ما زلنا في تلك المدرسة المحمدية التربوية نذكر أخلاقه، ونتعلم من سلوكه، ما تسمو به النفوس، ويستقيم به الحال، وذلك من نفحات ذكراه الشريفة، وذكرى مولده العطرة، وقد امتدح مولده الشعراء قديما وحديثا، فالبوصيري يقول
يا طيب متبدأ منها ومختتم |
|
أبان مولده عن طيب عنصره |
وشوقي يقول :
وفم الزمان تبسم وثناء |
|
ولد الهدى فالكائنات ضياء |
فهو الذي خلقه ربه ليخرج البشرية بأسرها من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، قال تعالى : (يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة :15 ، 16]. وقال سبحانه : (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ) [ إبراهيم :1]
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان وحده يدعو إلى ربه ولا أحد معه، وبدأ بدعوته حتى أصبح أكثر الأنبياء تبعا إلى يوم القيامة، بل أكثر البشر تبعا، فلم يعرف التاريخ القديم والحديث رجلا أتباعه أقوام بهذه الكثرة على مر العصور مثل نبينا صلى الله عليه وسلم.
والرجال تعرف بالحق، ولا يعرف الحق بالكثرة ولا الرجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والرجلين، والنبي وليس معه أحد» [رواه مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه] يعني ولا يضره ذلك أنه كان على الحق، ولابد من التغيير «ابدأ بنفسك ثم بمن يليك» [رواه مسلم والطبراني في الأوسط وبهذا اللفظ أخرجه العجلوني في كشف الخفاء].
والإسلام كما بدأ غريبا مستضعفا معتديا عليه يعود كذلك كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء» [رواه مسلم والترمذي]. وفي رواية الطبراني زيادة «قيل ومن الغرباء ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس» فوطن نفسك أيها المؤمن أن تكون من الغرباء المصلحين، ولا تكن إمعة فقد نهانا رسول الله عن ذلك فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تكونوا إمعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا) [رواه الترمذي والطبراني في الكبير].
وأمامنا فرصة أن نكون من أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم درجة ممن سبقونا، وإن كانوا هم في المنزلة الأعلى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «متى ألقى أحبابي؟. فقال بعض الصحابة: أوليس نحن أحباؤك؟ قال: «أنتم أصحابي، ولكن أحبابي قوم لم يروني وآمنوا بي أنا إليهم بالأشواق» [أبو الشيخ في الثواب] وفي زيادة الديلمي في مسند الفردوس بمأثور الخطاب : «أنا إليهم بالأشواق»
وعن رجاء بن حيوة رضي الله عنه قال : «كنا مع رسول الله معاذ بن جبل عاشر عشرة، قلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منا أجرا آمنا بك واتبعناك ؟ قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء ؟ بلى قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا» [رواه الطبراني وذكر الهيثمي أنه اختلف في رجاله]
فهلا دخلنا في دائرة الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلناه أسوتنا واتبعناه حقا، ففي زمن الغربة الأول، بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنهج البداية بالنفس، فقال صلى الله عليه وسلم : (ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول) [رواه مسلم وابن حبان].
ففي هذا الزمان يكون إصلاح النفس وتربيتها أولى من الانغماس في أمر العامة، ثم بعد هذه المرحلة يمكن أن يتدرج المؤمن للانغماس في أمر العامة لإصلاحهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» قال عبد الله بن المبارك : «قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم» [رواه الترمذي]
إذن علينا أن نبدأ بأنفسنا ثم بمن نعول، وأن نتحمل المسئولية عن أفعالنا، وعلمنا أن لا نبرر أخطاءنا، ويؤكد القرآن على ذلك المعنى فيما يقصه علينا من أخبار بني إسرائيل مع سيدنا موسى عليه السلام عندما أشرفوا على الدخول إلى الأرض المقدسة، وما دار بين سيدنا موسى عليه السلام وقومه من بني إسرائيل يقول تعالى :
(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الفَاسِقِينَ) [المائدة :21 : 26].
ما دلالة الأربعين ؟ قيل لأن في هذه المدة سيمر جيل بأكمله في إثر جيل، وأصبح الجيل جديد تربى على الشهامة والقوة، فموسى لم ييأس بدأ بنفسه ثم بأخيه، وبدأ في التربية وصبر على ذلك أربعين سنة، حينئذ تكون الجيل والذي دخل الأرض المقدسة بعد ذلك مع نبي الله يوشع عليه السلام.
نفس المنهج في الصبر والتربية كان في النموذج المحمدي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الدعوة وحده بمكة، ثم بدأ بالسيدة خديجة رضي الله تعالى عنها، ثم بعلي بن أبي طالب وكان في كنفه، وبدأ الدعوة من بيته، ثم أنذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر أقرباءه ومن حوله بالطائف، وبعد كل هذه المدة في مكة لم يسلم معه إلا نحو مائتي رجل، وفي المدينة لما ذهب بأولئك دخل الناس في دين الله أفواجا حتى رآهم يعينه في حجة الوداع أكثر من مائة ألف إنسان سوى الأعراب الذين في البادية، مائة ألف إنسان أسلم في عشر سنوات، و200 أسلموا في ثلاث عشرة سنة.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نبني الأجيال، وكيف نصبر على التربية والبناء، وكيف نحول الانكسار إلى انتصار، وكيف لا يحبط المسلم، بل يبدأ العمل من جديد، وكيف يكون الإنسان راع.
وقد يتساءل أحدهم لماذا لا يحب غير المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به بمجرد أن يعلموا أحواله وصفاته ؟ لأن المنصفين من غير المسلمين لا يريدون أن ينظروا إلى سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب على أنه رسول الله فيروا فيه النور الهادي، وإنما يرونه عظيم العرب، أو أحد أهم عظماء البشر على مر التاريخ، وهذا سبب قديم لعدم الهداية ربما كان منذ بداية خلق الإنسان.
فأهل الله يقولون لو رأى إبليس نور النبي صلى الله عليه وسلم في آدم لسجد وأطاع ربه، ولكنه رأى الطين رأى المادة ولم ير الحقيقة كأبي لهب فإنه رأى يتيم أبي طالب، ولم ير نبي الله صلى الله عليه وسلم الذي رآه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فالصحابة رأوا النور الهادي ورأوا الحقيقة فكان أبصر من غيرهم واستحقوا رفعة المنزلة بلقائه وهم على الإيمان.
وعودة إلى قصة خلق آدم عليه السلام نلاحظ الحفاوة الربانية بقدوم آدم، فالإنسان في القرآن ليس وراثا للخطيئة حتى يحتاج إلى نزول الإله في صورة بشر حتى يصلب ويقتل ويهان ليمحو خطايا البشر.
إن القرآن هدم تلك العقائد الفاسدة التي ترى الإنسان منبوذا مخطئا، فيؤمن المسلم بأن الإنسان مكرم غير مهان، يقول تعالى : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء :70].
نتعلم من رسول الله الكثير، ونستقي من سيرته الدروس والعبر التي تمكنا من النجاة في الدنيا والآخرة، ونحن في مناسبة مولده الشريف من المستحسن أن نذكر أدلة مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما يثيره بعض المشاغبين في هذه المناسبة من تبديع من يحتفل بمولده الشريف وتفسيقه، ولقد عانى من هؤلاء المشاغبين مشايخنا الكرام رضي الله عنهم.
فها هو الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم رضي الله عنه يقول في مقال له في مناسبة المولد النبوي : « الناس في استقبال ذكري المولد الشريف : أنماط ومستويات، ومذاهب وأخلاق، فمنهم من يستقبله فرحا : معبرا عن غبطته ، بما يوفقه الله إليه من قول طيب أو عمل مبرور ، مستبشرا مبشرا سواء ، متذكرا مذكرا بنعمة الله ، وحق رسول الله ، محدثا كان ، أو كاتبا أو شاعرا ، أو ممولا ، أو محبا صادقا ، له نصيب من الفيض والمدد.
ومنهم من لا يهتم بشيء في هذه الذكرى إلا بالتشغيب والمخالفة وتسفيه ما يندفع إليه الناس من المباحات بحكم حبهم الخالص لرسول الله ، فمن ذكر منهم نوره صلى الله عليه وسلم قالوا : كفر !! ومن ذكر معجزاته المختلفة ، قالوا : تخريف!! ومن انفعل بصيغ الصلاة والسلام عليه ، قالوا: ابتدع !! ومن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى العصمة ، قالوا : فسق !! ومن ذكر أبويه أو عمه صلى الله عليه وسلم بخير ، قالوا تزندق !! ومن حاول تمجيده صلى الله عليه وسلم قالوا : فجر !! ومن توسل به إلى الله ، قالوا : أِشرك ، ومن أحب آل بيته صلى الله عليه وسلم قالوا : تبطن ، ومن زار قبره أو قبور أبنائه ، قالوا : أوثن ومن ذكره بالسيادة أقاموا الدنيا وأقعدوها عليه !!» [مقالات كلمة الرائد]
انظر إلى أي حد كان من بيننا من يصدنا عن فرحنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال هناك من يريد شغلنا عن ديننا وعن ما أقره المسلمون سلفا وخلفا، ونبين أدلة الاحتفال بمولده الشريف في المقالة القادمة إن شاء الله تعالى (يتبع)