفسري السلف، منهم: ابن عباس والضحاك والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسُّدِّي وغيرهم، ومنهم من صَرَّح بسبب الحمل الذي ذكرناه؛ فعن الضَّحَّاك في قوله تعالى: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾: قال: دين الله، وهو قوله: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ يقول: لدين الله.
وقال مُجَاهِد: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾: دين الله، ثم قرأَ: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ وهو الذي اختاره الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره [انظر: جامع البيان للطبري 9/ 218- 220، ط. مؤسسة الرسالة، الدر المنثور للسيوطي 2/ 690، ط. دار الفكر].
وحَمْل الآية على مطلق تغيير خلق الله يلزم منه أن أي تغيير في أي شيء خلاف أصل خلقته يكون ممنوعًا، وهو خلاف الإجماع.
ومما استندوا إليه أيضًا: أن حلق اللحية من تشبه الرجال بالنساء، وهو محرم؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
وهو استدلال مردود؛ لأن المشابهة بين أمرين تستلزم وجود وجه للشبه بينهما، وهو المنتفي هنا؛ لأن المرأة ليست لها لحية تحلقها؛ حتى يقال: إن حلق الرجل لحيته تَشَبُّه منه بها، بل وجه المرأة أملس، بخلاف وجه الرجل، حتى بعد أن يحلق لحيته؛ فإن أثر الشعر يظل ظاهرًا بينًا، وكذلك فإن وجه المرأة الخالي من الشعر لا يطلق عليه لغة ولا عرفًا أنه محلوق، بخلاف وجه الرجل الحليق، فالفرق بينهما ثابت حسًّا ولغة وعرفًا، وحيث ثبت الفرق المؤثر لم يبق للمشابهة بينهما مناسبة أو ارتباط.
ولو سلم هذا التعليل لكان حلق الشارب أيضًا من التشبه بالنساء، ولكان إعفاء شعر الرأس منه أيضًا ولوجب على الرجل حلقه، وكل هذا فاسد باطل. ولكان من يحلق لحيته دون شاربه ليس متشبهًا بالنساء؛ لأن وجهه حينئذ ليس كوجه النساء -بمقتضى هذا الاستدلال-، وهو ما لا يقولونه.
كما أنه يأتي هنا ما سبق تقريره والاستدلال عليه من أنه لا بد في التشبه من أن يقصد الفاعل حصول الشَّبَه، وأن مجرد حصول الشيء المشترك دون نية أو توجه وقصد لا يسمى تشبهًا.
ومما استدلوا به: دعوى الإجماع على حرمة الحلق؛ استنادًا إلى قول أبي محمد بن حزم في "مراتب الإجماع" [ص: 157، ط. دار الكتب العلمية]: "وَاتَّفَقُوا أَن حلق جَمِيع اللِّحية مثلَة لَا تجوز وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَة والفاضل والعالم" اهـ.
وهذا النقل المذكور لا نُسَلِّم أنه مسوق للدلالة على حكم حلق اللحية في نفسه، بل مقصوده هو حكم حلقها على وجه التعزير والعقوبة، أي: فحلقها على هذا الوجه فعلة لا تجوز؛ وذلك أن المَثُلة -بفتح الميم وضم المثلثة-: هي العقوبة، وأما المُثْلة -بضم الميم وسكون المثلثة-: فهي التشويه [راجع: تاج العروس 30/ 385، ط. دار الهداية، المصباح المنير 2/ 563، ط. المكتبة العلمية]، وعلى كلا الضبطين لا يستقيم حَمل العبارة على حرمة الحلق؛ لأن حلقها على وجه العقوبة أو على وجه إرادة التشويه والشَّين -اللذَين كانا يلحقان من يحلق لحيته في السابق لمخالفته العرف العام السائد في زمانه ومكانه- كل منهما ممنوع شرعًا، وهذا هو الظاهر المراد.
ويؤيد هذا الحمل: قوله بعد ذلك: "وكذلك الخليفة والفاضل والعالم"، يعني: أنه كما يكون حلقها على وجه التمثيل غير جائز، فإنه في حق المقتدى بهم في أحوالهم وأفعالهم -كمن ذُكِر- غير جائز أيضًا. ولو كان المقصود بصَدْر العبارة هو تقرير وقوع الإجماع على حرمة حلق اللحية، لما كان ثَمَّ فائدة على التنصيص على الخليفة والفاضل والعالم في عَجُزها؛ لأنهم بهذا سيكونون متناوَلين بعموم الصدر.
وقد ذكر ابن حزم في أواخر كتابه [ص: 177] أنه لم يضع أي كلمة في كتابه هذا إلا لمعنى لولاها لاختل ولم يستقم؛ فقال: "ونحن نرغب ممن قرأ كتابنا هذا أن يلتزم لنا شرطين: أحدهما: أن لا ينحلنا ما لم نقل بكلفة منه أو تعمد... والثاني: أن يتدبر جميع ألفاظنا في هذا الكتاب فإنا لم نورد منه لفظة في ذكرنا عقد الإجماع إلا لمعنى كان يختل لو لم تذكر تلك اللفظة، فليتعقب هذا؛ فإنه ينتفع بمثله منفعة عظيمة ويكتسب علمًا وشحذًا لذهنه وتعلمًا لمعاني الألفاظ وبناء الكلام على المعاني" اهـ.
ولو سَلَّمنا أن تلك العبارة مسوقة للدلالة على حكم الحلق، لما سَلَّمنا أنها تفيد حصول الإجماع؛ لأنه عَبَّر بـ(اتفقوا) ولم يعبر بـ(أجمعوا)؛ وقد جاء في خاتمة كتابه [ص: 178] كلامًا مجملا يحتمل أن يفهم منه أنه قد يستخدم لفظ: (الاتفاق) استخدامًا لا يرادف لفظ: (الإجماع)؛ فقال: "وليعلم القارئ لكلامنا أن بين قولنا: "لم يجمعوا"، وبين قولنا: "لم يتفقوا" فرقًا عظيمًا" اهـ.
ثم إننا لو سَلَّمنا أن هذه العبارة مسوقة للدلالة على حكم الحلق وأنه لا يجوز بالإجماع، فلا نُسَلِّم أنها نَصٌّ في قيام الإجماع على حرمته؛ لأن قوله: (لا يجوز) يفيد ما هو أعم من التحريم؛ فالمكروه يصدق عليه أنه غير جائز -كما تقدم تقريره-، فحَمْلُ قوله السابق على التحريم محضُ تَحَكُّم من غير دليل، وترجيحٌ بلا مُرَجِّح، وهما باطلان.
ولو سَلَّمنا أنها مسوقة للدلالة على حكم الحلق وأنها تدل على تحريمه بالإجماع، لمنعنا صحة ذلك الإجماع؛ لوجود المخالف، ويَبعُد أن يكون ثَمَّ إجماع في مثل هذه المسألة، ويخفى على أولئك الأعلام القائلين بالكراهة، وكل واحد منهم حبر جليل من أساطين العلم، ولا يوجد أحد منهم إلا وهو في المعرفة والاطلاع والإحاطة بالمحل الأعلى.
وكثير من الإجماعات التي حكاها ابن حزم في كتابه هذا لم تُسَلَّم له، ولمّا قال فيه [ص: 16]: "إنما نُدخِل في هذا الكتاب الإجماعَ التامَّ الذي لا مخالف فيه ألبتة، الذي يُعلم كما يُعلم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأن شهر رمضان هو الذي بين شَوّال وشعبان، وأن هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد -صلى الله عليه وسلم- وأخبر أنه وحي من الله إليه، وأن في خمسٍ من الإبل شاةً، ونحو ذلك، وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوه نقله -إذا تتبعها المرء في نفسه في كل ما جرَّبه من أحوال دنياه- وَجَدَهُ ثابتًا مستقرًا في نفسه" اهـ، تعقبه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه "نقد مراتب الإجماع" [ص: 287، ط. دار ابن حزم]؛ فقال: "قد اشتَرَطَ في الإجماع ما يشترطه كثير من أهل الكلام والفقه كما تقدم: وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع تواترًا. وجعل العلم بالإجماع من العلوم الضرورية؛ كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين. ومعلوم أن كثيرًا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبةً من هذا الوصف، فضلا عن أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلاف معروف، وفيها ما هو نفسه ينكر الإجماع فيه ويختار خلافَه من غير ظهورِ مخالف؟!" اهـ. فبان بما سبق فساد الاستناد إلى تلك العبارة لتقرير هذا الإجماع المزعوم.
وأما الأمر الثاني الذي من أجله تَرَجَّح لدينا الإفتاء بكراهة الحلق فهو: عموم البلوى بحلقها؛ فمن المعلوم في قواعد الفقه وأصول الشرع أن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن عموم البلوى موجب للتخفيف على المكلفين. والمتتبع لكلام أهل العلم يجد أن كثيرًا من الأحكام الفقهية اقتضت الصناعة الفقهية فيها حكمًا معينًا، ثم حاد الفقهاء عنه إلى غيره الأخف منه لعموم البلوى بالأول.
وقد نص الفقهاء على أن المكلف إذا ابتلي بشيء، فله أن يقلد من أجازه؛ تخلصًا من الحرمة، وممن أشار إلى شيء من ذلك شيخ الإسلام البرهان البيجوري في حاشيته الفقهية على "فتح القريب المجيب" [1/ 41، ط. الحلبي] -عند قول العلامة ابن قاسم الغَزّي: (ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة)- حيث قال: "عَدَّهُ البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما"، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة" اهـ.
ونص العلماء كذلك على أن المفتي له أن يختار قولا يخالف معتمد مذهبه لعموم البلوى؛ من ذلك:
أن الإمام أبا حنيفة قال: لا يستحلف في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود، وقال صاحباه: يستحلف فيها إلا الحدود واللعان.
قال العلامة مجد الدين الموصلي في "الاختيار" [2/ 113، ط. الحلبي]: "واختار الفقيه أبو الليث الفتوى على قولهما؛ لعموم البلوى" اهـ.
وجاء في "الدر المختار" للحصكفي [6/ 63 -مع حاشية ابن عابدين-، ط. دار الكتب العلمية]: "وجاز إجارة القناة والنهر مع الماء، به يفتى؛ لعموم البلوى" اهـ.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أصاب الخف نجاسة لها جرم، كالروث والعذرة، فجفت، فدلكه بالأرض جاز، والرطب وما لا جرم له كالخمر والبول لا يجوز فيه إلا الغسل، وقال أبو يوسف: يجزئ المسح فيهما إلا البول والخمر، وقال محمد: لا يجوز فيهما إلا الغسل كالثوب.
ونص علماء الحنفية أن قول أبي يوسف هو المختار لعموم البلوى [1/ 234، 235، ط. دار الكتاب الإسلامي].
واللحية قد عمت البلوى بحلقها؛ حيث تلبس بذلك أكثر المسلمين، كما هو مشاهد شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا، وقد التفت بعض العلماء المتأخرين إلى هذا المعنى في خصوص مسألة حلق اللحية، وأدرك أن تلبس عموم الناس بها موجب لتخفيف الفتوى فيها، حتى لو كان الصحيح في نظر المفتي هو القول بالتحريم؛ يقول العلامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي المالكي في كتابه: "فتح المنعم ببيان ما احتيج لبيانه من زاد المسلم" [1/ 179، ط. الحلبي]: "ولما عَمّت البلوى بحلقها -أي: اللحية- في البلاد المشرقية، حتى إن كثيرًا من أهل الديانة قَلَّد فيه غيرَه خوفًا من ضَحِك العامة منه؛ لاعتيادهم حلقها في عرفهم، بحثت غاية البحث عن أصل أُخَرِّج عليه جواز حلقها؛ حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق، فأجريته على القاعدة الأصولية وهي أن صيغة: (افعل) في قول الأكثرين للوجوب، وقيل: للندب، وقيل: للقدر المشترك بين الندب والوجوب، وقيل بالتفصيل؛ فإن كانت من الله تعالى في القرآن فهي للوجوب، وإن كانت من النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الحديث هنا على الروايتين؛ وهما: رواية: (أَوْفِرُوا) ورواية: (أَعْفُوا)- فهي للندب... وهذا القول الأخير هو الذي ينبغي حَمل العامة عليه؛ لِمَا عَمَّت به البلوى" اهـ باختصار.
هذا من حيث حكم اللحية شرعًا، أما في خصوص مدى شرعية إلزام الجهة النظامية كالشرطة في إلزام الضابط أو الفرد بعدم إطلاق لحيته، فمعلوم أنه قد جرت عادة العسكر من شرطة وجيش منذ مئات السنين على حلق لحاهم، ولم نسمع أن هذه المسألة كانت يومًا قضية تثير ضجة حول حكم الطاعة في ذلك أو الخروج عن التعليمات، بل كانت لاختلاف العلماء فيها -كما تقدم- مندرجة تحت القاعدة الفقهية التي نص عليها الإمام السيوطي وغيره من أنه: "لا يُنْكَرُ المختَلَفُ فيه، وإنما يُنكَرُ المُجْمَعُ عليه" [الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 158، ط. دار الكتب العلمية].
ونحن في هذا الصدد نكون أمام طرفين: الطرف الأول: الجهة النظامية، والطرف الثاني: الأفراد التابعين لها العاملين بها.
أما الأفراد: فلا حرج عليهم في الانصياع لتعليمات رؤسائهم في أمرهم إياهم بحلق لحاهم، بل إن ذلك يكون واجبًا شرعيًّا عليهم. وذلك لأنه لا يخلو الأمر إما من وجود قانون أو لائحة معينة تنظم هذا الأمر بخصوصه، وتلزم الأفراد التابعين للجهة النظامية بالحلق، وأما ألا يكون، ولكن يكون ذلك حينئذ داخلا تحت القواعد واللوائح العامة التي تجعل أوامر الرؤساء ملزمة؛ ومنها: ما جاء في المادة: (41) من القانون رقم: (109) لسنة 1971م في شأن هيئة الشرطة من أنه على الضابط: "أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر بدقة وأمانة، وذلك في حدود القوانين واللوائح والنظم المعمول بها" اهـ، وجاء في المادة (47) منه أن: "كل ضابط يخالف الواجبات المنصوص عليها في هذا القانون أو في القرارات الصادرة من وزير الداخلية، أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته، أو يسلك سلوكا أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة يعاقب تأديبيًّا" اهـ.
ونظيره في قانون الأحكام العسكرية ما جاء في المادة (153) منه من أن: "كل شخص خاضع لأحكام هذا القانون ارتكب الجريمة الآتية: إهماله إطاعة الأوامر العسكرية أو أوامر الوحدة أو أوامر أخرى -سواء كانت كتابية أو شفهية- يعاقب إذا كان ضابطًا بالطرد أو جزاء أقل منه منصوص عليه في هذا القانون. وإذا كان عسكريًّا: تكون العقوبة الحبس أو جزاء أقل منه".
وعلى كلا الاحتمالين يكون الانصياع للأوامر في هذا الخصوص واجبًا شرعيًّا، لأن التزام اللوائح والقوانين هو من الطاعة المطلوبة شرعًا لولي الأمر؛ وولي الأمر كما يصدق على الخليفة أو رئيس الدولة في الشكل المعاصر لأنظمة الحكم، فهو يصدق أيضًا على كل صاحب ولاية عامة كقواد الجيوش، وننبه كذلك أن ولي الأمر ليس ملحوظًا بالشخص والذات، فينزل منزلته القوانين واللوائح في الإلزام ووجوب الانقياد لها والالتزام بها؛ لأن المقصود في النهاية هو إقرار النظام العام ودرء فتنة شق عصا الطاعة وحسم مادة الفوضى في المجتمع.
وأصل وجوب طاعة ولي الأمر: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، قال العلامة ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" [5/ 97، 98، ط. الدار التونسية للنشر]: "أولو الأمر مِن الأمّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنّه مِن خصائصهم... فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين، إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا أهل الحلّ والعقد" اهـ.
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «السمعُ والطاعةُ على المَرءِ المُسلِم فيما أَحَبّ وكَرِه، ما لم يؤمَر بمعصيةٍ، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعَة».
وروى الترمذي -وأصله في صحيح مسلم- عن وائل بن حُجر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سأله رجل فقال: أرأيتَ إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عَلَيهم ما حُمِّلوا وعَلَيكُم ما حُمِّلتُم».
فولي الأمر تجب طاعته فيما يأمر به، وأن ما يأمر به على جهة الإلزام يصير واجب الفعل -أي: واجبًا لغيره- حتى ولو كان في أصله مستحبًّا أو مباحًا، بل ولو كان مكروهًا؛ قال الإمام ابن حجر الهيتمي في "فتاواه الفقهية" [1/ 278، ط. المكتبة الإسلامية]: "قولهم: تجب طاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه ما لم يخالف حكم الشرع. والظاهر أن مرادهم بمخالفة حكم الشرع: أن يأمر بمعصية أو ينهى عن واجب، فشمل ذلك المكروه، فإذا أمر به وجب فعله؛ إذ لا مخالفة حينئذ" اهـ.
وفيه أيضًا [2/ 235، 236]: "وظاهر كلامهم في باب الإمامة: أنه لو أمر -أي: الإمام- بمكروه وجب امتثال أمره، وينقلب الفعل حينئذ واجبًا، وليس ببعيد" اهـ.
ومن القواعد الشرعية المقررة أنَّ تَصَرُّف ولي الأمر على الرعية مَنوطٌ بالمصلحة [الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 121، ط. دار الكتب العلمية]، فهذه القوانين والنظم هي مِن المسائل الخاضعة لما يراه ولي الأمر مِن المصلحة الراجحة، فيَسُنُّ القانون المنظِّم لها بما يتناسب مع المصلحة العامة، وله أن يختار من أقوال المجتهدين ما يراه محققًا لهذه المصلحة المغيَّاة. ولعل المصلحة هنا هي: أنه في ظل الدولة التعددية الحديثة لا بد في المؤسسات التنفيذية ونحوها أن تتسم بالحيادية، حتى في مظهر أفرادها وممثليها، فتتجنب أشكال ومظاهر التمييز الدينية ما دامت لا تدخل في دائرة الواجبات الشرعية.
ومن ذلك يعلم أنه لا يصح الاعتراض على طاعة مقتضى اللوائح والقوانين بحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» [رواه الطبراني في الكبير]؛ لأن موردهما ليس واحدًا؛ فحلق اللحية ليس من المعاصي أصلا؛ لما قررناه من أنه من جملة المكروهات. وحقيقة المكروه: نفي العقاب على فعله والإثابة على تركه قصدًا، وحقيقة المعصية: العقاب على فعلها والإثابة على تركها قصدًا، فكل منهما له حقيقة مختلفة متمايزة عن حقيقة الآخر، بل إن هذا الحديث يقتضي بمفهومه طاعة ولي الأمر إذا أمر بمكروه -كما أشار إليه النفراوي المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [1/ 211، ط. الفكر]-.
بل إن الفقهاء قد ذكروا أن المكروه يرتفع عنه وصف الكراهة إذا احتيج إلى فعله؛ لأن الكراهة تزول بالحاجة، وقد ذكر ذلك وقرره العلامة السَّفاريني الحنبلي في مواضع من "غذاء الألباب" [انظر: 1/ 323، 1/ 420، 2/ 18، 2/ 64، ط. مؤسسة قرطبة]، وذكر أنها قاعدة مذهبهم. وفروع الشافعية متضافِرة على هذا المعنى؛ من ذلك: قولهم في تنشيف بَلَل الوضوء والغسل: إنه إن كانت ثَمَّ حاجة إليه؛ كخوف برد، أو التصاق بنجاسة، ونحو ذلك، فلا كراهة قطعًا. [المجموع 1/ 486، ط. المنيرية].
وقولهم فيمن أراد التضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة: إنه يُكرَه له أخذ شيء من أجزاء بدنه وشعره حتى يُضَحِّي، وأن محل كراهة ذلك إذا لم تَدع إليه حاجة، ذكر ذلك جماعة؛ منهم الزركشي. [أسنى المطالب 1/ 542، ط. دار الكتاب الإسلامي].
وقولهم: إنه يُكرَه للقاضي أن يقضي في حال تغير الخُلُق بنحو غضب، وجوع مفرط، وخوف مزعج، ومدافَعَة خَبَث، وكل ما يُشَوِّش الخاطر، ولكن هذه الكراهة تنتفي إذا دعت الحاجة إلى الحُكم في الحال، بل قد يتعين الحُكم على الفور في صور كثيرة. [أسنى المطالب 4/ 298].
وبهذا صرح العلامة الشهاب الرملي في حاشيته على "أسنى المطالب" من كتب الشافعية [1/ 186، بهامش أسنى المطالب] عند كلامه على كراهة دخول الصبيان المسجد، وأنها ليست على إطلاقها، بل تختص بمن لا يُمَيِّز، وبحالة لا طاعة فيها ولا حاجة إليها. قال الرملي: "والحاجة قد تدفع الكراهة، كالضَبَّة الصغيرة للحاجة" اهـ.
كما أن هؤلاء الأفراد بالتحاقهم بالكليات الشرطية أو العسكرية قد ارتضَوا الانصياع لما ينظم سير الأمور فيها وفي عملهم في هذا السلك فيما بعد؛ والقاعدة الشرعية: أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا [غمز عيون البصائر للحموي 4/ 206، ط. دار الكتب العلمية]، وكذلك فإن الرضا بالشيء رضًا بما يتولد منه [المنثور للزركشي 2/ 176، ط. وزارة الأوقاف الكويتية].
ومع هذا كله فإننا نضيف أن من كان من هؤلاء الأفراد له قناعة شخصية بوجوب اللحية؛ اتباعًا لمن قال بهذا من العلماء، فإنه والحالة هذه يتأكد عليه أن يقلد قول القائلين بالكراهة؛ ليتخلص من الشعور النفسي بالإثم؛ لما تقرر من أن من ابتلي بشيء من المختلف فيه فإنه يقلد من أجازه من أهل العلم؛ تخلصًا من الحرمة، فإن أبى فله أن ينتقل إلى جهة أخرى أو إدارة غير شرطية لا تشترط حلق اللحية فيها.
وليس معنى قولنا بجواز تقليد المبيح أننا نجيز لأحد أن يخرج عن دائرة الشريعة بل المقصود بهذا هو تصحيح أفعال الناس ما أمكن، ولأن يُقدمَ المرء على فعل شيء وله وجه يجيزه شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له مندوحة بأن يقلد من أجاز.
وأما الجهات النظامية فإننا ننصحها بدراسة هذه التعليمات وإعادة النظر فيها لمعرفة مدى إمكانية السماح لأفرادها بإطلاق اللحية من عدمه، خاصة وأن هذا أمر مسموح به في بعض نظائرها في دول أخرى؛ وفي السماح بإطلاقها -عند عدم المصلحة في الأمر بحلقها- العمل بالسُّنَّة، والخروج من خلاف من أوجب إطلاقها، ومعلوم أن العمل بالسُّنَّة حتى وإن كانت من قبيل المندوبات المستحبات سبب عظيم للتأييد والتوفيق وجلب النصر، وكذلك فإن الخروج من الخلاف مستحب مراعاة لأصل الاحتياط الذي هو مطلوب شرعي مطلق؛ قال الإمام تقي الدين السبكي في قواعده [1/ 111، ط. دار الكتب العلمية]: "اشتهر في كلام كثير من الأئمة ويكاد يحسبه الفقيه مجمعًا عليه... أن الخروج من الخلاف أولى وأفضل" اهـ. ولكن على الأفراد الالتزام بالتعليمات إلى حين ذلك التغيير إن حصل وتَم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
شراكة غير المسلم
المبـــــــادئ
1- أباح فقهاء المسلمين تعامل المسلم مع غير المسلم بأنواع العقود الصحيحة بشروطها المعروفة.
2- المالكية والحنابلة يجيزون الشركة بين المسلم والكافر بشرط أن لا يتصرف الكافر إلا بحضور شريكه المسلم، وذهب الشافعية وأبو يوسف من الحنفية إلى الجواز أيضًا لكن مع الكراهة.
3- ثمن الخمر والخنزير مما باعه غير المسلم قبل مشاركة المسلم يجوز مشاركته فيه.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 193 لسنة 2011 والمتضمن: هل تجوز مشاركة المسلم لغير المسلم في تجارة ونحوها؟
الجــــــــــواب
قال الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ} [الحجرات: 13]، وقال تعالى: {لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فبيَّن الله تعالى أنه خلق الناس ليعيشوا في تعارف ووئام، وليكون البر والعدل في المعاملة هو الأساس بينهم، ولو كان الذين يتعاملون مع المسلمين من غيرهم.
ولما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- خير من طبق القرآن في الحياة، نراه قد عمل بهذه المفاهيم في حياته الخاصة والعامة كفرد من أفراد المجتمع وكقائد لدولة الإسلام، ومن كل من الأمرين نأخذ التشريع والأسوة الحسنة، ففي حياته الخاصة مات -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي كما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، وفي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر.
ولقد فهم هذا الأمر ووعاه فقهاء المسلمين، فأباحوا التعامل للمسلم مع غير المسلم بأنواع العقود الصحيحة، سواء كانت عقود تبرعات كالهبة والهدية والوصية، أو كانت عقود معاوضات كالبيوع والإجارة والزواج بشروطها المعروفة.
وأما المشاركات فلا تختلف عن ما سبق، وإنما كرهها بعض أهل العلم خوفًا من ملابسة الشريك غير المسلم لمعاملة غير جائزة في دين الإسلام، فإذا كانت هذه هي العلة فلا بأس حينئذ بالمشاركة مع الاحتراز؛ فإن العلة إذا زالت زال المعلول.
وأما من علل الكراهة بخبث كسبهم لبيعهم ما لا يجوز عندنا، فالجواب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عاملهم مع علمه بما ذكر. قال ابن القيم: وقد عللت طائفة كراهة مشاركتهم بأن كسبهم غير طيب فإنهم يبيعون الخمر والخنزير، وهذه العلة لا توجب الكراهة؛ فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا". وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه، وثمنُه حلال؛ لاعتقادهم حله، وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسد؛ فإن الشريك وكيل والعقد يقع للموكِّل، والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير. أحكام أهل الذمة (1/ 560).
ويمكن تلخيص كلام أهل العلم بأن المالكية والحنابلة يجوزون الشركة بين المسلم والكافر، بشرط أن لا يتصرف الكافر إلا بحضور شريكه المسلم؛ لأن ارتكابه المحظورات الشرعية في تصرفاته للشركة يؤمن حينئذ.
وذهب الشافعية وأبو يوسف من الحنفية إلى الجواز أيضًا لكن مع الكراهة؛ لأن الكافر لا يهتدي إلى وجوه التصرفات المشروعة في الإسلام، وعند أبي حنيفة ومحمد: لا تجوز الشركة بين المسلم والكافر؛ لأن الكافر يسعه أن يشتري الخمر والخنزير ويبيعهما، وليس كذلك المسلم.
والموضوع وإن كان له تفصيل في الشركات في بعض المذاهب، إلا أن هذا لا يعنينا الآن تفصيله؛ لأن المراد إنما هو بيان أصل المسألة عند العلماء، لا تحقيق مسألة ما في مذهب معين، وهذه بعض أقوال الفقهاء: ففي شركة المفاوضة عند الأحناف يقول الزيلعي:
"وَلا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالممْلُوكِ وَلا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ" لانْعِدَامِ المسَاوَاةِ؛ لأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ، وَالممْلُوك لا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلا بِإِذْنِ الموْلَى، وَالصَّبِيُّ لا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَلا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ. قَالَ: "وَلا بَيْنَ المسْلِمِ وَالْكَافِرِ" وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا كَالمفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ. وَيَتَفَاوَتَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، إِلا أَنَّهُ يُكْرَهُ لأَنَّ الذِّمِّيَّ لا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ المالِ خُمُورًا أَوْ خَنَازِيرَ صَحَّ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ لا يَصِحُّ". شرح فتح القدير على الهداية 5/ 7 مع فتح القدير. ط الأميرية – بولاق.
وفي المضاربة يقول الكاساني: "وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَهُمَا رَبُّ المالِ وَالمضَارِبُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ المالِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا رَبُّ المالِ وَالمضَارِبُ، فَأَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ؛ لأَنَّ المضَارِبَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ رَبِّ المالِ، وَهَذَا مَعْنَى التَّوْكِيلِ، وَقَدْ ذَكَرَ شَرَائِطَ أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَلا يُشْتَرَطُ إسْلامُهُمَا، فَتَصِحُّ المضَارَبَةُ بَيْن أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ المسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ المسْتَأْمَنِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الإِسْلامِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ مَالَهُ إلَى مُسْلِمٍ مُضَارَبَةً، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالَهُ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأَنَّ المسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَالمضَارَبَةُ مَعَ الذِّمِّيِّ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ المسْتَأْمَنِ". بدائع الصنائع (6/ 81) ط. المكتبة العلمية - بيروت.
وقال الزيلعي: "(وَهِيَ مُفَاوَضَةٌ إنْ تَضَمَّنَتْ وَكَالَةً وَكَفَالَةً وَتَسَاوَيَا مَالا وَتَصَرُّفًا وَدَيْنًا) أَيْ شِرْكَةُ الْعَقْدِ تَكُونُ مُفَاوَضَةً بِهَذِهِ الشُّرُوطِ المذْكُورَةِ؛ لأَنَّ المفَاوَضَةَ تُنْبِئُ عَنْ المسَاوَاةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا ....... وَإِنَّمَا شَرَطَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي التَّصَرُّفِ لأَنَّ المسَاوَاةَ شَرْطٌ فِيهَا وَهِيَ تَفُوتُ عِنْدَ فَوَاتِ المسَاوَاةِ فِي التَّصَرُّفِ كَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ أَوْ الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ؛ لأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، وَهُمَا لا يَمْلِكَانِهِ إلا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَالموْلَى، وَلأَنَّهُمَا لا يَمْلِكَانِ التَّكْفِيلَ لِكَوْنِهِ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً وَهُوَ شَرْطٌ فِيهَا، وَاشْتَرَطَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الدِّيْنِ لأَنَّ الاخْتِلافَ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى الاخْتِلافِ فِي التَّصَرُّفِ؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا اشْتَرَى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لا يَقْدِرُ المسْلِمُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى بَيْعِ جَمِيعِ مَا اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ؛ لِكَوْنِهِ وَكِيلا لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَكَذَا المسْلِمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شِرَائِهِمَا كَمَا يَقْدِرُ الْكَافِرُ عَلَيْهِ فَفَاتَ الشَّرْطُ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجُوزُ بَيْنَهُمَا؛ لأَنَّ كُلا مِنْهُمَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الْكَفَالَةِ وَالْوَكَالَةِ، وَلا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا إلا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لأَنَّ الْكَافِرَ لا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهَا تَجُوزُ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا فِي بَيْعِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَشِرَائِهِ، وَجَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ، وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ الْحَنَفِيَّ وَالشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَفَاضَلا فِي التِّجَارَةِ وَضَمَانِهَا؛ لأَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ شِرَاءَ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ جَائِزٌ لَهُمَا، وَفِي زَعْمِ الْحَنَفِيِّ جَائِزٌ لَهُمَا، فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي التَّصَرُّفِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اعْتِقَادِهِمَا، وَكَذَا المحَاجَّةُ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ، بِخِلافِ المسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَتَجُوزُ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ لاسْتِوَائِهِمَا فِي مِلْكِ التَّصَرُّفِ وَالْكَفَالَةِ، وَلا تَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلا بَيْنَ الصَّغِيرَيْنِ وَلا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْبَالِغِ؛ لِفَقْدِ شَرْطِهَا وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَالْكَفَالَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لا تَصِحُّ فِيهِ المفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِنَانِ كَانَ عِنَانًا لاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ؛ إذْ هُوَ أَخَصُّ، فَإِذَا بَطَلَ الأَخَصُّ تَعَيَّنَ لَهُ الأَعَمُّ. قَالَ رحمه الله: (فَلا تَصِحُّ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَصَبِيٍّ وَبَالِغٍ وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ) لِمَا ذَكَرْنَا". تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 314) ط. دار الكتاب الإسلامي.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي:
"وَيُكْرَهُ مُشَارَكَةُ الْكَافِرِ وَمَنْ لا يَحْتَرِزُ مِنْ الشُّبْهَةِ". نهاية المحتاج (5/ 5) ط. مصطفى الحلبي 1357هـ.
وقال العدوي المالكي:
"وَلا يَصِحُّ مُشَارَكَةُ عَبْدٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ وَلا صَبِيٍّ وَلا سَفِيهٍ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْكِيلِ المحْجُورِ عَلَيْهِ كَتَوَكُّلِهِ عَلَى إحْدَى طَرِيقَتَيْنِ مُرَجَّحَتَيْنِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ المحْجُورِ الزَّوْجَةُ، فَلَهَا أَنْ تُوَكِّلَ فِي لَوَازِمِ عِصْمَتِهَا، وَأَوْرَدَ شركةَ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ، وَشركةَ الذِّمِّيِّ لِمُسْلِمٍ لِصِحَّةِ شِرْكَتِهِمَا عَلَى المعْتَمَدِ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ تَوَكُّلِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْكَافِرِ عَلَى المسْلِمِ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ التَّوْكِيلِ، لَكِنَّ جَوَازَهَا فِي الأَوَّلِ بِلا قَيْدٍ، وَفِي الثَّانِي بِقَيْدِ حُضُورِ المسْلِمِ لِتَصَرُّفِ الْكَافِرِ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ فَلا يَجُوزُ. وَتَصِحُّ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ حَصَلَ لِلْمُسْلِمِ شَكٌّ فِي عَمَلِ الذِّمِّيِّ بِالرِّبَا اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ}، وَإِنْ شَكَّ فِي عَمَلِهِ بِهِ فِي خَمْرٍ نُدِبَ لَهُ التَّصَدُّقُ بِرِبْحِهِ وَرَأْسِ المالِ جَمِيعًا؛ لِوُجُوبِ إرَاقَةِ الْخَمْرِ عَلَى المسْلِمِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِمَالٍ حَلالٍ، وَإِنْ تَحَقَّقَ عَمَلُهُ بِالرِّبَا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ فَقَطْ، وَإِنْ تَحَقَّقَ تَجْرُهُ بِخَمْرٍ وَجَبَ عَلَى المسْلِمِ التَّصَدُّقُ بِرَأْسِ مَالِهِ وَالرِّبْحِ مَعًا". حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/ 202) ط. دار الفكر.
وقال ابن قدامة الحنبلي:
"وَهَذَا الْبَابُ لِشَرِكَةِ الْعُقُودِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ خَمْسَةٌ: شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَالأَبْدَانِ، وَالْوُجُوهِ، وَالمضَارَبَةِ، وَالمفَاوَضَةِ، وَلا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ؛ لأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي المالِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي المالِ كَالْبَيْعِ. فَصْلٌ قَالَ أَحْمَدُ: يُشَارَكُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، وَلَكِنْ لا يَخْلُو الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِالمالِ دُونَهُ وَيَكُونُ هُوَ الَّذِي يَلِيهِ؛ لأَنَّهُ يَعْمَلُ بِالرِّبَا. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ، وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ مُشَارَكَتَهُمْ مُطْلَقًا؛ لأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُشَارِكَ المسْلِمُ الْيَهُودِيَّ، وَلا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَلأَنَّ مَالَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لَيْسَ بِطَيِّبٍ، فَإِنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْخَمْرَ، وَيَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا، فَكُرِهَتْ مُعَامَلَتُهُمْ. وَلَنَا مَا رَوَى الْخَلالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَنْ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، إلا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ بِيَدِ المسْلِمِ. وَلأَنَّ الْعِلَّةَ فِي كَرَاهَةِ مَا خَلَوَا بِهِ مُعَامَلَتُهُمْ بِالرِّبَا، وَبَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَا حَضَرَهُ المسْلِمُ أَوْ وَلِيَهُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ عَلَّلَ بِكَوْنِهِمْ يُرْبُونَ. كَذَلِكَ رَوَاهُ الأَثْرَمُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لا تُشَارِكَنَّ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلا مَجُوسِيًّا؛ لأَنَّهُمْ يُرْبُونَ، وَأَنَّ الرِّبَا لا يَحِلُّ. وَهُوَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَثْبُتْ انْتِشَارُهُ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ لا يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَمْوَالَهُمْ غَيْرُ طَيِّبَةٍ، لا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ قَدْ عَامَلَهُمْ، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى شَعِيرٍ أَخَذَهُ لأَهْلِهِ، وَأَرْسَلَ إلَى آخَرَ يَطْلُبُ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ إلَى الميْسَرَةِ، وَأَضَافَهُ -صلى الله عليه وسلم- يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ. وَلا يَأْكُلُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَا لَيْسَ بِطَيِّبٍ، وَمَا بَاعُوهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ قَبْلَ مُشَارَكَةِ المسْلِمِ، فَثَمَنُهُ حَلالٌ؛ لاعْتِقَادِهِمْ حِلَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا. فَأَمَّا مَا يَشْتَرِيه أَوْ يَبِيعُهُ مِنَ الْخَمْرِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ أَوْ المضَارَبَةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لأَنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ، وَالمسْلِمُ لا يَثْبُتُ مِلْكُهُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى بِهِ مَيْتَةً، أَوْ عَامَلَ بِالرِّبَا، وَمَا خَفِيَ أَمْرُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ فَالأَصْلُ إبَاحَتُهُ وَحِلُّهُ، فَأَمَّا المجُوسِيُّ فَإِنَّ أَحْمَدَ كَرِهَ مُشَارَكَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ، قَالَ: مَا أُحِبُّ مُخَالَطَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ؛ لأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ مَا لا يَسْتَحِلُّ هَذَا. قَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ عَمِّي: لا تُشَارِكْهُ وَلا تُضَارِبْهُ. وَهَذَا -وَاَللهُ أَعْلَمُ- عَلَى سَبِيلِ الاسْتِحْبَابِ، لِتَرْكِ مُعَامَلَتِهِ وَالْكَرَاهَةِ لِمُشَارَكَتِهِ، وَإِنْ فَعَلَ صَحَّ؛ لأَنَّ تَصَرُّفَهُ صَحِيحٌ. المغني المطبوع مع الشرح الكبير (5/ 109) ط. الكتاب العربي.
والخلاصة أنه تصح المشاركة بين المسلم وغير المسلم، مع الضوابط المذكورة، خاصة مع وجود الدفاتر التي تُلزم بإظهارها الشركات من أجل الضرائب وغيرها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
شراء بضائع الجمارك
السؤال
ما حكم الاشتراك في مزاد يقام على الأشياء التي صادرتها الجمارك؟
الجواب
تعلن هيئة الجمارك أحيانا عن بيع السلع والبضائع التي لديها، وهذه الأشياء المعروضة للبيع ليست ملكا أصليًّا للجمارك، وإنما استولت عليها من أصحابها، الذين تعلم أصحابها في غالب الأمر، وهي تحصل عليها لأسباب مختلفة، ويتبين ذلك من خلال ما نص عليه قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963م، وما جاء فيه من مواد بخصوص واقعة السؤال، من المادة 121 إلى المادة 129، وما أفادته تلك المواد من أنواع الجرائم الخاضعة لهذا القانون، والعقوبات المقررة لها، وهي مصلحة الجمارك في بيع البضائع التي تستحوذ عليها بعد المهل التي حددتها في هذا القانون.
و"الجمرك" جعل يؤخذ على البضائع الواردة من البلاد الأخرى "أصله كمرك تركية" وعربيته "مكس". (ينظر: المعجم الوسيط، 1/ 134، مادة: ج م ر، ط. دار الدعوة).
وهو نوع من أنواع الضريبة، وهي: ما يفرض على الملك والعمل والدخل للدولة، وتختلف باختلاف القوانين والأحوال، كما في المعجم الوسيط [1/ 537، مادة: ض ر ب].
والكلام في حكم هذه المسألة يتطلب الكلام على حكم الضريبة، ثم على حكم بيع بضائع الجمارك، ثم على حكم بيع المزاد.
أولًا: حكم فرض الضريبة على المحكومين من قبل الحاكم:
يجوز للحاكم أن يفرض على الناس ضريبة إذا احتاج إليها ليصرف على مصالح الناس العامة، بشرط عدم وجود ما يكفي في بيت المال.
ويستدل لذلك بأن الضرورات تبيح المحظورات، فإذا كثرت مصارف الدولة العامة وضاق عن ذلك بيت المال، فقد صار فرضا كفائيا على المسلمين أن يسدوا تلك المصالح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وهذه المسألة لها تعلق بما يعرف في الفقه بمسألة: هل في المال حق سوى الزكاة أو لا؟ والراجح أنه يجب إن كان للمسلمين حاجة في ذلك كما بينا، وسيأتي أدلة ذلك في كلام القرطبي، وولي الأمر مكلف بجمع ذلك منهم، لكن لا تكلف نفس إلا وسعها، وبمثل قولنا صرحت طوائف من أهل العلم:
قال القرطبي: "قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة، وبها كمال البرِّ. وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في المال حقا سوى الزكاة))، ثم تلا هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث. قوله: وهو أصح. قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، والله أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله". [الجامع لأحكام القرآن 2/ 242، ط. دار الكاتب العربي].
وقال ابن عابدين: "في القنية: وقال أبو جعفر البلخي: ما يضربه السلطان على الرعية مصلحةً لهم يصير دينًا واجبًا وحقا مستحقا كالخراج، وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا حتى أجرة الحراسين؛ لحفظ الطريق واللصوص ونصب الدروب وأبواب السكك وهذا يعرف، ولا يعرف خوف الفتنة، ثم قال: فعلى هذا ما يؤخذ في خوارزم من العامة لإصلاح مسناة الجيحون أو الربض ونحوه من مصالح العامة دين واجب لا يجوز الامتناع عنه، وليس بظلم ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه لا للتشهير حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق، اهـ. قلت: وينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لذلك لما سيأتي في الجهاد من أنه يكره الجعل إن وجد فيء". [رد المحتار على الدر المختار 2/ 57، ط. إحياء التراث].
وقال أبو يعلى الحنبلي: "والضرب الثاني أن يكون مصرفه مستحقا على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل، فاستحقاقه معتبر بالوجود دون العدم، فإن كان موجودا في بيت المال وجب فيه وسقط فرضه على المسلمين، وإن كان معدوما سقط وجوبه عن بيت المال. وكان -إن عم ضرره- من فروض الكفاية على كافة المسلمين حتى يقوم به منهم من فيه كفاية كالجهاد. وإن كان مما لا يعم ضرره كوعورة طريق قريب يجد الناس غيره طريقا بعيدا، أو انقطاع شرب يجد الناس غيره شربا، فإذا سقط وجوبه عن بيت المال بالعدم سقط وجوبه عن الكافة لوجود البدل. فلو اجتمع على بيت المال حقان، ضاق عنهما واتسع لأحدهما صرف فيما يصير منهما دينا فيه. ولو ضاق عن كل واحد منهما كان لولي الأمر إذا خاف الضرر والفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الأرفاق، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذا بقضائه إذا اتسع له بيت المال. وإذا فضلت حقوق بيت المال عن مصرفها فقد قيل: إنها تدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث، وقيل: إنها تفرق على من يعم به صلاح المسلمين ولا تدخر، لأن النوائب يتعين فرضها عليهم إذا حدثت. فهذه الأقسام الأربعة التي وضعت عليها قواعد الديوان". [الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص253، ط. دار الكتب العلمية].
ثانيًا: بخصوص حكم الجمارك:
فالأصل أنها جزء من الضرائب، لكنها تزيد على ذلك أن فيها جزءا يؤخذ على سبيل التعزير كما سبق في تصوير المسألة، ومسألة التعزير بالمال جائزة، لما ورد فيها من نصوص، وعمل بها بعض الخلفاء، ونص عليها بعض الفقهاء، وقد ذكر كل ذلك بأدلته:
قال ابن القيم: "وأما التعزير بالعقوبات المالية، فمشروع أيضًا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد، وأحد قولي الشافعي، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع: منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده. ومثل أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها. ومثل أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين. ومثل أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الإنسية، ثم استأذنوه في غسلها، فأذن لهم. فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة لم تكن واجبةً بالكسر. ومثل هدمه مسجد الضرار. ومثل تحريق متاع الغالّ. ومثل حرمان السلب الذي أساء على نائبه. ومثل إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر. ومثل إضعافه الغرم على كاتم الضالة. ومثل أخذه شطر مال مانع الزكاة، عزمةً من عزمات الرب تبارك وتعالى. ومثل أمره لابس خاتم الذهب بطرحه، فطرحه، فلم يعرض له أحد. ومثل تحريق موسى عليه السلام العجل وإلقاء برادته في اليم. ومثل قطع نخيل اليهود، إغاظةً لهم. ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر. ومثل تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص، لما احتجب فيه عن الرعية، وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها. ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل سائغ في مذهب أحمد وغيره، وكثير منها سائغ عند مالك، وفِعْلُ الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطلٌ أيضًا لدعوى نسخها، والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة، ولا إجماع يصحح دعواهم". [الطرق الحكمية لابن القيم ص207- 209، ط. الكتب العلمية].
ثالثًا: بخصوص حكم البيع بالمزاد:
فالبيع بالمزاد الراجح جوازه، وقد أفردنا هذه المسألة بفتوى مستقلة، فليراجعها من شاء.
والخلاصة: أنه يجوز شراء الأشياء المعروضة للبيع بالمزاد بالجمارك إذا كانت الطريقة التي تم تملكها بها لا تخالف الشريعة، والله تعالى أعلم.
حكم امتداد عقد الإيجار وفقا للقانون
المبـــــــادئ
1- تقرر في قواعد الشرع أنَّ تصرف ولي الأمر على الرعية مَنوطٌ بالمصلحة، وأنّ له سُلطة تقييد المباح.
2- تقاضي المستأجر مبلغًا ماليًّا مِن المالك المؤجر نظير التنازل عن عقد الإيجار الساري، وهو ما يسمى بـ "خلوّ الرجل" لا مانع منه شرعًا إذا اتفق الطرفان على المبلغ المدفوع. ويقسم بين المنتفعين بامتداد العقد بالسوية.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم: 946 لسنة 2009م المتضمن:
شقة إيجار بمدينة نصر باسم والدي من سنة 1972م، توفي الوالد سنة 1998م وترك في العين: الزوجة، وأنا، والأخت الصغرى، وأختًا أخرى تزوجت بعد وفاته بـ 8 شهور وانتقلت إلى بيت زوجها، أما باقي الإخوة، وهم: أخ وأخت متزوجان ومستقلان عنا مِن قبل وفاة الوالد.
السؤال عن هذه الشقة: أراد صاحب العقار هدمه وإخلاء مَن فيه في مقابل مبلغ 500000 جنيه، من له حق في هذا المبلغ؟ وإذا تم شراء شقة تمليك فباسم مَن تُكتَب؟ مع العلم أني سأتزوج بعد حوالي ثلاثة أشهر.
الجــــــــــواب
عقد الإيجار له قوانين تُنَظِّمه، وهذه القوانين منها ما يتعلق بما يسمى بـ "امتداد عقد الإيجار"؛ ومفهوم الامتداد هنا هو أن عقد الإيجار لا ينقضي بانتهاء مدته العَقدية، بل يمتد تلقائيًّا وبحكم القانون إلى مستفيدين معينين منصوص عليهم في القانون.
وقد فرض القانون المصري امتداد عقود الإيجار إلى مدة غير محددة ودون حاجة إلى توافق إرادة المتعاقدين على ذلك بنصوص آمرة تتعلق بالنظام العام.
وقد حَدَّد القانون المستفيدين بامتداد عقد الإيجار في عَدَدٍ محدودٍ مِن الأقارب؛ وقد جاء في المادة 29 مِن قانون 49 لسنة 1977م بشأن إيجار الأماكن أنه: "لا ينتهي عَقدُ إيجار المسكَن بوفاة المستأجر أو تركِه العَينَ إذا بقي فيها زوجُه أو أولادُه أو أيٌّ مِن والديه الذين كانوا مقيمين معه حتى الوفاة أو الترك. وفي جميع الأحوال يلتزم المؤجر بتحرير عقد إيجار لمن لهم حقٌّ في الاستمرار في شَغل العين، ويُلزَم هؤلاء الشاغلون بطريق التضامن بكافة أحكام العقد". فيُعلَم مِن هذه المادة أنه يستفيد مِن الامتداد كل مِن: الزوجين، والأولاد: الذكور والإناث، والوالدَين الذين كانوا يقيمون مع المستأجر في تاريخ الوفاة أو الترك.
وهؤلاء الأقارب جميعًا يستفيدون مِن الامتداد القانوني، ولم يَرِد في النصوص القانونية ما يفيد أنه يُتَدَرَّج في بقائهم، بل يثبت الامتداد لصالحهم مجتمعين، كما كانوا مستفيدين جميعًا بالإقامة قبل الوفاة أو الترك، فيشتركون جميعًا أيضًا بعد الوفاة أو الترك في الانتفاع بكامل العين، فإذا ما ترك أحدُهم الإقامة بالعين خلص الحق للآخرين.
والمقصود بالإقامة المذكورة في المادة السابقة هو الإقامة المستقرة المعتادة المستمرة حتى الوفاة أو الترك؛ بحيث تكون نية المقيم منصرفة إلى أن يجعل من هذا المسكن مراحه ومغداه؛ فلا يعوِّل على مأوى ثابت ودائم سواه، فتخرج بذلك الإقامة العَرَضِيّة والعابرة المؤقتة مهما استطالت، أيًّا كان الباعث عليها والداعي لها.
وكذلك لم يشترط القانون في الزوجين والأولاد والوالدَين استمرارَ الإقامة مدة معينة، بل يكفي مُجَرَّد الإقامة المستقرة وقت الوفاة أو الترك. ومنه يُعلَم أيضًا أنه لا يَلزم أن يكون المستفيد وارثًا، إذ قد يتمتع بحق الامتداد ويقوم به مانع من موانع الإرث، وكذلك لا يلزم أن يكون كل وارث مستفيدًا، بل قد لا يكون مِن حق الوارث البقاء إذا لم تتوفر لديه شروط المادة 29.
وهذه القوانين والنظم هي مِن المسائل الخاضعة لما يراه ولي الأمر مِن المصلحة الراجحة، فيَسُنّ القانون المنظِّم لها بما يتناسب مع المصلحة العامة، والمصلحة هنا تنسجم مع كون المسكن ذا طابع عائلي غالبًا؛ حيث يتعاقد عليه المستأجر ليسكن فيه مع أسرته، وهؤلاء الأقارب المعينين هم الذين يعيشون في كنف المستأجر، ومنهم تتكون الأسرة في كثير من الأحيان.
وقد تقرر في قواعد الشرع أنَّ تصرف ولي الأمر على الرعية مَنوطٌ بالمصلحة، وأنَّ وليَّ الأمر له سُلطة تقييد المباح، والمقصود بالتقييد هنا أنّ ولي الأمر له الحق في اختيار أحد الأمرين: الفعل أو الترك لأحد أفراد المباح الذي يجوز فعله أو تركه ابتداء، ثم إلزام الناس بهذا الاختيار بمقتضى الصلاحية التي أعطاها له الشرع.
وأصل هذا قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡ} [النساء: 59]، قال العلامة ابن عاشور في تفسيره: "أولو الأمر مِن الأمّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنّه مِن خصائصهم. فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضا أهل الحَلّ والعقد".اهـ. 5/ 97، 98، ط: الدار التونسية للنشر.
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «السمعُ والطاعةُ على المَرءِ المُسلِم فيما أَحَبّ وكَرِه، ما لم يؤمَر بمعصيةٍ، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعَة».
وروى الترمذي وأصله في صحيح مسلم عن وائل بن حُجر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سأله رجل فقال: «أرأيتَ إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عَلَيهم ما حُمِّلوا وعَلَيكُم ما حُمِّلتُم».
وروى الحافظ البيهقي في سننه الكبرى، وابن أبي شيبة في مصنفه واللفظ له: "أنّ حُذيفة بن اليَمَان -رضي الله عنه- تزوج امرأةً يهودية، فكتب إليه عمر أن خلِّ سبيلها، فكتب إليه: إن كانت حرامًا خليتُ سبيلها، فكتب إليه: إني لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطَوْا المومسات منهن".
فهذا عمر -رضي الله عنه- قد قَيَّد الزواج من الكتابيات في زمنه بالمنع لَمّا خشي أن يتساهل الناس في تحري الزواج مِن العفيفات منهن، وهذا الصنيع منه ليس تحريمًا للحلال، بل تقييدًا للمباح للمصلحة العامة. أصرح منه ما رواه الأزرقي في أخبار مكة أنه لَمّا ضاق المسجد الحرام على الناس عمد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الدور المحيطة به فاشتراها من أصحابها وهدمها لتوسعة المسجد، فلما أبى بعضهم أن يأخذ الثمن وتمنع مِن البيع وضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، وقال لهم عمر: "إنما نَزَلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تَنزِل الكعبةُ عليكم"، وهذه الواقعة نَصٌّ في جواز تدخل ولي الأمر في الملكية الفردية، ولا شك أن إلزام المالك بمدِّ عقد الإيجار أخف مِن إجباره على بيعه.
وقد نَصّ العلماء على هذا المعنى؛ مِن ذلك ما جاء في كتب السادة الشافعية مِن أن وليّ الأمر إذا أمر بمستحب أو مكروه أو مباح وَجَب فعله؛ قال الإمام ابن حجر الهيتمي في فتاواه الفقهية 1/ 278، ط: المكتبة الإسلامية: "قولهم: تجب طاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه ما لم يخالف حكم الشرع. والظاهر أن مرادهم بمخالفة حكم الشرع: أن يأمر بمعصية أو ينهى عن واجب، فشمل ذلك المكروه، فإذا أمر به وجب فعله؛ إذ لا مخالفة حينئذ. وظاهر كلامهم أن الصدقة تصير واجبة إذا أمر بها، وهو كذلك، لكن يتحقق الوجوب بأقل ما ينطلق عليه اسم الصدقة، كما هو ظاهر".اهـ.
أما بخصوص تقاضي المستأجر مبلغًا ماليًّا مِن المالك المؤجر نظير التنازل عن عقد الإيجار الساري، وهو ما يسميه الناس الآن بـ "خلوّ الرجل" أو "بدل الخلو" أو "الفروغ" أو "بيع المفتاح" فلا مانع منه شرعًا إذا اتفق الطرفان على المبلغ المدفوع؛ لأنه من باب بيع المنافع، وحقيقة الإجارة تمليك المنفعة بعوض، فكأن المستأجر يتنازل عن حقه في المنفعة نظير المقابل المعيَّن.
قال القرافي في كتابه الفروق في الفرق الثلاثين بين قاعدة تمليك الانتفاع وبين قاعدة تمليك المنفعة 1/ 187، ط: عالم الكتب: "أما مالك المنفعة فكمن استأجر دارًا أو استعارها فله أن يؤاجرها مِن غيره أو يُسكنه بغير عِوَض ويتصرّف في هذه المنفعة تَصَرُّف الملاك في أملاكهم على جري العادة على الوجه الذي ملكه، فهو تمليكٌ مُطلقٌ في زمن خاص حسبما تناوله عقدُ الإجارة أو أشهدت به العادة في العارية، فمن شهدت له العادة في العارية بمدة كانت له تلك المدة ملكًا على الإطلاق يتصرف كما يشاء بجميع الأنواع السائغة في التصرف في المنفعة في تلك المدة ويكون تمليك هذه المنفعة كتمليك الرقاب".اهـ.
وقال إمام المالكية في زمانه الشيخ محمد عليش في شرحه لمختصر خليل 7/ 493، ط: دار الفكر: "قاعدة: مَن مَلَك المنفعة فله المعاوضة عليها وأخذ عوضها، ومَن ملك الانتفاع بنفسه فقط فليس له المعاوضة عليها ولا أخذ عوضها؛ كساكن المدرسة والرباط والجالس في المسجد أو في الطريق، فليس لأحد إيجار مكانه مِن المسجد أو المدرسة أو الرباط أو الطريق؛ لأنه لم يملك منفعته، بل مَلك انتفاعه بنفسه فقط". اهـ.
وقد أفتى بذلك جمعٌ مِن علماء المالكية؛ ولبعض المتأخرين مِنهم رسالةٌ بعنوان: جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات عند التونسيين؛ لمفتي المالكية بتونس الشيخ إبراهيم الرياحي 1266هـ، والشيخ محمد بيرم الرابع التونسي، ومفتي المالكية الشيخ الشاذلي بن صالح باس، والشيخ محمد السنوسي قاضي تونس، يقررون فيها جواز المعاوضة عن الخلوات؛ عملا بالعرف والعادة؛ ولأن المستأجر يملك المنفعة فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالإعارة، وقد نقل البناني فتوى الفاسِيِّين بجواز بيع الخلو.
وقال الشيخ محمد بيرم: "وما أشبه الخلو بالمغارسة، غير أن الخلو لا تحصل به ملكية الرقبة لتعلقه بالمنفعة".
وألّف أيضًا الشيخ أحمد الفيومي الغرقاوي مِن متأخري المالكية رسالة أخرى بعنوان: "التنبيه بالحسنى في منفعة الخلو والسكنى في تحقيق مسألة الخلو بالعين المؤجرة للسكنى"، وتعرَّض لهذه المسألة الشيخ عليش في فتاواه: "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك " 2/ 250، ط: دار المعرفة - ونقل مواضع مطولة من رسالة الغرقاوي المذكورة.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة رقم 6 لعام 1408هـ الموافق 1988م ما نَصُّه: "إذا تَمَّ الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغًا مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل خلو الرجل هذا جائزٌ شرعًا؛ لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك".اهـ. على أنه ينبغي أن يُعلَم أن هذا المبلغ المُحَصَّل مِن المؤجر لا يقسم بين المنتفعين بامتداد عقد الإيجار قسمة الإرث؛ لأن الشقة المؤجرة لا تدخل ضمن تركة المستأجر عند وفاته، ولم يكن هذا المال داخلا في ملكه وقت وفاته، فيوَزَّع بين جميعهم بالسوية؛ لتساويهم جميعًا في سبب استحقاق هذا المال الذي آل إليهم عن طريق التنازل عن عقد الإيجار.
وعليه وفي واقعة السؤال: فإن المستفيدين من امتداد عقد الإيجار هم: الزوجة، والثلاث الأخوات اللاتي كن موجودات في العين المؤجرة عند وفاة الأب ما دامت قد تحققت فيهن الإقامة بمعناها الذي قد بيناه سابقًا، ولا حرج عليهن في أن يتقاضَين مِن مالك العقار مبلغًا متفقًا عليه بين الأطراف نظير تنازلهن عن عقد الإيجار وإخلاء العين، ويكون هذا المبلغ حقًّا خالصًا لهن دون أخيهن وأختهن اللذَين قد تزوجا واستقلا قبل وفاة والدكم، ويوزع هذا المبلغ عليكن بالسوية، وإذا اتفقتن على شراء شقة تمليك به، فإنها تكتب باسمكن جميعًا.
هذه هي الحقوق، أما إذا أردتن استرضاء أخيكن وأختكن المذكورَين؛ بأن تتنازل كلُّ واحدة منكنّ عن شيء مِن حصتها؛ صلة للأرحام وجبرانًا للخواطر، فهو أمر حَسَنٌ محمودٌ تؤجرن عليه ويبقى لكن في العاقبة، على أن يكون ذلك بالتراضي والتسامح لا بالجبر والقهر، هذا إذا كان الحال كما ورد بالسؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم
أسئلة عن المعاق ذهنيًّا
المبـــــــادئ
1- الزواج حق من حقوق المعاق ذهنيًّا؛ ثابت له بمقتضى الجِبِلَّة والبشريّة والطَّبع.
2- أثبت الشرع الشريف سلطة ولاية أمر المجنون للغير؛ ومن التصرفات التي يجوز للولي إيقاعها: تزويج المجنون الذي تحت ولايته؛ لمصلحة إعفافه.
3- ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه ليس للولي أن يطلق زوجة المجنون -وفي معناه المعاق ذهنيًّا- الذي تحت ولايته عليه.
4- الأصل في الولي أنه كما ينوب عن المجنون في إدارة شؤونه فكذلك ينوب عنه فيما يتعلق بإدارة شؤون أسرته.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 560 لسنة 2010م المتضمن السؤال عن الآتي:
1- حكم زواج المعاقين ذهنيًّا، وإنجابهم بعد ذلك.
2- هل يصح من المعاق ذهنيًّا أن يوقع الطلاق؟
3- مدى ولاية ولي المعاق ذهنيًّا على زوجة المعاق وأولاده.
4- إذا كان الزواج من المعاق ذهنيًّا يخفي غرض الحصول على منفعة مادية من ورائه، هل يكون الزواج حينئذٍ باطلا؟
الجــــــــــواب
أولا: الزواج حق من حقوق المعاق ذهنيًّا؛ ثابت له بمقتضى الجِبِلَّة والبشريّة والطَّبع؛ لأنه إنسان مُرَكَّبٌ فيه الشهوةُ والعاطفةُ، ويحتاج إلى سَكَنٍ ونَفَقَة ورعاية وعناية، شأنه شأن بقية بني جنسه، مع زيادته عليهم باحتياجه لرعاية زائدة فيما يرجع إلى حالته الخاصة.
وكما أن ذلك الحق ثابت له طبعًا، فهو ثابت له شرعًا؛ فإذا كانت الشريعة قد أجازت للمجنون جنونًا مُطبَقًا أن يتزوج، فإن من كان في مرتبةٍ دون هذه المرتبة -كالمعاق إعاقة ذهنية يسيرة- يكون زواجه جائزًا من باب أولى، ولا حرج في ذلك، ما دام المعاق محوطًا بالعناية والرعاية اللازمتين.
والزواج عقد من العقود، متى توفرت فيه أركانه وشرائطه صَحّ وترتبت عليه آثارُه. ومن شروط صِحَّة العقود: أهليةُ المتعاقدَين، فإذا اختَلَّت هذه الأهلية بعارِضِ الجنون أو العَتَه: لم يَصِح للمجنون -ونحوه- أن يُباشِر الزواجَ بنفسه، ولو فَعَله لم يَنعَقد العقد؛ وذلك لأن النكاح تَصَرّفٌ مُتَوقِّف على القصد الصحيح، وهو لا يوجد إلا مع العَقل.
قال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 232، ط. دار الكتب العلمية): (لا يَنعقد نكاح المجنون والصبي الذي لا يَعقل؛ لأن العقل من شرائط أهلية التصرف).اهـ.
وبسبب هذا الاختلال في الأهلية فإن الشرع قد أثبت سلطة ولاية أمر المجنون للغير؛ لأجل تحقيق الحفظ والصيانة له، وبموجب هذه السُّلطة يقوم الوليُّ برعاية شؤون المُولى عليه المتعلقة بشخصه.
ومن التصرفات التي يجوز للولي إيقاعها: تزويج المجنون الذي تحت ولايته؛ لمصلحة إعفافه أو إيوائه وحفظه وصيانته.
قال الإمام النووي الشافعي في "الروضة" (5/ 435، ط. دار عالم الكتب): "إن كان المجنون كبيرًا لم يُزَوَّج لغير حاجة، ويُزَوَّج للحاجة، وذلك بأن تظهر رغبته فيهن؛ بدورانه حولهن، وتعلقه بهن، ونحو ذلك، أو بأن يحتاج إلى مَن يخدمه ويتعهده ولا يجد في محارِمه من يُحَصِّل هذا.. أو بأن يتوقع شفاؤه بالنكاح، وإذا جاز تزويجه تولاه الأب، ثم الجد، ثم السلطان، دون سائر العصبات، كولاية المال، وإن كان المجنون صغيرًا لم يصح تزويجه على الصحيح".اهـ.
وقال العلامة البُهُوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (5/ 45، ط. دار الكتب العلمية): "أمَّا المجنونة: فلجميع الأولياء تزويجها إذا ظهر منها الميل للرجال؛ لأن لها حاجة إلى النكاح؛ لدفع ضرر الشهوة عنها وصيانتها من الفجور وتحصيل المهر والنفقة والعفاف وصيانة العرض، ولا سبيل إلى إذنها، فأبيح تزويجها، ويعرف ميلها إلى الرجال مِن كلامها وتتبع الرجال وميلها إليهم ونحوه من قرائن الأحوال، وكذا إن قال ثقة من أهل الطب -إن تعذر غيره، وإلَّا فاثنان-: إنَّ علتها تزول بتزويجها، فلكل وليٍّ تزويجها؛ لأن ذلك من أعظم مصالحها؛ كالمداواة، ولو لم يكن للمجنونة ذات الشهوة ونحوها وليٌّ إلا الحاكم زَوَّجَها". اهـ بتصرف.
وغنيٌّ عن البيان أن المقصود من هيمنة الأولياء والأوصياء والكُفلاء هو محض المصلحة للمُولى عليه والموصى عليه والمكفول، لا أن يتحول الأمر إلى تجارة للرقيق الأبيض في صورة استخدام هؤلاء المعاقين استخدامًا غير آدمي وغير أخلاقي.
والأصل أن القيّم والوالدَين أو أحدهما تكون تصرفاته تجاه المعاق مقيدة بالمصلحة، دائرة معها؛ فإن كان في مصلحته من الناحية النفسية أو الصحية أو حتى المادية الزواج فلا يجوز له الحيلولة بينه وبين ذلك، بل قد يمكن التأليف بين الحالات المتشابهة أو القريبة التشابه لإحداث الزواج بينها من خلال الجمعيات الموثوقة والروابط التي تنتظم أمثالَ هؤلاء المعاقين ذهنيًّا، ويكون تأخير القائمين على هؤلاء في جلب مصلحة لهم -حيث توفرت مقدماتها- فيه تقصير وإثم بقدر تحقق تخلفهم عن توصيل هذا الخير الذي يغلب على الظن حصوله للمعاقين.
أما بخصوص الإنجاب فيما بعد: فمرجع ذلك إلى الخبراء وأهل الاختصاص، وهم من يُعرَف من خلالهم درجة المصلحة والمفسدة فيما يترتب على الإنجاب أو عدمه أو تأخيره أو تحديده بحسب المصلحة لكل حالة على حِدَتها، وهؤلاء هم الذين يستطيعون الحكم على قدرة المعاق ذهنيًّا على رعاية الأولاد في المراحل العمرية المختلفة من عدمها، وهل فرص حدوث توريث للمرض الذهني والعقلي قائمة؟ وما نسبة ذلك؟ وهل هذا الإنجاب يؤثر سلبًا على حالة الأب أو الأم؟ وغيرها من النظرات الاختصاصية التي يترجح معها الإنجاب أو عدمه، ويكون ذلك تحت رعاية وعناية وليِّ المعاق، وقد يحتاج الأمر للقاضي عند اللزوم أو التنازع.
ثانيًا: أما بخصوص طلاق المعاق ذهنيًّا: فالأصل في الطلاق أنه حَقٌّ يملكه الزوج وحده؛ لما رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إنما الطلاق لِمَن أَخَذ بالساق»، فلا يملك أحدٌ غير الزوج طلاق امرأته إلا إذا فوَّضه هو في ذلك، فيجوز حينئذ؛ لأن الأصل أن يتصرف الإنسان بنفسه. لكن هذا الأصل فيمن تصح عبارته. وناقص الأهلية ليس كذلك؛ فلا يصح طلاقه. وقد روى الأربعة عن علي وعائشة -رضي الله عنهما- واللفظ للنسائي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يَكبُر، وعن المجنون حتى يَعقل أو يُفيق».
وقد اختلف الفقهاء: هل للولي أن يطلق زوجة المجنون -وفي معناه المعاق ذهنيًّا- الذي تحت ولايته عليه؟ فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه ليس له ذلك. (انظر: المبسوط 25/ 24، ط. دار المعرفة- بيروت، رد المحتار 3/ 25، ط. دار الكتب العلمية؛ أسنى المطالب 2/ 212، ط. دار الكتاب الإسلامي، شرح منتهى الإرادات 3/ 59، ط. عالم الكتب).
ونُقِل عن بعض السلف جوازه (انظر: مصنف ابن أبي شيبة 4/ 27)، وبه قال فقهاء المالكية: (انظر: شرح الخرشي على مختصر خليل 4/ 17، ط. دار الفكر).
وقصر بعض الحنابلة جواز التطليق على الأب دون غيره ممن يملك التزويج من عموم الأولياء؛ كوَصِيّ الأب والحاكم. (المغني، 7/ 41).
والقانون المصري لم يُصَرِّح في مواده بحُكم تطليق ولِيّ المجنون على من تحت ولايته، إلا أن الفقه القانوني سار على مذهب الجمهور (انظر: موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية للمستشار محمد عزمي البكري، 4/ 20، ط. دار محمود)؛ وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية رقم (100) لسنة 1985م أن الأحكام القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية إن لم يُنَص عليها، فإنه يُحكَم فيها بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، ما عدا ما استُثنِيَ مِن ذلك.
وهو ما أفتت به دار الإفتاء المصرية سابقًا؛ في عهد الشيخ بكري الصدفي بتاريخ جمادى الأولى 1328هـ، وبنحوه في فتوى أخرى للشيخ حسن مأمون بتاريخ أول رمضان 1378هـ الموافق 10 مارس 1959م.
وعلى ذلك: فليس للولي أن يطلِّق زوجة المحجور عليه لجنون، وإن رأى ذلك فله رفع الأمر إلى القاضي للنظر فيه، فالقاضي وحده هو من يملك إيقاع الطلاق في مثل هذه الحالة إذا تَحَقَّق عنده ما يوجب الطلاق شرعًا.
ثالثًا: أما فيما يتعلق بحدود ولاية ولي المعاق ذهنيًّا على زوجة المعاق وأولاده: فالوليُّ قائم مقام المعاق الذي هو تحت ولايته في رعاية شؤون زوجته وأولاده؛ فسبب نصب الولي هنا: هو صيانة ناقص الأهلية، والتصرف له بما فيه الأَحَظّ له، ولذلك فإنه ينوب عنه فيما كان سيباشره من قرارات وأمور تتعلق بنفسه وأسرته لو كان عاقلا.
وكلام الفقهاء دال على هذا صراحة ولزومًا فيما يتعلق بالمجنون، ولا فرق بين المجنون والمعاق ذهنيًّا؛ بجامع نقصان الأهلية في كلٍّ؛ من ذلك:
ما ذكروه من أن ما يَتَعَلَّق بزوجة المجنون من نفقة وكسوة إنما تستوفيها من وَلِيِّه. كما أنه هو الذي ينظم قَسم المجنون بين زوجاته إن كان له أكثر من زوجة؛ جاء في "مختصر خليل" وشرحه "منح الجليل" للشيخ محمد عليش من كتب السادة المالكية (3/536، ط. دار الفكر): "(و) يجب (على وليّ) الزوج البالغ (المجنون) الذي له زوجتان أو أكثر (إطافته) على زوجتيه أو زوجاته؛ بأن يُدخله على إحداهما عَقِب غروب الشمس، ويبقيه عندها إلى غروب شمس اليوم الذي يليها -أي: الليلة السابقة-، فيخرجه من عندها ويُدخله على أخرى كذلك، وهكذا، كما يجب عليه نفقتهن وكسوتهن؛ لأنها من الحقوق البدنية التي يتولّى وليُّه استيفاءَها له أو تمكينَه منها حتى يستوفِيَها).اهـ.
ومنه: ما قاله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح منهج الطلاب" (2/ 548- 549، ط. دار الفكر -مع حاشية الجمل-): "(ولو أحرم رقيق) ولو مكاتبًا (أو زوجة بلا إذن) فيما أحرم به (فلمالكِ أمرِه) من سيد أو زوج (تحليلُه) بأن يأمره بالتحلل؛ لأن تقريرهما على إحرامهما يعطل عليه منافعهما التي يستحقها، فلهما التحلل حينئذ".اهـ.
قال العلامة الجمل معلقًا في حاشيته عليه (2/ 548): "(قوله: فلمالك أمره.. إلخ) نعم، لو سافرت معه وأحرمت؛ بحيث لم تُفَوِّت عليه استمتاعًا؛ بأن كان محرمًا، ولم تطل مدة إحرامها على مدة إحرامه، فليس له تحليلها على الأَوجَه. وكذا لو أحرمت بنذر معين قبل النكاح مطلقًا، أو بعده بإذنه، أو بقضاء فوري، ولوليّ زوج أو سيد المنع مطلقًا".اهـ، فهذا النَّص من العلامة الجمل يبين أنه لو قام بالشخص ما يوجب قيام ولاية الغير عليه -كما في المجنون والمعاق ذهنيًّا- فإن هذا الولي له أن يتدخل بمنع زوجة المولى عليه من إكمال الإحرام في الصورة المذكورة، وليس ذلك إلا لأنه يقوم مقام موليِّه في الإذن والمنع.
وقد بحث فقهاء الشافعية أيضًا مسألة هل يمتنع على زوجة المجنون صوم التطوع مع حضوره أو ينوب عنه وليه في الإذن وعدمه؟ أو يقال: إن كان الاستمتاع يضره أذن لها وليه، وإن كان ينفعه أو لا يضره فلا؟ قال العلامة الشهاب الرملي في حاشيته على "أسنى المطالب" (3/ 435، ط. دار الكتاب الإسلامي) بعد أن ذكر هذا: "وفيه احتمالٌ، قاله الأَذرَعي". اهـ.
فكأنَّ ترددهم بين اعتبار الولي في الإذن وعدمه، وبين حكمهم بعدم جواز صوم زوجة المجنون في التطوع مع حضوره، منشؤه تنازع أمرين:
الأول: أن الأصل في الولي أنه كما ينوب عن المجنون في إدارة شؤونه فكذلك ينوب عنه فيما يتعلق بإدارة شؤون أسرته.
والثاني: أن المجنون لا يصح إذنه، وقد تتجدد عليه دواعي الوطء، وهذا أمر لا مدخل لوليه في ضبطه، فلم يمكن رد السماح للزوجة بالصوم إلى إذن الولي، أو يمكن أن يعتبر إذن الولي إذا كان المجنون يتضرر بالوطء؛ لأن الإذن في هذه الحالة سببه حجب الضرر عن المجنون، فهو تصرف بما تقتضيه مصلحته، بخلاف ما إذا كان ينفعه أو لا يضره؛ لاحتمال تجدد الدواعي، وتضرره حينئذ بالامتناع.
ومنه: ما قاله العلامة البهوتي في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 147، ط. عالم الكتب): "(ولوَلِيّ مجنونٍ) طَلَّقَ بلا عِوَضٍ دون ما يملكه وهو عاقل ثم جُنَّ (في عدتها رجعتُها، ولو كرهت) المطلقةُ ذلك؛ لقيام وَلِيِّه مقامَه؛ خشية الفوات بانقضاء عدتها".اهـ، وهذا تصريح منه بأن الولي يقوم مقام المجنون الذي تحت ولايته.
رابعًا: أما السؤال عن حكم الزواج من المعاق ذهنيًّا إذا كان يُخفي غرض الحصول على منفعة مادية من ورائه، فنقول: إن هذا ليس زواجًا بين طرفين كاملي الأهلية، بل أحد العاقدين هو ولي لأحد الزوجين نيابة عنه لنقص أهليته، وولايته توجب عليه التصرف بما فيه النفع المحض لموليه، كاكتساب مهر أو تحصيل نفقة أو سكون نفس وعلاج روح، وغير ذلك. فإذا قام الولي بتزويج موليه -مثلا- بأركان تامة ولكن مع علمه أو غلبة ظنه بحصول منفعة مادية للطرف الآخر بلا مقابل مظنون لموليه لكان تصرفه ساقطًا غير معتبر؛ لأنه لم يتصرف له بالأَحَظِّ، ويكون العقد مفسوخًا؛ لتصرفه على غير مقتضى الولاية. فصحة زواج المعاق ذهنيًّا منوطة بكون نصيبه من الزواج هو الأَحَظّ له دائمًا، وإلا لم يقع العقد صحيحًا.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (7/ 290، ط. دار إحياء التراث العربي) في تزويج المحجور عليه: "(وينكح بمهر المثل)؛ لأنه المأذون فيه شرعًا، أو بأقل منه، فإن زاد لغا الزائد (مَن تليق به) من حيث المصرف المالي، فلو نكح مَن يَسْتَغْرِقُ مهرُ مثلِها مالَه لم يصح النكاح، كما اختاره الإمام وقطع به الغزالي؛ لانتفاء المصلحة فيه، خلافًا للإسنوي. ويظهر أنه لو لم يستغرقه وكان الفاضل تافهًا بالنسبة إليه عرفًا كان كالمستغرِق. ولو زَوَّجَ الوليُّ المجنونَ بهذه لم يصح على الأوجه؛ لاعتبار الحاجة فيه، كالسفيه، وهي تندفع بدون هذه". اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
حكم ثبوت المحرمية بإنزال لبن الرضاعة بالأدوية أو بالأجهزة الصناعية
السؤال
هل تثبت المحرمية بالرضاعة إذا كان إدرار اللبن بسبب دواء ونحوه، وليس بسبب ولادة؟ وهل يكون الحكم واحدًا لو كانت صاحبة اللبن ليست ذات زوج كأن تكون بكرًا أو مطلقة؟
الجواب
تحريم النكاح بالرضاع كالتحريم بالنسب؛ وذلك لما رواه الشيخان عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم مِن النَّسَب»، وكذلك فإن الرضاع يفيد جواز الخلوة والنظر، دون سائر أحكام النسب من الميراث والنفقة والولاية على النفس والمال، فلا تثبت بالرضاع؛ يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" [3 /415، ط. دار الكتاب الإسلامي]: "وتأثيره -أي: الرضاع- تحريم النكاح ابتداء ودوامًا، وجواز النظر والخلوة وعدم نقض الطهارة باللَّمس، وإيجاب الغرم وسقوط المهر، دون سائر أحكام النَّسب؛ كالميراث والنَّفقة والعتق بالملك وسقوط القصاص وَرَدِّ الشهادة" اهـ.
ولا خلاف بين الفقهاء في أنه يحرم على الرضيع من النساء من يحرمن عليه من النسب، وهن السبع اللاتي ذكرن في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 23]، فتحرم المرضعة على الرضيع؛ لأنها أمه، وآباؤها وأمهاتها من النسب أو الرضاع أجداده وجداته. وفروع المرضعة من الرضاع كفروعها من النسب، فأولادها من نسب أو رضاع إخوته وأخواته، سواء كانوا من صاحب اللبن -وهو زوج المرضعة الذي كان نزول اللبن بسببه- أم من غيره، وسواء من تقدمت ولادته عليه ومن تأخرت عنه؛ لأنهم إخوته وأخواته؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23]، فقد أثبت سبحانه وتعالى الحرمة والأُخُوة بين بنات المرضعة وبين الرضيع مطلقًا، من غير فصل بين أخت وأخت، وكذا بنات بناتها، وبنات أبنائها، وإن سفلن. وإخوتها وأخواتها من نسب أو رضاع أخواله وخالاته. وأبو صاحب اللبن جد الرضيع، وأخوه عمه، وكذا الباقي من أقارب صاحب اللبن على هذا القياس؛ فأمه جدته، وأولاده إخوته وأخواته وإخوته أعمامه وعماته؛ لما مر أن الحرمة تسري إلى أصول صاحب اللبن وفروعه.
ويشترط لحصول التحريم بالرضاع ألا يبلغ الرضيع حولين، فإن بلغ حولين لم يؤثر إرضاعه في التحريم؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: 233]، فجعل الله الحولين الكاملين تمام الرضاعة، وليس وراء تمام الرضاعة شيء [بدائع الصنائع 4 /6، ط. المكتبة العلمية]، ولما رواه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إنما الرضاعة من المجاعة»، ولما رواه الترمذي -وقال: هذا حديث حسن صحيح- عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام».
وهذا هو مذهب جماهير العلماء؛ قال الإمام الترمذي -بعد أن روى الحديث السابق- [3 /450، ط. الحلبي]: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم؛ أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا" اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه لصحيح مسلم" [10 /30، ط. دار إحياء التراث العربي]: "وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: لا يثبت إلا بإرضاع من له دون سنتين، إلا أبا حنيفة فقال: سنتين ونصف. وقال زفر: ثلاث سنين، وعن مالك رواية: سنتين وأيام" اهـ.
ويشترط لحصول التحريم أيضًا: أن تكون الرضعات خمسًا متفرقات فما فوقها، فما دون الخمس رضعات لا يؤثر في التحريم؛ لما رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن)، ثم نسخن بـ(خمس معلومات)، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن».
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب شرح روض الطالب" [3 /417]: "ولا أثر لدون خمس رضعات، روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: كان فيما أنزل الله في القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن)، فنسخن (بخمس معلومات)، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن؛ أي يتلى عليكم حكمهن أو يقرؤهن من لم يبلغه النسخ لقربه، والمعتمد في التعدد العرف" اهـ.
وقال الإمام الرملي في "نهاية المحتاج" [7 /176، ط. مصطفى الحلبي]: "وشرط الرضاع المحرم: خمس رضعات أو أكلات من نحو خبز أو عجن به، أو البعض من هذا والبعض من هذا؛ لخبر مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- بذلك، والقراءة الشاذة يحتج بها في الأحكام كخبر الواحد على المعتمد، وحكمة الخمس: أن الحواس التي هي سبب الإدراك كذلك، وضبطهن بالعرف؛ إذ لم يرد لهن ضبط لغة ولا شرعًا" اهـ بتصرف.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" [5 /149، ط. دار الكتب العلمية]: "ويجب في شهادة الإرضاع تذكر الوقت الذي وقع فيه الإرضاع، وهو قبل الحولين في الرضيع، وتذكر العدد، وهو خمس رضعات، ولا بد أن يقول: متفرقات؛ لأن غالب الناس -كما قال الأذرعي- يجهل أن الانتقال من ثدي إلى ثدي، أو قطع الرضيع للهو وتنفس ونحوهما وعوده رضعة واحدة" اهـ.
والتحريم يحصل بمجرد اللبن دون شرط الزوجية، لأن العلة في تحريم الرضاع هي الجزئية؛ بمعنى أن جزءًا من المرضعة صار جزءًا من الرضيع؛ قال السرخسي في "المبسوط" [5 /132، ط. دار المعرفة]: "بلغنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، وذكر عروة عن عائشة -رضي الله عنهما- هذا الحديث قال: «يحرم بالرضاع ما يحرم بالولادة» رواه مسلم، وفيه دليل على أن الرضاع من أسباب التحريم، وأنه بمنزلة النسب في ثبوت الحرمة؛ لأن ثبوت الحرمة بالنسب لحقيقة البعضية أو شبهة البعضية، وفي الرضاع شبهة البعضية بما يحصل باللبن الذي هو جزء الآدمية في إنبات اللحم وإنشاز العظم، وإليه أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم» أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من حديث عبد الله بن مسعود، وفيه دليل على أن الحرمة بالرضاع كما تثبت من جانب الأمهات تثبت من جانب الآباء، وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شبهه بالنسب في التحريم، والحرمة بالنسب تثبت من الجانبين فكذلك بالرضاع، لحديث عمرة عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، فسمعت صوت رجل يستأذن على حفصة -رضي الله عنها- فقلت: هذا رجل يستأذن في بيتك يا رسول الله، فقال: صلوات الله عليه: «ما أراه إلا فلانًا -عمًّا لحفصة من الرضاع-»، فقلت: لو كان فلان عمي من الرضاع حيًّا أكان يدخل علي؟ فقال: «نعم، الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» رواه البخاري، وفي حديث آخر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، إن أفلح بن أبي قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليلج عليكِ أفلح، فإنه عمك من الرضاعة»، فقلت: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل، فقال صلوات الله عليه: «ليلج عليك فإنه عمك» رواه مسلم، والعم من الرضاعة لا يكون إلا باعتبار لبن الفحل، والمعنى فيه أن سبب هذا اللبن فعل الواطئ، فالحرمة التي تنبني عليه تثبت من الجانبين كالولادة" اهـ.
قال العلامة القرافي في "الفروق" [3 /121، ط. عالم الكتب]: "وشُرِعَ الرضاعُ سببًا للتحريم؛ بسبب أن جزء المرضعة وهو اللبن، صار جزء الرضيع باغتذائه به، وصيرورته من أعضائه، فأشبه ذلك منيها ولحمتها في النسب؛ لأنهما جزء الجنين" اهـ.
وقال المحقق ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" [8 /284، ط. دار إحياء التراث العربي]: "وسبب التحريم بالرضاع: أن اللبن جزء المرضعة، وقد صار من أجزاء الرضيع فأشبه منيها في النسب، ولقصوره عنه لم يثبت له من أحكامه سوى المحرمية، دون نحو إرث وعتق وسقوط قود ورد شهادة" اهـ.
وعليه فالمنظور إليه شرعًا خصوص الإرضاع، دون اشتراط سبب مخصوص، سواء كان السبب ولادة أم دواءً أم جهازًا أم هرمونًا، ما دام الإنبات والإنشاز قد حصلا، وعلى هذا الجمهور مع اختلاف في كونها تسع سنين أو أقل، فلا يشترطون لثبوت التحريم بلبن المرأة أن يتقدم حمل، فيحرم لبن البكر التي لم توطأ ولم تحبل قط؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ [النساء: 23]، ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم، قال ابن عابدين في "رد المحتار" [2 /408، ط. إحياء التراث]: "ولبن بكر بنت تسع سنين فأكثر محرّم، وإلا فلا" اهـ.
وقال ابن رشد في "المقدمات": "تقع الحرمة بلبن البكر والعجوز التي لا تلد، وإن كان من غير وطء إن كان لبنًا، لا ماء أصفر" اهـ [بواسطة: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 2 /502، ط. دار الفكر].
ويقول الشيخ تقي الدين الحصني الشافعي في "كفاية الأخيار" [2 /85، ط. مصطفى الحلبي]: "الشرط الثالث: كونها محتملة للولادة فلو ظهر لصغيرة دون تسع سنين لبن لم يحرم، وإن كانت بنت تسع سنين حرم، وإن لم يحكم بالبلوغ؛ لأن احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنسب فيكفي فيه الاحتمال، ولا فرق في المرضعة بين كونها متزوجة أم لا، ولا بين كونها بكرا أم لا، وقيل: لا يحرم لبن البكر، والصحيح أنه يحرم، ونص عليه الشافعي" اهـ.
فإذا تزوجت هذه البنت بعد الرضاع، فزوجها يصير زوج أم الرضيع، لا أباه؛ لأنه لم يتسبب في اللبن فلا يصير لبن فحل، وبالتالي فهو ليس أبًا للرضيع.
وأما حكم تناول الأدوية أو غيرها لإدرار اللبن، فهو على أصل الإباحة، ما لم يحصل به ضرر راجح فيحرم حينئذ؛ للقاعدة الفقهية المقررة: أن الضرر يزال، وأصلها: ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لا ضرر ولا ضرار».
وبناءً عليه: فإن المحرمية بالرضاعة تثبت بمطلق اللبن النازل من المرأة، ولو كان سبب النزول دواء أو نحوه ولم يكن بسبب ولادة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم الهجرة غير الشرعية
المبـــــــادئ
1- للحاكم أن يَسُنَّ مِن التشريعات ما يراه محققًا لمصالح العباد.
2- اتفق العلماء على أن البحر إذا كان مظنة للهلاك لم يجز ركوبه.
3- حفظ النفس أحد مقاصد الشرع الخمسة التي تقع في مرتبة الضروريات.
4- نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم المُسلمَ أن يُذِلَّ نفسه.
5- لا يجوز خرق المعاهدات والعقود الدولية التي تنظم الدخول والخروج من بلد إلى آخر.
6- ثبت بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية حرمة التزوير.
7- الهجرة غير الشرعية بالطريقة المخالفة للقوانين والاتفاقات الدولية لا يجوز فعلها أو الإقدام عليها شرعًا.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 356 لسنة 2010م المتضمن:
ما حكم الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي نراه ونسمع به في بلادنا هذه الأيام؟
الجــــــــــواب
الهجرة في علم السكان هي الانتقال الفردي أو الجماعي من موقع إلى آخر؛ بحثًا عن وضع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو ديني أفضل.
وتكون الهجرة غير شرعية: إذا حدثت بشكل لا يسمح به البلد المهاجَر منه أو إليه أو هما معًا بها حسب القوانين الموضوعة للدخول والخروج، فهي صادقة على دخول شخصٍ ما حدودَ دولةٍ ما دون وثائق قانونية تفيد موافقة هذه الدولة على ذلك، ويتم ذلك عن طريق التسلل خفية عبر الطرق البرية أو البحرية أو باستخدام وثائق مزورة، وكذلك تَصدُق على الدخول بوثائق مؤقتة بمدة، ثم المكث بعد هذه المدة دون موافقة قانونية مماثلة.
ومنه يُعلَم أن الشرعية هنا ليست نسبة للشرع الشريف، إنما هي على معنى موافقة القوانين واللوائح المنَظِّمة لهذا الشأن.
ويطلق عليها أسماء أخر؛ منها: "الهجرة السرية" و"غير القانونية" و"غير النظامية" وهي أسماء لمُسمًّى واحد. ويقابلها: "الهجرة القانونية" أو "الشرعية" أو "النظامية"، وهي الهجرة بما يطابق قوانين الهجرة في البلدين المهاجَر منه والمهاجَر إليه عن طريق قنوات العبور، بواسطة أوراق قانونية.
وتعد الهجرة غير الشرعية ظاهرة عالمية ومشكلة رئيسة تعاني منها كثير من الدول؛ لما يترتب عليها من أضرار ترتبط بالخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمكانية لهذه الدول.
والهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحدث في بلادنا هذه الأيام تتضمن وتستلزم جملة من المخالفات والمفاسد، منها ما يلي:
أولا: ما في ذلك من مخالفة ولي الأمر، وهذه المخالفة غير جائزة ما دام أن ولي الأمر أو الحاكم لم يأمر بمُحَرَّم؛ فقد أوجب الله تعالى طاعة أولي الأمر؛ فقال تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡ} [النساء: 59]؛ قال العلامة ابن عاشور في "تفسيره" (5/97-98، ط. الدار التونسية للنشر): "أولو الأمر مِن الأمَّة ومِن القوم: هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنَّه مِن خصائصهم.. فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين، إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخِّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا: أهل الحَلِّ والعقد". اهـ.
وأخرج الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السَّمعُ والطَّاعةُ على الـمَرءِ الـمُسلِمِ فيما أَحَبَّ وكَرِهَ, ما لم يُؤمَر بمَعصِيةٍ, فإذا أُمِرَ بمَعصِيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعةَ»، والأدلة على هذا كثيرة.
وقد جاء في كتب السادة الشافعية أن وليَّ الأمر إذا أمر بمستحبٍّ أو مكروه أو مباح وَجَب فعله؛ قال الإمام ابن حجر الهيتمي في "فتاواه الفقهية" (1/278، ط. المكتبة الإسلامية): "قولهم: تجب طاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه ما لم يخالف حكم الشرع. والظاهر أن مرادهم بمخالفة حكم الشرع: أن يأمر بمعصية أو ينهى عن واجب، فشمل ذلك المكروه، فإذا أمر به وجب فعله؛ إذ لا مخالفة حينئذ. ثم ظاهر كلامهم: أن الصدقة تصير واجبة إذا أمر بها، وهو كذلك، لكن يتحقق الوجوب بأقل ما ينطلق عليه اسم الصدقة، كما هو ظاهر". اهـ. وسبب ذلك كله أن طاعة أولي الأمر سببٌ لاجتماع الكلمة وانتظام المعاش؛ فلا بُدَّ للناس مِن مَرجِعٍ يأتمرون بأمره؛ رفعًا للنزاع والشقاق، وإلا عَمَّت الفوضى واختل النظام العام، ودخل على الناس فساد عظيم في دينهم ودنياهم.
فللحاكم أن يَسُنَّ مِن التشريعات ما يراه محققًا لمصالح العباد؛ فإنَّ تَصَرُّف الإمام على الرعية مَنُوطٌ بالمصلحة، والواجب له على الرعية الطاعةُ والنُّصرة. ومَن أراد أن يهاجر من بلد إلى آخر فعليه الالتزام بالقوانين المتفق عليها بين الدول في هذا الشأن والتي أمر الحاكم بالالتزام بها ونهى عن مخالفتها، ومن ثم تجب طاعته على الفور ولا تجوز الهجرة خارج هذا الإطار الـمُنظِّم لها.
وقد نَصَّ القانون رقم 97 لسنة 1959م المعدَّل بالقانون رقم 78 لسنة 1968م في شأن جوازات السفر على أنه لا يجوز لمصري مغادرة البلاد أو العودة إليها إلا إذا كان حاملا لجواز سفر، ومن الأماكن المخصصة لذلك، وبتأشيرة على جواز سفره، ويُعاقب مَن يخالف أحكام هذا القانون بالحبس مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين جنيهًا.
ثانيًا: ما يكون في بعض صورها من تعريض النفس للمخاطر والهلاك من غير مُسَوِّغ شرعي، حيث يُخاطِر المهاجرون بركوب البحر بمراكب غير مُرَخَّص لها بالإبحار في أعالي البحار لعدم صلاحيتها لذلك، وبالرغم من عدم صلاحيتها فإنها تُحَمَّل أكثر من سعتها، وتسلك دروبًا بحرية خطرة -يتجنبها الملاحون في الظروف العادية-؛ اتقاءً لمراقبة خفر السواحل، فهم بهذا يقامرون بأرواحهم بعلمهم بخطورة هذه الوسيلة وكونها مظنة للتلف والغرق، ثم إصرارهم بعد ذلك على ركوبها، مما يجعلهم مقصرين في الحفاظ على أنفسهم مُورِدين إياها موارد الهلاك، وقد اتفق العلماء على أن البحر إذا كان مظنة للهلاك لم يجز ركوبه؛ قال الإمام الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (1/234، ط. وزارة الأوقاف المغربية): "ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه". اهـ.
وحفظ النفس أحد مقاصد الشرع الخمسة التي تقع في مرتبة الضروريات، وقد جاءت نصوص الشريعة في النهي عن تعريض النفس للهلاك؛ من ذلك:
قوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ} [البقرة: 195]؛ قال العلامة ابن عاشور في تفسيره (2/214، ط. الدار التونسية للنشر): "ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة: النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يُجتَنى منه المقصود". اهـ.
وقوله تعالى: { وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ} [النساء: 29]؛ قال الإمام القرطبي في تفسيره (5/156، 157، ط. دار الكتب المصرية): "وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية: النهي أن يَقتل بعض الناس بعضًا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصدٍ منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال؛ بأن يَحمل نفسَه على الغَرَر المؤدِّي إلى التلف". اهـ.
ثالثًا: ما يترتب على هذا النوع من الهجرة من إذلال المسلم نفسه؛ فإن الدخول إلى البلاد المهاجَر إليها من غير الطرق الرسمية المعتبَرة يجعل المهاجِرَ تحت طائلة التَّتَبُّع المستمر له من قِبَل سلطات تلك البلد، فيكون مُعرَّضًا للاعتقال والعقاب، فضلا عما يضطر إليه كثير من المهاجرين غير الشرعيين من ارتكاب ما يُسِيء إليهم وإلى بلادهم، بل وأحيانًا دينهم، ويعطي صورة سلبية عنهم؛ كالتسول وافتراش الطرقات.
وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم المُسلمَ أن يُذِلَّ نفسه؛ فقد روى الترمذي في جامعه -وحسَّنه- عن حذيفة بن اليَمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَنبَغي للمؤمِن أَن يُذِلَّ نَفسَه قالوا: وكيف يُذِلُّ نَفسَه؟ قال: يَتَعَرَّض مِن البلاء لما لا يُطِيق».
وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن أَعطى الذل مِن نَفسِه طائعًا غير مُكرَه فليَسَ مِنَّا».
رابعًا: ما في هذه الهجرة من خرق للمعاهدات والعقود الدولية التي تنظم الدخول والخروج من بلد إلى آخر، وقد روى الترمذي في جامعه -وقال: "حسن صحيح"- عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المسلمون على شُروطِهم، إلا شَرطًا حَرَّم حَلالا، أو أَحَلَّ حَرامًا»؛ قال العلامة المُناوي في شرحه للحديث في "فيض القدير" (6/272، ط. المكتبة التجارية الكبرى): "(المسلمون على شروطهم) الجائزة شرعًا؛ أي: ثابتون عليها واقفون عندها، وفي التعبير بـ(على) إشارة إلى علو مرتبتهم، وفي وصفهم بالإسلام ما يقتضي الوفاء بالشرط ويحث عليه". اهـ.
خامسًا: ما يكون في بعض صورها من تزوير وغش وتدليس على سلطات الدولتين المُهَاجَر منها والمُهَاجَر إليها، وهو من باب الكذب، وهو: الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عليه، والأصل فيه التحريم؛ وقد قال الله تعالى: { فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ } [الحج: 30]، وفي هذه الآية أمر صريح مؤكد باجتناب الزور.
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا».
سادسًا: ما تستلزمه هذه الهجرة من تعاون على المعصية غالبًا؛ فقد يلجأ المهاجر لمن يزور له أوراقه، أو يلجأ لمن يعينه على الوصول والدخول إلى وجهته بسلوك دروب الهلاك، كل هذا نظير أجرة محددة، وقد قال تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ} [المائدة: 2]؛ قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية (2/106، ط. دار طيبة): "يأمر تعالى عبادَه المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو: البر، وترك المنكرات، وهو: التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم". اهـ.
وهذه الأسباب قد تجتمع كلها في صورة واحدة، وقد يتخلف بعضها في بعض الصور، لكن لا تخلو صورة من صور الهجرة غير الشرعية عن مفسدة منها، وتحقق آحادها في صورة كافٍ للقول بالمنع والتحريم، وعليه: فإن الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحصل في بلادنا الآن لا يجوز فعلها أو الإقدام عليها شرعًا.
حكم المظاهرات والاعتصامات
المبـــــــادئ
1- من القواعد المقررة شرعا أن الأصل في الأفعال نفي الحرج حتى يدل الدليل على خلافه، وأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد.
2- الأصل في المظاهرات والاعتصامات الجواز بشرط الخلو من المحاذير الشرعية، وقد تعتريها باقي الأحكام الخمسة بحسب مقصدها ووسيلتها. وحكم المشاركة فيها بحسب حكمها.
الســــــــــؤال
ما الحكم الشرعي في المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات؟
الجــــــــــواب
المظاهرات جمع مظاهرة، وهي: تجمع طائفة من الناس في العلن لتظهر مطلبًا أو أكثر من الحاكم غالبًا، والغرض منها إظهار أن المطلب ليس مطلبًا فرديًّا وإنما هو مطلب جماعي. فالتظاهر تعاون بين المتظاهرين، وتقوٍّ بين أفرادهم، وهذا نفسه المعنى اللغوي؛ ففي "مختار الصحاح" [مادة: ظ هـ ر ]."(الْمُظَاهَرَةُ) الْمُعَاوَنَةُ و(التَّظَاهُرُ) التَّعَاوُنُ وَاسْتَظْهَرَ بِهِ اسْتَعَانَ بِهِ". اهـ.
فالتظاهر مكون من أمرين كل منهما في نفسه يعد جائزًا بمجرده؛ أولهما: مجرد الاجتماع بالأبدان؛ إذ الأصل في الأفعال نفي الحرج حتى يدل الدليل على خلافه.
الأمر الثاني: المطالبة بتحقق أمر مشروع، أو رفع أمر مكروه؛ فالمظاهرة بهذا وسيلة لهذا، والوسائل تأخذ حكم المقاصد. والأصل في طلب الحاجات من الحاكم أنه مشروع؛ فولي الأمر قائم لقضاء حوائج الرعية، ولذا رهَّب النبي صلى الله عليه وسلم من احتجاب أصحاب الولايات دون أصحاب الحاجات، فروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ، وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ، وَفَقْرِهِ»، وروى أحمد أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ عَنْ أُولِي الضَّعَفَةِ وَالْحَاجَةِ احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". بل قد رغب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الشفاعة لقضاء حاجات الناس، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ». ومعنى الحديث: توسلوا في قضاء حاجة من طلب أو سأل يكن لكم مثل أجر قضاء حاجته.
وأخرج البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ، حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا المِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ» ، فَقَالَ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَجِدُونَ أثرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي عَلَى الحَوْضِ» قَالَ أَنَسٌ: «فَلَمْ يَصْبِرُوا».
وفي الحديث دليل على التحدث في أمر يتعلق بطلب من الحاكم على مستوى الجماعة؛ لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
على أنه ينبغي التنبه إلى أن هذا الجواز مشروط بعدة شروط ومضبوط بعدة ضوابط، منها:
1- ألا يكون موضوعها المطالبة بتحقق أمر منكر لا يجيزه الشرع.
2- ألا تتضمن شعارات أو ألفاظا يحرمها الشرع.
3- ألا تتضمن أمورًا محرمة من نحو إذاية الخلق أو الاعتداء على ممتلكات الناس أو الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء.
والاعتصامات شأنها شأن المظاهرات في الحُكم والضوابط، ويدل على مشروعيتها: ما رواه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه جاره، فقال: يا رسول الله إن جاري يؤذيني. فقال: «أَخرِج متاعك فضعه على الطريق» فأخرج متاعه فوضعه على الطريق فجعل كل من مر عليه قال: ما شأنك؟ قال: إني شكوت جاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخرج متاعي فأضعه على الطريق فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم اخزه، قال: فبلغ ذلك الرجل فأتاه فقال: ارجع فوالله لا أؤذيك أبدًا.
وأما قول من قال إن المظاهرات ممنوعة لأنها بدعة غربية، فغير مقبول، لأنها ليست من العبادات حتى يقال إنها بدعة، فإن قيل: المقصود أنها من بدع العادات الواردة إلينا من الغرب، فالجواب: أن هذا أيضا غير صحيح؛ لأن المظاهرات عرفها المسلمون في مختلف أمصارهم وأعصارهم قديما، وكانت تستعمل مع الولاة أحيانًا، وأحيانا مع المحتل الغاصب؛ وقد أخرج أبو نُعيم في حلية الأولياء [4 /324، ط. السعادة ] عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: "نِعْمَ الشَّيْءُ الْغَوْغَاءُ، يَسُدُّونَ السَّيْلَ، وَيُطْفِئُونَ الْحَرِيقَ، وَيَشْغَبُونَ عَلَى وُلَاةِ السُّوءِ".
كما أنه ليس كل ما ورد إلينا من الغرب مذموم مرذول، ففي الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَنْ يَقْرَءُوا كِتَابَكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ. وقال الطبري عن عمر: وهو أول مَنْ حمل الدِّرَّة، وضرب بِهَا، وهو أول من دون لِلنَّاسِ في الإِسْلام الدواوين، وكتب الناس عَلَى قبائلهم، وفرض لَهُمُ العطاء. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ بْنِ نُقَيْدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي تَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: تَقْسِمُ كُلَّ سَنَةٍ مَا اجْتَمَعَ إِلَيْكَ مِنْ مَالٍ، فَلا تُمْسِكْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: أَرَى مَالا كَثِيرًا يَسَعُ النَّاسَ، وَإِنْ لَمْ يُحْصَوْا حَتَّى تَعْرِفَ مَنْ أَخَذَ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ، خَشِيتُ أَنْ يَنْتَشِرَ الأَمْرُ. فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ جِئْتُ الشَّامَ، فَرَأَيْتُ مُلُوكَهَا قَدْ دَوَّنُوا دِيوَانًا، وَجَنَّدُوا جُنْدًا، فَدَوِّنْ دِيوَانًا، وَجَنِّدْ جُنْدًا، فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ. تاريخ الطبري (4 /209) وله شواهد.
ووجه الدلالة واضح، وهو الاستفادة من بعض أمور الملك من الأمم الأخرى مما لا ينافي شريعتنا.
والخلاصة: أن المظاهرات والاعتصامات جائزة من حيث الأصل، وقد تعتريها باقي الأحكام الخمسة بحسب مقصدها ووسيلتها. وعليه فتكون المشاركة فيها بحسب حكمها.