اشتدت الحاجة في ذلك العصر للعودة إلى المصادر الأولى، والأسس التي قام عليها دين الله، اشتدت الحاجة إلى أن نعلم أبنائنا تلك الأسس وأن الإيمان بها يحقق سعادة الدارين، فنحن معنا كنز مخفيُّ عرفناه من آبائنا وتلقيناه من أساتذتنا وشيوخنا وتربينا عليه حتى صار مألوفا في قلوبنا واضحا في أذهاننا إلا أن الألفة قد أخفت رونقه وأخفت أهميته، فلم نعد نتكلم فيه وإن كنا في أحوج الحاجة إلى كثرة الكلام فيه مرة بعد أخرى.
من الأسس التي تميز المسلم عن غيره أنه يؤمن بالوحي، وسمات العصر الحديث تخلو من الإيمان بالوحي، فحدث الافتراق الكبير بين ثقافة المسلمين وغيرهم، وأصبح اللقاء والتفاهم صعبا، وذلك لغياب المشترك أو أرضية التفاهم، فالمسلم لا يتصور أرضية عوراء تنظر إلى الوحي باعتباره خرافة أو أفيون أو أنه علاقة شخصية لا يجوز لها أن تخرج في حياة البشر وتؤثر فيها.
فهم يريدون جعل النسبية المطلقة هي السائدة فلا معيار ولا ميزان وذلك لإنكار الوحي، ولذا فقد تميز العصر بشعور عام من النسبية، وأن الحق يمكن أن يتعدد، والمسلمون يرون أن الحقَّ لا يمكن أن يتعدد، وأن الحق واحد، وهذه النسبية أثَّرت في الآداب، والفنون، والسياسة، والاجتماع، وسائر أنشطة الحياة، والإيمانُ بالمطلق كان سمة العصور الماضية في كل الأرض حتى سُمِّي بعصر الإيمان faith age.
ولقد بدأت المسألةُ مع "هيجل"، حيث حاول أن يوجِدَ حلاًّ لبعض المشكلات الفلسفية التي تنشأ بالأساس في ذهن الإنسان عند تخليه عن الوحي أو إنكاره له، وتدرج ما قاله "هيجل" إلى هذا الشعور بالنسبية التي تحكم في التصرفات والسلوك، وملخص فلسفة "هيجل": أن الله موجود، والكون موجود، والحداثة التي يدعون إليها تعني الاهتمام بهذا الكون، إذن هناك طرح يقضي على الخلاف، ويجعل رأينا واحدًا وهو أن نجعل الله حلاً في هذا الكون، فيصبح الكون هو الله، والله هو الكون، وهذا يعني أن الماديين على صواب لأنهم لا يرون إلا الكون، ثم جاء ماركس فأخذ فكرة الجدلية من هذه الفلسفة وأنزلها على الاقتصاد والدولة.
ثم قال نيتشه: إن الله ليس هناك - يعني ليس خارج الكون - واعتبر أن الله الذي يدعو له هيجل مات؛ لأنه ليس موجودًا، فوافق هيجل في عدم وجود الله خارج الكون، ثم قال إذن فهو ليس موجودًا، والهدف وراء ذلك أن الوحي أيضًا ليس له حقيقة إذا كان صاحب الوحي مات، فيصبح الوحي والرسالات أسطورة كبيرة، ويكون ليس هناك إلا هذا الكون، وهذا يشير لأمر عجيب، وهو ما يميز العقل أو ما يُسمَّى سمات العقل.
فنلاحظ مدى الارتباط بين تنحية الألوهية وإنكار الوحي، فالغاية الأساسية هي إنكار الوحي للخروج من التكليف والالتزام بالشرع، وأقوى السبل لإنكار الوحي هو إنكار الألوهية، ولقد أثر إنكار الألوهية على مختلف نواحي الحياة، ففي مجال الطب، فلم يعد الطبيب يدرس المريض دراسة كلية، ولم يعد يعالج أسباب المرض، بل اهتم بالقضاء على أعراضه، ولم يعد يراعي أحوال البيئة، ولكنه نزعه انتزاعا منها، وأذهبه إلى المعمل، وتقلص الاعتماد على ما خلقه الله في هذه الطبيعة من غذاء ودواء، ثم اكتشف علماء الطب هذا المعنى، فحاولوا أن يبحثوا عن فنون العلاج في هيئة أخرى سميت بالطب البديل، وشعبت إلى نحو ثلاثين بندًا، وبدأت المدارس والأفكار والآراء تختلف حول ذلك؛ لأنها لم تنتظم في رؤية كلية واحدة، فكثير ممن دخل إلى فنون العلاج دخلها من باب المادة وكثير ممن دخل من باب المادة دون أن يسيطر القلب على العقل، ولا العقل على السلوك لم يجد لها فائدة مثل ما في الطب الحديث من فوائد مادية مبشرة، وكأن فنون العلاج قد فقدت شرطها.
فالمسألة أكبر من أن تحل من غير عودة العقيدة، فترى نظامًا يعتمد الإبر الصينية، وترى نظاما آخر يتهمها بالدجل، وعلى كل حال، فعندما استعمالها الصينيون استعملوها من خلال نظام متكامل، ليس من الحكمة أن ينزع منه، ثم نبحث عن النتائج مع فقدان الشروط.
ولقد أثرت هذه الرؤية عندما فقد من منظومة التفكير قضية الألوهية في مجال الاقتصاد الذي أصبح مجالا للزيادة الكمية ابتداء من تعريف المشكلة الاقتصادية بأنها كثرة الحاجات بإزاء قلة وسائل الإشباع النسبية، حيث سنرى في مشكلات في تحديد معنى الحاجة، ومعنى الندرة، ومعنى النسبية، مما يترتب عليه جعل علم الاقتصاد قيميا يحتاج إلى القيم، ويمكن وصفه بالإسلامي أو البروتستاني أو الشيوعي كما فعل بعضهم، وكلما نزعت قضية الألوهية من مجال من المجالات رأيناه يغلق على نفسه، ويسير في اتجاه واحد، ويقطع ما بين الإنسان وما بين تراثه الإيماني، في حين أن الله سبحانه وتعالى قد خلق بعض العلامات حتى يدلنا بها على حقائق بسيطة أغفلها الكثيرون، ومنها الدائرة، فمن سار في اتجاه واحد فإنه يخرج عن حد الدائرة دون أن يشعر.
لقد أخطأت العلمانية خطأ فادحا عندما نحت قضية الإله، بدعوى أن ذلك سيؤدي إلى حرية الاعتقاد من ناحية، وسيؤدي إلى عدم تنازع أصحاب الأديان المختلفة من ناحية أخرى، وتوصلت إلى هذه النتيجة بناء على التعصب بين أهل الأديان، والحرب المستمرة التي وقعت بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد، أو بين أتباع ديانتين لأسباب عقائدية غلفت بالسياسة، أو غلفت السياسة بها.
وكان يمكن الدعوى إلى الحفاظ على تراث الإنسانية، والحفاظ على عصور الإيمان بشكل يمنع هذا التعصب، ويرفع ذلك النزاع بما يشبه دعوى الحوار في عصرنا هذا، ولكن العلمانية لم تكن قادرة على ذلك، وحذفت ذلك الصراع والنزاع، وحذفت معه قضية الألوهية، ولما لم تستطع أن تحذفها بتمامها من قلوب الناس ومن سلوكهم قامت بتحنيتها إلى الهامش، وجعلت ذلك أساسًا من أسس نظرة العلمانية للكون والإنسان والحياة.
ولما نحيت قضية الألوهية نحيت الشعبة الثانية من شعب الإيمان، وهي الإيمان بالرسل الكرام، هذه التنحية التي ترددت بين الإنكار المطلق للوحي، وبين تهميش الشرع أي شرع من حياة الناس العامة، وجعل الإيمان بالوحي مسألة شخصية لا يسأل الفرد عنها، ولا يحاسب عليها حتى اعتبروا ذلك جزءا لا يتجزأ من الحرية.
وإنكار الوحي لا يستلزم إنكار الإله، بل إنه يكون حينئذ إلهًا ساكتًا خلق الدنيا وخلق فيها الإنسان، وترك الإنسان لهواه يقدر مصالحه بنفسه، ويدرك مضار تصرفاته ومنافعها عن طريق اللذة والألم، فيما يسمى بالدين الطبيعي الذي دعا إليه الموسوعيون في القرن الثامن عشر حتى قامت الثورة الفرنسية، مع فولتير وجان جاك روسو، وديدورو وأمثالهم.
وطبقا لما أورده الإمام البيهقي في كتابه الجامع لشعب الإيمان، فإنه يتكلم عن شعبة الإيمان الثانية، وهي الإيمان بالرسل الكرام منذ آدم -عليه السلام- الذي هو أول البشر، والذي علمه الله الأسماء كلها، فكان هذا العلم، هو اتصال بين اتصال بين الإله الخالق، وبين الإنسان المخلوق، وكان هذا العلم هو أول وحي يؤسس معرفة الإنسان، ويكون مصدرا لهذه المعرفة، تضاف إلى معرفته بالكون المحيط، ومن المعرفتين : المعرفة بالوحي، والمعرفة بالكون، تتكون المعرفة الصحيحة الكاملة، التي تهدف إلى عبادة الله، وعمارة الكون، وتزكية النفس، إلى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والإسلام جعل مصدر المعارف الإنسانية من خلال قراءتين، أن القراءة الأولى في الوجود والثانية في الوحي، وأنهما قد صدرا عن الله، الأولى من عالم الخلق، والثانية من عالم الأمر { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ([1])، وعلى هذا فلا نهاية لإدراك الكون؛ حيث إنه يمثل الحقيقة، لأنه من عند الله، ولا نهاية لإدراك الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنتهي عجائبه، ولا يَخلَق من كثرة الرد»([2])، وأيضًا لا تعارض بينهما حيث إن كلاًّ من عند الله، وهذا التأسيس يتأكد في قوله تعالى على صفة الإطلاق: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ([3]).
وفي نفس السياق تأتي قضية القراءتين، وهو أن هناك قراءة للقرآن، وقراءة للأكوان، تشير إليها آيات سورة العلق، وهي أول ما نزل، حيث كرر الله فيها الأمر بالقراءة، وعلَّق الأولى على الخلق والثانية على الوحي، فقال تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } ([4])، والقلم إشارة إلى الوحي، كقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}([5])، نرى هنا أنه بدأ بالخلق وثنَّى بالوحي، وكأن الإنسان لابد عليه أن يطلع العالم وما حوله ليكون قادرًا على فهم الوحي، وكذلك لابد عليه من إدراك الوحي إدراكًا صحيحًا من أجل أن يغيِّر واقعه نحو التغيير الصحيح؛ ولذلك نرى أن الخلق والأمر يتكاملان في دائرة واحدة يصح أن نبدأ من أي نقطة منها فنصل إلى تمامها، ونرى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ } ([6]) فيه إشارة إلى تلك الدائرة.
فمن ترك علم الأكوان وصل بعقله إلى عقلية الخرافة، ولا يستقيم له أبدًا فهم الوحي، ومن ترك علم القرآن أو ترك الوحي بجملته فإنه لا يقل في انتمائه إلى العقلية الخرافية عن ذلك الأول.
فالعقلية الخرافية عرجاء تسير على قدم واحد، أو عوراء ترى بعين واحدة، فهي ناقصة على كل حال، والعقلية العلمية هي تلك التي استوفت معرفتها من الأكوان، ومن الوحي، ومن هنا نعرف أي جريمة يرتكبها ذلك الذي ينحي الشعبة الثانية من شعب الإيمان، وهي الإيمان برسل الله سبحانه وتعالى، ومن هنا أيضا نفهم مراد الله من قوله في القرآن الكريم : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) ([7]).
ونلاحظ هنا أيضا أن الله سبحانه وتعالى وهو يبين لنا الحقائق ويأمرنا بالإيمان بالله وبرسله، فإنه ينبهنا أيضا على حرية الفكر وحرية العقيدة واختيار الإنسان، فيرحل الحساب على هذا النوع من أنواع الإباء والكفر إلى الآخرة، ولا يجعله مجالا للنزاع والخصام في الدنيا، وهو الأمر الذي افتقده كثير من أتباع الأديان وافتقدته العلمانية وهي تنحي الدين كوسيلة للوصول إلى السلام الاجتماعي، فالله يقرر سوء إنكار الحقائق، ويصف الأشياء بأسمائها، وأن ذلك هو الكفر الحقيقي، ولكنه يجعل جزاء ذلك يوم القيامة، أما في الدنيا، فإنه يقول لنا : (لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) ([8])، ويقول : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ([9]).
ويقول سبحانه وتعالى : (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) ([10]).
ولأن بعضهم يظن أن لازم الكلام تبعا للكلام نفسه، فيظن أننا عندما نصف هذا بالكفر حقًا، أن النزاع والخصام لازم على ذلك، والأمر ليس كذلك، بل أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتعايش، وهذا الظن والخلط بين المذهب ولازم المذهب، وبين الكلام ولازم الكلام نراه على ألسنة المتطرفين، كما نراه على ألسنة كثير من العلمانيين والكاتبين، ولذلك فإن كلا من الطرفين يتصور النزاع، فالمتطرف يتصوره وينفذه، والعلماني يتصوره وينكر من أجل تصوره هذا، وخوفا من النزاع والصراع الدين كله، والحقيقة أن تصورهم هذا هو الباطل، وأن استلزامهم غير دقيق، جاء من أنهم اعتادوا القراءة العابرة، لا القراءة المتأنية التي يعلمها الأزهر في مناهجه كمنهج لفهم النصوص الشرعية.
ولقد أبرز ذلك الخلاف الثقافي بين العلماني والمثقف المسلم قيمة الوحي، فالمسلم يعتز بالوحي الذي شرفه الله به، ويفخر به، وينطلق منه للحياة، ويعلم أنه سبب في رقي البشرية الأخلاقي والاجتماعي وفي كل المجالات. (يتبع)
([1]) من الآية 54 من سورة الأعراف.
([2]) أخرجه الترمذي في كتاب «فضائل القرآن» باب «ما جاء في فضل القرآن» حديث (2906)، والدارمي في كتاب «فضائل القرآن» باب «فضل من قرأ القرآن» حديث (3332) من حديث علي بن أبي طالب t.
([4]) الآيات 1: 4 من سورة العلق.
([6]) الآيات 1: 3 من سورة الرحمن.
([7])الآية 150 من سورة النساء .
([8])الآية 256 من سورة البقرة .