كنا أشرنا في نهاية المقال السابق للمبادئ العشرة الخاصة بكل علم. فقد وضع التراث الإسلامي ما يسمى بالمبادئ العشرة من أجل أن يطلع عليها طالب العلم؛ ليتشوف للعلم الذي سوف يدرسه، أو ليعرف ما لابد له من معرفته، وهي بذاتها هي العناصر التي يجب الالتفات إليها عند توليد العلوم.
ووضعها بعضهم في صورة نظم يحفظه صغار الطلاب حتى يحدث لهم هذا التشوف الذي انحسر بعد ذلك عند المسلمين في التلقي دون إنشاء العلوم واستمرار الفكر قال :
من رام فنا فليقدم أولا |
** |
علما بحده وموضع تلا |
وواضع ونسبة وما استمد |
** |
منه وفضله وحكم معتمد |
واسم وما أفاد والمسائل |
** |
فتلك عشر للمنى وسائل |
وبعضهم فيها على البعض اقتصر |
** |
ومن يدري جميعها انتصر |
فالمبادئ العشرة هي تعريف العلم، وموضوعه، ومن الذي وضعه، ونسبته إلى العلوم الأخرى، ومن أي العلوم يستمد، وأحكامه ومسائله، وما فضله وما حكمه وما اسمه، وما الثمرة والفائدة المترتبة عليه ؟ فهذه العشرة تعد مدخلا للعلم تدفع طالب العلم إلى التشوف لدراسته وتحصيله، وهي بنفسها التي يمكن للمفكر إذا أراد أن يبني علما أن يحددها كبداية لاستقلال العلوم أو إبداعها.
ومن أراد أن يطلع على مثال نولد به علما يخدم الإسلام والمسلمين فليبدأ في علم يمكن أن نطلق عليه علم الخطاب الإسلامي، وما أشد الحاجة إلى هذا العلم الذي يدرسه الخطيب والمدرس والداعية والمتصدر للإفتاء والمرشد الديني الذي يتخذه الناس أسوة حسنة؛ فإذ بهم يدركون كيف يتعاملون مع الناس، ويشعرون بمشكلاتهم، وبكيفية الدخول إليها من المدخل الصحيح، ونحن نسمع كثيرا عن اعتراض الناس على كثير من الخطباء والدعاة، وعلى تلك الحالة من الفوضى التي اكتنفت الفضائيات، وهذه الحالة من الفوضى التي اكتنفت الصحافة في التعامل مع الدين، ولو كان مثل هذا العلم موجودا بهذه الصفة التي سنشرحها لكان المرجع والمقياس الذي يقاس عليه لمعرفة الخطأ من الصواب، ولكان الضابط المانع لأي انحراف أو قصور أو تقصير، والدافع للآداء المتميز المستمر الذي يؤتي أكله كل حين بإذن ربه.
والعلوم تتمايز موضوعاتها، وموضوع العلم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية حتى تتكون المسائل في هذا العلم من الموضوع والوصف المناسب له، والمسائل هي الجمل المفيدة التي عرفناها في اللغة العربية في علم النحو وغيره، والتي تتكون إما من مبتدأ وخبر، وإما من فعل وفاعل وكلاهما واحد في الدلالة على الجملة المفيدة التي يستفيد منها سامعها مراد المتكلم من كلامه، ولذلك نرى البلاغيين والمناطقة يجعلونها واحدا، فيسمي البلاغيون ركني الجملة : المسند والمسند إليه، ويسمي المناطقة ركني الجملة : الموضوع والمحمول.
فموضوع علم الطب جسم الإنسان من حيث الصحة والمرض، وعلى ذلك يكو جسم الإنسان مبتدأ وما يعرض عليه من أحوال الصحة والمرض وكيفية العلاج وأسباب ذلك كله هو الخبر الذي يكون الجمل المفيدة في علم الطب، فجسم الإنسان مسند إليه (مبتدأ أو فاعل) فهو موضوع، وما يخبر عنه هذا المسند (خبر أو فعل) وهو محمول أي محمول على ذلك الموضوع، فقولنا جسم الإنسان يمرض بالميكروب، ويصح بالدواء جمل مفيدة تكون العلم، وكذلك علم الفقه موضوعه فعل الإنسان المكلف مثل الصلاة والزكاة أو حتى السرقة والقتل، ويأتي الخبر في صورة الحكم فنقول الصلاة واجبة، والسرقة حرام، واللغو مكروه، فتكون هذه الجمل مسائل علم الفقه.
فما موضوع الخطاب الإسلامي، يمكن أن نجعل موضوع (تبليغ الدعوة) وهنا سنحتاج إلى تجديد مفهوم التبليغ، وأنه مكون من ثلاثة أركان : المتكلم والسامع والرسالة أو الخطاب أو الكلام، ونبدأ في بيان صفات المتكلم، والشروط التي يجب توافرها فيه، والعلوم التي يجب أن يتزود بها، والحقائق التي يجب أن يعرفها، والأدوات التي يجب أن يمتلكها والطرق والمناهج والمصادر والكيفيات التي يجب أن يتحقق بها، والسامع ما أنواعه وما مستوياته، وطريقة الاتصال التي تناسبه، ووسائل القياس لبيان تحقيق الهدف معه، والوسائل التي من خلالها الاتصال، والتي تتواءم مع السامع بأنواعه، ثم ننتقل إلى الخطاب فندرس شكله ومضمونه وأنواعه وأساليبه ولغته ومستواه وقياسه وتقويمه واختلافه وتطوره وترتيبه، ثم ننتقل لدراسة مفهوم الدعوة وخصائصها التي تعطي الخطاب المجرد مذاقا آخر، وخصوصية قد لا تكون في غيرها من أنواع الخطاب وكيفية وصل القول بالعمل، والماثل الصالح والمشكلات التي تكتنف ذلك وطرق معالجتها أو التعامل معها أو الوقاءة منها … الخ.
كل ذلك يحتاج إلى علوم أخرى نستمد منها علمنا الجديد، منها علوم الاتصال Communication وقياسات الرأي العام، والإعلام Media Information ، وعلم الخطابة وعلوم الشريعة واللغة والسيمانتيك Semantics وتحليل المضمون والأبحاث الميدانية، مع الاستعانة ببعض الأدوات التي تستعمل في العلوم الاجتماعية والإنسانية من الرصد والتحليل والجداول والمنحنيات ووسائل الإيضاح، وكذلك استغلال المتاح من وسائل الإطلاع كشبكة المعلومات الدولية والقنوات الفضائية والأساليب النفسية في علم نفس الجماهير وعلم نفس الاتصال .. . الخ.
فإذا وضعنا حد العلم وعرفنا موضوعه، وحددنا العلوم التي نستمد منها مسائله وظهر لنا فهرس موضوعاته، وأطلقنا عليه اسما بيننا، فإننا نعالج فوائده وثمراته وما يترتب عليه، وكيفية استعماله ويجب أن يبنى بهيئة مفتوحة يمكن معها الزيادة فيه وتطويره وتجديده وتوليد علوم أخرى منه حتى نستقل بالدرس، ونضع أقدامنا على أرض صلبة ونحن ندعوا إلى الله. قال تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ) [يوسف : 108].
وتنفيذاً لهذه الآية وحتى ندعو على بصيرة يجب أن ندعو على علم، وأن ننشئ ذلك العلم يدرس للمتصدرين للدعوة في كل مكان، ويكون حجة لهم وعليهم، وهذا هو هدف دعوتي لتوليد العلوم حتى تعود الحضارة الإسلامية إلى سابق عطائها ولا نحتاج إلى أن نسمع من بعضهم التعبير بأنها كانت ولم تعد موجودة.
بعد ذلك سنجد مكانا لعلم الخطاب الإسلامي بين العلوم الاجتماعية من جهة وبين العلوم الشرعية من جهة أخرى، وسنعلم فضل هذا العلم وأن الاشتغال به من فروض الكفايات التي قد ترقى إلى فروض العين لمن تصدر للدعوة ونقل الدين لمن بعده.
أما واضع العلم فإنه سينسب إلى أول من ألف فيه، ولو ألفت جماعة مرة واحدة فسيحدث نزاع أيهم ألف أولاً، ونرجع إلى حلاوة النقاش العلمي والخلاف الثري الذي كان يحرك العقول ويربي النفوس على قبول الرأي الآخر، ويدرب الطلاب والعلماء على البحث وترتيب الأدلة واستجلاب البراهين وبيان جهة دلالتها، ويخرج العقل المسلم من إسار التقليد والجمود والأزمة الفكرية التي يمر بها إلى نوع آخر من العمق في الفهم والوعي بما يجري حوله، والقدرة على أن تهيئة الأجواء لعودة المجتهدين العظام مرة أخرى قادرين على عرض ما عندهم بالمنطق والبرهان الذي يوافق عليه الجميع حتى ولو لم يتخذوه سبيلا لهم، ولكن يحترمون المنهج ويؤكدون على صحته بغض النظر عن النتائج ومشارب البشر.
والحقيقة إن العلم لا يولد كاملا حتى علم العروض الذي ضبط به الخليل بن أحمد الفراهدي الشعر العربي لم يولد كاملا بالرغم من أنه كان شبه كامل إلا أننا رأينا الأخفش وهو يضيف إليه بحر المتدارك، ورأينا علماء هذا الفهم ينشئوا أوزانا أخرى، صحيح إنه لم يتكلم بها العرب، ولم ينقل من شعرهم شيء على أوزانها إلا أنها زادت في العلم، ووسعت من مفهوم الشعر كما أورده الدمنهوري في كتابه الكافي في العروض والقوافي، حتى ابتدع أمير الشعراء أحمد شوقي بعض الأوزان التي لم تكن من قبل فقال :
مال واحتجب ** وادعى الغضب
ليت هاجري ** يشرح السبب
وهو يسير على ما فعله الأندليسيون من قبل في كان كان والمواليا وغيرها.
توليد العلوم منهج مناسب للخروج العملي من الأزمة الطاحنة التي تمر بها الأمة، ومن منهج الصالحين أنهم ذهبوا إلى العلم بكل فنونه وأنواعه عندما هجم التتار على بلاد المسلمين، وكانت لا تزال مدن تحت سيطرة الصليبيين، ولندرس نموذج الإمام النووي الذي كان يعمل عشرين ساعة في اليوم لحفظ العلم ونقله لمن بعده، حتى إنه لم ينم على جنبه لمدة عامين، ولم يتزوج لكثرة انشغاله بالعلم حتى مات صغيرا لم يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره بحساب السنة الهجرية، ولنذكر نموذج النويري في (نهاية الأرب) والقلقشندي في (في صبح الأعشى) وابن منظور في (لسان العرب)، وغيرهم من أصحاب الموسوعات وكيف واجهوا الطغيان والعدوان وتقلب الزمان (يتبع).