إن المسلم في هذا العصر ينبغي أن يعود إلى مصادره الأولى، وأن يعلم أبناءه الأسس التي عليها قام دين الله، وأن يؤمن بأنه لو عرفها وطبقها وصدقها وآمن بها سينال سعادة الدارين الدنيا والآخرة.
إن معنا كنزا مخفيا، ألا وهو القرآن، عرفناه من آبائنا وتلقيناه من أساتذتنا وشيوخنا، وتربينا عليه حتى صار مألوفا في قلوبنا واضحا في أذهاننا، إلا أن الألفة قد أخفت رونقه وكادت أن تنسينا أهميته، فلم نعد نتكلم فيه وإن كنا في أمس الحاجة إلى أن نعيد ونزيد فيه مرة بعد أخرى، وأن ننبه إليه وأن نرشد عليه. وهنا أتسائل أطال الأمد فقست قلوبنا أم ألفناه بيننا فصدقناه تصديقا باهتا أخفى عنا رونقه.
فمن الأسس التي تميز المسلم عن غيره أنه يؤمن بالوحي. بيد أن أقواما في هذا العصر لا يريدون أن يؤمنوا بالوحي؛ فافترق المؤمن عنهم بإيمانه ووجدانه، فخافوه وحاولوا أن يدمروه لأنه يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى عباده المرسلين.
فنظر المسلمون إلى وحيهم، إلى كتابهم، فوجدوه منزها عن التحريف، ونظروا إلى أوامر الله ونواهيه فوجدوها خالية من الكهنوت، ونظروا إلى الإسلام في جملته وتفصيله فوجدوه دينا يدعو إلى السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة؛ فلم يرض واحد من المسلمين أن يترك الإيمان بالوحي، إلا أنه تحت ضغوط الحياة الدنيا وسفاهة السفهاء من الناس اختلط الحابل بالنابل، وأصبح كثير من المسلمين يتناقض أول كلامه مع آخره، فأوله يلزم منه إنكار الوحي وآخره يلزمن منه الإيمان بالوحي، وأوله يؤمن بالوحي صريحا ثم يتكلم كلاما يخرج عما أمر به الله ونهى عنه رسوله الكريم، فاضطرب حال المسلمين!
روى ابن حبان في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال: أنزل القرآن على رسول الله، فتلا عليهم زمانا، فقال: يا رسول الله، لو قصصت علينا، فأنزل الله: الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ [يوسف :1-3]، فتلاها عليهم رسول الله زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا، فأنزل الله:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ "[الزمر :23] كل ذلك يؤمرون بالقرآن. قالوا: يا رسول الله، ذكرنا، فأنزل الله: " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" [الحديد:16]. ماذا يقال بعد ذلك سوى: بلى، بلى يا ربنا قد آمنا ونشهد بإنا مسلمون. " تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ" [الجاثية :6].
ينبغي عليك أيها المسلم أن تبدأ بنفسك، وأن تعود إلى الإيمان الصافي بالوحي، واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى لأنبيائه ورسله عبر التاريخ، وبعث في كل أمة رسولا أمره فيها بالتوحيد، وأمره فيها بالبلاغ، وأمره فيها بعمارة الأرض، وأمره فيها بتربية الإنسان، وأمره فيها بأن يتفاعل مع تلك الأكوان، وأمره فيها بكل خير لهم، وجعل لكل منهم شرعة ومنهاجا.
فلتعلم أن الله سبحانه وتعالى أوحى لعباده الأنبياء والمرسلين، قال لنا سبحانه وتعالى:" وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ" [الشورى :51] فالله سبحانه وتعالى يكلم عباده المؤمنين من الأنبياء والمرسلين بطرق ثلاثة: الطريق الأول أن يوحي إليهم(وَحْيًا). فعن عائشة أم المؤمنين أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنهم أجمعين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال قال له:" يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيصم عني وقد وعيت عنه ما قال"(صحيح البخاري). وصلصلة الجرس: صوت حاد يهز وجدانه، صلى الله عليه وسلم، ويجعله في حالة -كان الصحابة يرونها- يتفصد عرقا ولو كان في اليوم البارد.
أما عن الطريقة الثانية، فيقول صلى الله عليه وسلم:"ويتمثل لي الملك أحيانا رجلا فيكلمني، فأعي ما يقول"(صحيح البخاري). كان يأتيه سيدنا جبريل عليه السلام في صورة رجل كان معروفا عند الصحابة الكرام، وهو دحية الكلبي، وكان دحية من سراة الناس- أي: أشرافهم ذوى المروءة- شديد الجمال في وجهه نظيفا في ثوبه، واختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون من سفرائه، فكان سفيره برسالته إلى قيصر الروم"(أخرجه البخاري عن ابن عباس).
وتحكي أمنا عائشة، رضي الله عنها، عن الطريقة الثالثة فتقول أن" أول ما بدئ به النبي من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إِلاّ جاءته مثل فلق الصبح"(صحيح البخاري)؛ وظل هكذا ستة أشهر يرى كل يوم ما سيكون في غد، ومن كثرة هذه الرؤى لم يرد لنا منها شيء؛ لأن ورودها كان سيحكي ما يكون في كل يوم في حياة النبي وفي حياة قريش وفي حياة مكة في تلك الشهور الستة! كان الصادق الأمين كل يوم يرى في المنام فيصبح فيرى ما رآه في المنام في الواقع؛ يهيئه ربه لأن يتلقى عنه سبحانه، يهيئه ربه لتلقي الوحي، يهيئه ربه لتحمل الرسالة والأمانة، فكان لا يرى رؤيا إلا وقد جاءت مثل فلق الصبح.
وهناك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في معجزة من معجزاته في إخباره بالغيب:"الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة"(صحيح البخاري) فلما حسبوا مدة الوحي وجدوها ثلاثة وعشرين عاما، كان منها ستة أشهر رأى فيها الرؤيا الصالحة التامة التي كانت تأتي مثل فلق الصبح، أي أن ما رآه صلى الله عليه وسلم كان جزءا من ست وأربعين جزءا من مسافة الوحي- وقد حكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداءُ النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وهو يخبر بذلك قبل أن يعرف متى موته، وهو يخبر بذلك صحابته الكرام وهو لا يعرف متى الساعة؛ فصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
تقول أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقالك اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال:" اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ،خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ،اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ" فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع"(صحيح البخاري).
الوحي هو القضية التي بيننا وبينهم، الوحي هو ذلك المألوف الذي قد نسيناه، الوحي هو القضية الفاصلة التي ينبغي أن توضع ونؤمن بها جميعا، من أراد أن يؤمن بالإسلام فلا بد عليه أن يؤمن بالوحي، لا مجرد أن يعرف أن الإسلام يدعو إلى الإيمان بالوحي!! فالمعرفة شئ والتصديق شئ آخر؛ التصديق هو الإيمان بالإذعان والتسليم، التصديق أن تجعل هذا هو المعيار الذي تقيس به الأمور، التصديق أن تجعل هذا هو المنطلق الذي منه البداية، قال الله جل في علاه" اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "[العلق 1-5]. لخص لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كل شيء، لخص له طريق المعرفة في قراءة الوحي، وفي قراءة الكون الذي يحيط بنا، لخص إليه البسائط الإلهية، والمركبات الوجودية الإنسانية.
وهذه هو سنة الله في خلقه وكونه. فالله سبحانه وتعالى يبدأ في خلقه من البساطة فإذا بالشيء يركب ويعقد وينمو نموا مذهلا عجيبا؛ فالبذرة الملقاة في الأرض تخرج شجرة، ومن الحيوان المنوي المهين يخرج إنسان له عقل وله وجدان، شيء مذهل!
إيمانك بالوحي يجعلك إنسان حضاريا سواء كنت عالما أو متعلما، سواء أكنت قارئا أم جاهلا، يجري الله الحكمة على لسانك من تلك البسائط الإلهية؛ لأنك آمنت بما أراد أن تؤمن به وصدقت فعرفت الحقيقة على وجهها؛ فأنت بذلك إنسان وأنت بذلك رباني وأنت بذلك عبد لله.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحدا في مسيرة أولئك الأكرمين من الأنبياء والمرسلين" إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" [النساء163-164].
أكرم الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الوسائل الثلاثة في الوحي، فكلمه من وراء حجاب ليلة المعراج "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى* عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:1-16] هذا تصوير يهز المشاعر ويربي الناس على بداية الطريق، على الإيمان بالوحي، فالوحي هو الأساس.
نحن نريد أن نلقى الله سبحانه وتعالى وهو عنا راض، نريد أن ندخل جنة ربنا، نريد أن يعفو عنا وأن يشملنا برحمة منه، لا نريد دنياهم التي يريدون أن نقاتلهم عليها، إنما نريد أن نهديهم بإذن ربهم إلى أقوم طريق، إلى صراط الحميد، وأن ننبههم إلى ذلك الوحي الذي لا نؤمن به إلا بالإيمان بالله منزل الكتاب، وإلا بالإيمان بالنبي المنزل عليه الكتاب، وإلا بالكتاب الذي هو الوحي، فالقضية هي هذه، وممن أدركها شيخ الإسلام مصطفى صبري فألف كتاب ناصعا كبيرا وسماه:(موقف العقل والعلم والعالم من دين رب العالمين وعباده المرسلين) وجاء بهم على المحك"تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ"[آل عمران :64] فهل يستجيب البشر؟
هذه هي القضية؛ ابدءوا .. البدار البدار! علموا أولادكم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، علموهم أن ذلك الإنسان الكامل كان محل نظر رضا الله، وأنه كان يوحي إليه ربه بما يريد، وأن الله قد رباه فأصبح عبدا لربه، وأن الله قد قبله عنده، وأن الله جعله صادقا أمينا لم يكذب في كلام الناس قط تهيئة لتبليغ الوحي عن رب العالمين إلى عباده وإلى العالمين.
الوحي درس من الدروس فراجع نفسك فيه، وثبته في قلبك، وجدد إيمانك به، واجعله منطلقا عندك لتقويم ما حولك عسى الله أن يعلمنا عبور بحر الظلمات الذي ابتلينا به، عسى الله أن ينقذنا وأن يخرجنا منها على خير حتى نلقى الله تعالى وهو عنا راض، عسى الله سبحانه وتعالى أن يهدي الناس إلى أقوم طريق، وأن يعيد الإيمان إلى قلوب كثير من أولئك الذين تشككوا وضلوا.
ونحمد الله تعالى أن من علينا بذلك الرسول الكريم، ومن علينا بأن هدانا إلى الإسلام، ومن علينا أن أنقذنا من ضلالة الشرك. وكثير من الناس في العالم لا يعرفون حقيقة الإسلام لكثرة ما شوهه أعداؤه، وكثير منهم لما عرفوه آمنوا وأسلموا، فهذا كنز بين أيديكم فلتبدءوا به.
ابدءوا في هذا الطريق المنير، والله وضعنا فيه من غير حول منا ولا قوة؛ ولم يخرجنا مشركين ولا ملحدين، إنما منّ علينا بالحنيفية السمحاء، فطرة الله التي فطر الناس عليه، بالإسلام؛ فكان أعظم نعمة يمنها علينا، ونعم ربنا- سبحانه وتعالى- لا تنتهي